القرآنُ مناط سعادتكم ومُخرجُكُم من الفتن، فيه نبأُ ما قبلكم وخَبرُ ما بعدكم، وحُكم ما بينكم، هو الفصلُ ليسَ بالهزلِ، ما ترَكهُ من جَبارٍ إلا قصمهُ الله، ومن اِبتغى الهُدى في غيرِهِ أَضلَّهُ الله، حَبلُ الله المتين، وهو ذكرٌ حكيمٌ، وصراطٌ مستقيمٌ، لا تزيغُ بهِ الأَهواءُ، ولا تلتبسُ بهِ الأَلسِنة، ولا تشبعُ منهُ العُلماءُ، ولا يَخْلَقُ عن كثرة...
الحمد لله أكرمنا بالقرآن، وجعله ربيعًا لقلوبِ أهل البصائر والعرفان، محفوظًا بحفظ الله من الزيادة والتبديل والنقصان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ننال بها الغفران، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى الآل والصحب والإخوان وسلّم تسليما.
أما بعد فاتقوا الله عباد الله..
في رمضان أَذِن اللهُ للنور أن يتنزل، على النبي -صلى الله عليه وسلم- بغار حراء يقول جبريل له: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)[العلق: 1]؛ فأشرقت الأرض بنور ربها وانقشعت الظلمات (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[البقرة: 185].
إنه كتاب الله (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[النمل: 1-2]، يحميهم من تلاطم الأفكار وتغيُّر المفاهيم، ومواجهة الشبهات والشهوات، ومهما كان مقام الإنسان وعلمه، يحتاجُ لشدِّ أزره، ورسوِّ قدَمِه وزيادة إيمانهِ ويقينهِ، ويسليه ويواسيه إن أَلَمَّت به مصيبة، ويُرجِّيه ويَعِدُه بدل اليأس وينذره ويخوِّفه مع طغيان المادة أو سلطان الهوى والأمن من مكر الله -تبارك وتعالى-.. وثبات الإنسان وتسليم قلبه وأمن روحهِ في كتابِ الله، تلاوةً وتدبرًا وتعلمًا وعملاً فهو معين عذبٍ ضافٍ لا ينضب، وتكرارُ تلاوته تعطيك حلاوةً ورغبة ومع تدبرّه وتأمله تأخذ يقينًا وطمأنينة..
نزل القرآن في ليلةٍ مباركة هي ليلة القدر؛ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا)[الكهف: 1]، واصطفى الله لنزوله أفضل الأوقاتِ وأنسبُها.. رمضان والصيام والقيام مرتبطان، مقبلةً على الخير والإيمان، ومقبلةً على الجود وكان جبريل يدارس نبينا -صلى الله عليه وسلم- القرآن في رمضان كلّ ليلة وفي عام وفاته دارسه مرتين. (متفقٌ عليه).
وهذا دلالة على استحباب دراسة القرآن برمضان وسماعه وإسماعه وتلاوته والاجتماع على ذلك، ومدارسةُ جبريل للقرآن كانت ليلاً دلالة أنه أفضل (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا)[المزمل: 6].
والسلفُ في رمضان لم ينشغلوا بغيره. وكان الزهريُّ إذا دخل رمضان يقول: "إنما هو قراءةُ القرآن وإطعامُ الطعام"..
وكان مالك وسفيان الثوري إذا دخلَ رمضان يتركُ قراءةَ الحديث ويُقبل على القرآن.. وكانوا يختمونَهُ كلَّ ثلاث في رمضان، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "وخيركم من تعلم القرآن وعلَّمه"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق، له أجران" (متفق عليه).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله –تعالى- يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده" (رواه مسلم).
جاء النبيون بالآيات فانصرمت *** وجئتنا بحكيم غير منصرم
آياته كلما طال المدى جدد *** يزينهن جلال العتق والقدم
يكاد في لفظة منه مشرفة *** يوصيك بالحق والتقوى وبالرحم
القرآنُ مناط سعادتكم ومُخرجُكُم من الفتن، فيه نبأُ ما قبلكم وخَبرُ ما بعدكم، وحُكم ما بينكم، هو الفصلُ ليسَ بالهزلِ، ما ترَكهُ من جَبارٍ إلا قصمهُ الله، ومن اِبتغى الهُدى في غيرِهِ أَضلَّهُ الله، حَبلُ الله المتين، وهو ذكرٌ حكيمٌ، وصراطٌ مستقيمٌ، لا تزيغُ بهِ الأَهواءُ، ولا تلتبسُ بهِ الأَلسِنة، ولا تشبعُ منهُ العُلماءُ، ولا يَخْلَقُ عن كثرة الرد، ولا تنقضي عَجائِبه، من قال به صدَق، ومن عمل به أُجر، ومن حَكم به عدل، ومن دعَا إليه هُديَ إلى صراطٍ مستقيم، فتعلّموهُ وعلِمُوهُ أَولادكم وتدبروا آياته واحفظوها..
إنَّ أكثرنا عباد الله اِنشغل اليوم بالدنيا عن تعلم القرآن وبعضُ مجتمعاتنا لا تُعطي تعليم القرآن وقتًا كافيًا ولا عنايةً، ممَّا أَدَّى لِجهلِ بعضنا وأولادنا بالقرآنِ وابتعادهم عنه، فَتجدُ أَحدَهم يحملُ الشهاداتِ العُليا لا يُحسنُ قِراءةَ آيةٍ من كِتابِ اللهِ على الوجهِ الصحيحِ (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)[الفرقان: 30].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وتركُ تدبُرهِ وعَدم العمل به من هُجرانِه، والعدلُ عنه إلى غيره، من شعرٍ وغناءٍ من هُجرانه".. ولابن القيم -رحمه الله تعالى-: "هجر القرآن بهجر سماعه وتدبره وعدم الوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به"؛ فالله المستعان لأحوالنا اليوم وبُعدنا عن القرآن وتدبر معانيه وليتنا نعطيه جُزءًا من وقتِ أَجهزةِ الجوالِ وغيرها مَثلاً، ووالله ثم والله لو تدبّرنا القرآن وعملنا بما فيه لانحلَّت كَثيرٌ من مُشكلاتِنا..
فضائلُ القُرآنِ كثيرةٌ قال -صلى الله عليه وسلم-: "البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان" (رواه مسلم). وسورةُ البقرةِ وآل عمران تُظللانِ صاحبهما يوم القيامةِ وقل هو الله أحد تعدلُ ثُلثَ القرآنِ.. وخيرُ سورتينِ قرأهما الناس؛ قل أعوذ برب الناس، وقل أعوذ برب الفلق، وليست العِبرةُ بِكثرةِ القراءة والختماتِ بل بالفهمِ والتدبُرِ.
وفي رمضان يجتمعُ الصومُ والقُرآن؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ يومَ القيامةِ، يقول الصيام أَي ربِّ منعتهُ الطعامَ والشهواتِ بالنهارِ فشفِّعني فيهِ، ويقول القرآن ربِّ منعتهُ النومَ بالليلِ فَشَفِّعني فيهِ فيشفعانِ" (رواه أحمدُ).
قراءتُه تكون في التراويح والقيام، ليَسمعَ النَّاسُ كتابَ اللهِ مُجَوَّدًا مُرتلاً، فاُستُحبَ للإِمامِ أَن يَختمَ فيها ختمةً كاملة.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره عن حذيفة قال أتيت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في ليلة من رمضان فقام يصلي، فلما كبر قال الله أكبر، ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران، لا يمر بآية تخويف إلا وقف عندها فما صلى إلا ركعتين حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة..
وكان عمر قد أمر أبيَّ بن كعبٍ وتميمًا الداري أن يقوما بالناس في شهر رمضان فكان القارئ يقرأ بالمائتين في ركعة حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وكانوا ينصرفون آخر الليل، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال وبعضهم كل سبع لأجل تلاوة القرآن، وتعطير ليالي شهر رمضان بآيات القرآن؛ فقارنوا هذا بحال بعضنا وبعض أئمتنا هداهم الله ممن يختصر قراءته ويطيلُ القنوت خلافًا للسنة..
عباد الله.. أجر القرآن عظيم قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ آلم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْف" (رواه الترمذي).
وإن السعادةَ والطمأنينةَ في تعظيمِ كتاب الله، وتلاوته، والرجوع إليه واتباعه، والاهتداء بهديةِ، والشقاوةُ والتخبطُّ في الإعراض عنه والاستهانة به وهجره (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)[طه: 124- 126].
أيها الأحبة.. لعل رمضان يُذكِّرنا بضرورة العودة الصادقة إلى كتاب الله العظيم حيث القوةُ والعزةُ وأساسُ التمكين والرفعة، فيه الهدى والنور، من آمن به حق الإيمان وصدق به أخلص التصديق فقد هداه الله وآتاه من فضله وأعانه على كل خير.. هدىً للمتقين.. من هجره وأعرض عنه ولم يؤمن بمتشابهه ويعمل بمحكمه أضلّه الله وختم على قلبه وبصره.. فشمروا عن ساعد الجد، والعزم، لتكونوا مع القرآن بقراءاته وتفسيره وخدمته وإنشاء حلقاته وتعليم طلابه المهارة والإتقان والقرآنُ الكريم إخوتي ليس آياتٌ تهتزُّ لها الرؤوس وتتمايلُ بها العمائم ويطربُ لها الدراويش في الموالد والمآتم والاحتفالات بلا عبرة وليس آيات تُهذُّ هذَّ الشعر بل هو آيات بينات تتنزل على قلوب المؤمنين فتغمرها بالسكينة والطمأنينة.
وتدّبرُ آياتِ الله -عز وجل- ومعرفة مقاصدها والوقوف عند عظاتها وعبراتها والتفكير في معانيها وفقهها وأسرارها نعمة عظيمة لمن وفق؛ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الأنفال: 2]؛ يقول عبدالرحمن السلمي: "حدثنا من يُقرؤوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهم أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا فتعلمنا العلم والعمل جميعًا".
وقال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "لأَنْ أَقْرَأَ الْبَقَرَةَ فِي لَيْلَةٍ فَأَتَدَبَّرَهَا وَأُرَتِّلَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ القرآن أجمع".
وإذا انتكس الإنسان بعبثه ولهوه وغفلته حجبه الله –تعالى- عن نور القرآن، وحال بينه وبين الهدى والحق؛ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24]؛ فأين من يريد الرفعة بالقرآن فإن اللهَ يرفعُ بهذا الكتابِ أقوامًا ويضعُ به آخرين..
ووجودُ القرآن بيننا وتيسيرَ الحصول عليه لمن طلبه وتوفّره بالمساجدِ والبيوت والأجهزة ووجود حلقات تدريسه وتحفيظه لهي نعمة كُبرى تلزمنا الاستفادةَ منها ومن النعم إذاعته في الإذاعات.. وهو كذلك من أعظم قيام الحجَّة على من أعرض عنه، أو خالفه فقد قال الله لرسوله: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)[الأنعام: 19]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "القرآن حجة لك أو عليك".
عباد الله.. هذا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وفي بقيته للعابدين مستمتع، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا يتصدع، ومع هذا فبعض القلوب لا تخشع ولا عين تدمع فاقرؤوا القران يا عباد الله بتدبر وتفهم، وإذا مررتم بآية رحمة فاسألوا الله من فضله، وإذا مررتم بوعيدٍ فتعوّذُوا بالله من عقابه، وإذا مررتم بآية سجدة فاسجدوا؛ (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر: 29- 30]؛
أقول ما تسمعون...
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد..
عباد الله.. هاهنا تنبيهات على قراءة القرآن بالاهتمام بالطهارة والوضوء فلا يمسه إلى المطهرون، وبعضُ الناس يرفعُ صوته بالقراءة فيزعجُ من حوله وهذا خطأ، وكذلك القراءة الصامتة بالعين بلا تحريك للشفتين خطأ أيضًا، والقراءة من المصحف أفضل من الأجهزة وفي كلٍّ خير. وليتَ الواحدَ مِنَّا عند القراءة يخصِّصُ وقتًا للتدبر وتفسير بعض الكلمات الخافية عليه فهذا أفضل.
نسأل الله تعالى أن ينفعنا بالقرآن العظيم ويجعلنا من أهل القرآن وخاصته.. اللهم اجعلنا له من التالين ولآياته من المتدبرين العاملين، اللهم ذكِّرنا منه ما نُسِّينا وعلّمنا منه ما جهلنا.. واجعله ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومنا وأحزاننا يا أرحم الراحمين..
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وانصر جنودنا، واحم حدودنا، وجنبنا وبلاد المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي