صرنا نعيش في عصر يهتم كلُّ فردٍ بمصلحته الخاصة، تقطعت فيه الروابط والصلات، انشغل فيه الولدُ عن أبيه، وقُوطِعَ القريبُ، وكُلٌّ همُّه نفسُه، ألسنا نرى كثرة التقاطع في مجتمعاتنا بين الأقارب، إخوانًا وأبناء عمومة؟! ما هذا يا عباد الله؟! كلٌّ يشكو أقاربه؟ هذا يشكو، وتلك تبكي، وأخرى تشتكي أرحامٌ تقطعت، وأواصرُ إخوة زالت، وخصومات كثرت...
الحَمْدُ للهِ دَعَا للوَحْدَةِ وَالوِئَامِ، وَنَهَى عَنِ الشَّحْنَاءِ وَالخِصَامِ، وأشهد أن لا إله إلا الله جَعَلَ العَفْوَ وَالصَّفْحَ صِفَةً لأَهْلِ الإِيمَانِ، وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، دَعَانا للعَفْوِ فِي النِّزَاعَاتِ، وَحَذَّرَنا مِنَ الخُصُومَاتِ؛ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسلم تسليمًا.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَساوي عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ"؛(رواه الترمذي).
هل تخيلت البعوضة وهل ترى جناحها؟! فذلك أقل عند الله من هذه الدنيا المملوءة بكلِّ ما تراه!! والحديثُ يدعونا للتأمل بأحوالنا وعلاقاتنا فيما بيننا في هذه الدنيا التي لا تساوي شيئًا بل إنها بنص الحديث -أيضًا-؛ "معلونةٌ، وملعون ما فيها إلا ذكر الله –تعالى- وما والاه، عالمًا ومتعلمًا"، وهي (كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يونس: 24].
وإذا كانت الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ فما بالنا نتخاصم ونتعادى لأجلها!! لقد رأيت من أحوال الناس في ذلك عجبًا يتخاصمون لسنواتٍ طوال بلا مبالاة لأجل توافه! نعم والله.. لأجل تَوَافِه لا يلتقون ولا يتزاورون، ولا يسلِّمون على بعضهم، ويغتب بعضهم بعضًا لأجل توافه!!
خلافٌ مادي أو خطبنا منهم ابنتهم فلم يعطونا، قال لي الكلمة الفلانية!! يستهين بي!! أساء إليَّ!!؛ ثم يتقاطعون ويتدابرون ويتباغضون لسنوات!! بلا مصارحة ولا مصالحة رغم أن ديننا ينهى عن كل ذلك، ويأمرنا بالصفح والعفو والغفران وعدم التباغض والتدابر والهجران..
صرنا نعيش في عصر يهتم كلُّ فردٍ بمصلحته الخاصة، تقطعت فيه الروابط والصلات، انشغل فيه الولدُ عن أبيه، وقُوطِعَ القريبُ، وكُلٌّ همُّه نفسُه، ألسنا نرى كثرة التقاطع في مجتمعاتنا بين الأقارب، إخوانًا وأبناء عمومة؟!
ما هذا يا عباد الله؟! كلٌّ يشكو أقاربه؟ هذا يشكو، وتلك تبكي، وأخرى تشتكي أرحامٌ تقطعت، وأواصرُ إخوة زالت، وخصومات كثرت لأجل توافه؛ كأننا لا نتلو كتاب الله ولا نقرأ سُنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- الذي جاء فزعًا لخديجة بأول الوحي فتقول له: "كلا! والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتقري الضيف، وتصل الرحم".
يقول عمرو بن عبسة لما دخلت مكة سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بِمَ أرسلك الله؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يُوَحَّدَ اللهُ"؛(رواه الحاكم).
وجاءت الشريعةُ الغراءُ ذامَّةً للخصومة، فاضَّةً للنزاع، آمرةً بالعفو: (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف: 199]، وأمرنا الله (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[التغابن: 14]، (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)[الشورى: 43].
وحذَّرنا الإسلام من التجاوز في الخصومة والنزاع والخروج عن إطارهما المشروع، وهو طلَبُ الحقِّ؛ ومَنْ تجاوز ذلك يصبحُ فاجرًا بالخصومة ولديه علامة من النفاق؛ "إذا خاصم فجر"؛ أي: إذا اختلف مع أحدٍ وخاصمه؛ يكذبُ ويزيدُ، ويتَّهم ويخون، ويتشمّت بمصابه عياذًا بالله!!
يعلَمُ أنَّ الحقَّ ليسَ معه فيجادلُ بالباطل؛ يسبق لسانُه عقلَه، وطيشُه حلمَه، وظلمُه عدلَه، لسانه بذيء، وقلبُه دنيء، يتلذَّذ بالتُّهَم والتطاول والخروج عن المقصود.. يزيد على الحقِّ مائةَ كذبة، فبات كالذُّباب لا يقَع إلا على المساوِئ، حتى محاسنهم ينظر لها بعينِ عداوةٍ ولا يعدّها ذنوبًا أكّالاً للأعراض همَّازًا مشاءً بنميم معتديًا أثيمًا، وبأخلاقه لئيمًا هدانا الله وإياه..
لا أمانَ له ولا سِتر لديه، إن اختَلفتَ معه في شيءٍ حقير كشَف أسرارَك وهتَك أستارَك وأظهَر الماضي والحاضر، صديقٌ يكشفُ سِتر صاحبه بسبَبِ خُلف محتَقر! زَوجةٌ لم تُبقِ سرًّا لزوجِها ولم تذَر بسبَب خلافٍ تافه.. مع أنهم لو علموا جمال الصفح والعفو والستر على دينهم ونفوسهم لتقاتلوا من أجله (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[الشورى: 40].
أحبتي.. إن كلَّ الناس خطاؤون، والتعاملات بينهم توحِّد الخلافات، طبعًا ليس العيبُ في الخلاف؛ فهو واقعٌ لا مناصَ منه في النفوس والعقول والأموالِ والأعراضِ والدين؛ لاختلاف العقول والأفهام، والعجب أن بعضَ الناس ممن يقوم بالعبادات، ويشهد الجنائز ويقدم الصدقات، ويتحرّز من أكل الحرام والزّنا والظلم والسرِقة وغير ذلكم ولكن يصعُب عليه التحفُّظُ من لسانه فيفري في الأعراض يبغي على خصمه مع أن (اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90].
الفاجرُ في الخصومة ليس لديه حدٌّ ولا ضابِط فيها، غايته تبرِّر وسيلتَه، سواء أكان في بابِ الحقوق أو العَقائد أو الأخلاق، وواقعُ المسلمين اليومَ تراشقٌ مقروءٌ ومرئي ومسموع لا يُستثنى منه أحدًا مع الأسف، نِيلَ من العالم أو المسؤول والمواطن والمقيم، قلوبٌ مريضة، والخصومة تبيح لهم التطاولَ ليصِلوا للنوايا ونشر المستورَ، قلوبٌ مريضَةٌ عين الرّضا عندهم تَسترُ القبيحَ وعينُ العداوة تستقبح الإحسان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 11].
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ "أبغضَ الرجال إلى الله الألدُّ الخصِم"؛ كما قاله -صلى الله عليه وسلم- والألدّ هو.. الأعوجُ في الخصومة بكذِبه وزوره وميله عن الحق.. (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا)[مريم: 97]؛ مجادلون بالباطل ومائلون عن الحقّ جدلاً وخصومة.. ومَن أكثَر في المخاصمةَ وقع في الكذِب كثيرًا؛ يقول عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-: "مَنْ جعلَ دينَهُ عُرضةً للخُصومات أسْرعَ التَّنقُّل" أي: لم يستقرَّ على منهَج معين ولا مبدأ واضح.. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ خَاصَمَ في باطِلٍ وهو يعلمُه لم يزلْ في سخَطِ اللهِ حتَّى ينْزِع"؛(رواه أبو داود).
والعاقل مَن يبتعد عن خصوماتٍ تافهةٍ لا تفيد دينه ولا دنياه بل تضرهما.. وكذلك ابتعد عن جدالاتٍ عقيمة تورث الخصومة، وصدقوني أن الدنيا بكل ما فيها لا تساوي خصومات سنواتٍ بين إخوة وأقارب وصداقات.
عباد الله: تاريخُنا مملوءٌ بصورِ العدلِ والإنصافِ في الخصومةِ والاختلاف ما لا يُحْصَى نبدأ بقدوتنا -عليه الصلاة والسلام- الذي تقول عنه عائشة -رضي الله عنها-: "ما ضرَب -صلى الله عليه وسلم- شيئًا قطُّ بيده ولا امرأةً ولا خادمًا إلا أن يُجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيءٌ من محارم الله -تعالى- فينتقم لله تعالى"؛(رواه مسلم).
أبو بكر يُغضبُ عمر -رضي الله عنهما- فيذهب إليه ليصالحه فيرفض فيؤنبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على عدم مصالحته للصدِّيق الذي لما نيل من عرض ابنته عائشة في حادثة الإفك فمنع عن قريبه النفقة عقوبة فلما نزل قول الله(أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)فقال بلى والله إنا نحب ربنا أن تغفر لنا فعفا عنه وأرجع نفقته..
شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مع الرّازي، الذي وقَع في ضلالاتٍ عقديّة ومنكراتٍ منهجيّة؛ فخصّه بكتابٍ بلَغ عشرةَ مجلّدات يرد فيه على ضلالاته. ومع ذلك يقول عنه: "ومِن الناس مَن يسِيءُ الظنَّ بالرازي أنّه يتعمد الكلام بالباطل، وليس كذلك، بل تكلَّم بحسَب مبلغِه من العلم والنظر والبحث في كلّ مقام بما يظهر له".
الشيخ ابن سعدي -رحمه الله- كتب عنه البعض للولاة، فاستدعوه للمناقشة، فلما رجع ذهب لزيارتهم ليبين لهم أنه لم يحمل في قلبه عليهم شيئًا؛ رغم أنه لم يخطئ، فلا إله إلا الله!
نُفُوسٌ مُؤمِنَةٌ طاهرة استَنَارَت بِنُورِ الصِّدقِ وَالتَّصدِيقِ، وَوَجَدَت مِن بَردِ اليَقِينِ بِالأَجرِ مَا أَطفَأَ لَهِيبَ انتقامها، إِنَّهُم كِرَامُ النَّاسِ، يَقبَلُونَ العُذرَ وَيُقِيلُونَ العَثرَةَ، وَيَتَجَاوَزُونَ عَنِ الخَطَأِ وَيَدفِنُونَ الزَّلَّةَ، وَيَطوُون المَاضِيَ بتسامح، يُنَزِّهُونَ أَنفُسَهُم عَنِ تَوبِيخِ مَنِ اعتَذَرَ أَوِ الإِثقَالِ عَلَيهِ، فلا لوم ولا عتاب ابتِغَاءً لِلأَجرِ وَطَلَبًا لِلثَّوَابِ وَطَمَعًا في الرَّحمَةِ، فَيَا مَن يُرِيدُ أَن يُقِيلَ اللهُ عَثرَتَهُ وَيَتَجَاوَزَ عَن زَلَّتِهِ، أَقِلْ عَثَرَاتِ إِخوَانِكَ وَتَجَاوَزْ عَن زَلاَّتِهِم.
وَاعلَمْ أَنَّهُ –سُبحَانَهُ- كريمٌ رَحِيمٌ يُحِبُّ الرُّحَمَاءَ؛ فَلا تَكُنْ قَاسِيَ القَلبِ غَلِيظَ الطَّبعِ مُتَّبِعًا لِهَوَاكَ، مجادلاً خصيمًا اُطلُبِ الأَجرَ مِن رَبِّكَ، وَاسأَلْهُ أَن يَشرَحَ صَدرَكَ، وَاحذَرْ قَسوَةَ القَلبِ، رَبُّوا نُفُوسَكُم عَلَى العَفوِ وَالصَّفحِ، وَرَوِّضُوهَا عَلَى التَّسَامُحِ وَالرِّقَّةِ، وَعَوِّدُوهَا عَلَى الرَّحمَةِ وَالرَّأفَةِ، وَتَذَكَّرُوا أَنَّها صفةٌ لأَهلِ الجَنَّةِ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَهلُ الجَنَّةِ ثَلاثَةٌ -ذكر منهم- وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ القَلبِ لِكُلِّ ذِي قُربى وَمُسلِمٍ"، فما أعظمَ العدلَ والإنصافَ في الخصومة والاختلاف! وما أدنأ الظّلم والفجور والتجنّي فيهما!
والدنيا –والله- ما تسوى أن نختلفَ ونتخاصمَ ونتعادى، إذا اختلفت مع أحدٍ فصارحه وناصحه، وإذا لم يعجبك أسلوبه فلا تقاطعه أو تتكلّم فيه ولو أقللت مجالسته، أما العداوة والخصومة فليست من الدين ولا من الخُلُق.. ولقد أحسن من قال..
وإنَّ خِيَارَ النَّاسِ مَنْ كانَ مُنْصِفًا *** صَدُوقًا لبِيْبًا صَانَهُ الدِّيْنُ فَانْزَجَرْ
وَإِنْ شِرَارَ النَّاسِ مَنْ كَانَ مَائِلًا عَن *** الحقِّ إنَّ خَاصَمْتهُ مرَّةً فَجَرْ
وإذا كانت العبادات الاثنين والخميس تُؤَجَّل بسبب الخصومة والهجران يقول الله: "أنظرا هذين حتى يصطلحا"، و"لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"، "وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"، فما بالنا لا نعفو ولا نصفح؟!
إِنَّ دِينَنَا لَيسَ أَقوَالاً نُرَدِّدُهَا أَو شِعَارَاتٍ نُعلِنُهَا، ثم لا نُطَبِّقَ مِنهَا في الوَاقِعِ إِلاَّ مَا تُملِيهِ عَلَينَا أَهوَاؤُنَا وَتَشتَهِيهِ أَنفُسُنَا، بل هو عقيدة ننطلق منها وقِيَمٌ نَعتَنِقُهَا قَولاً وَعَمَلاً، وَمَبَادِئُ نَتَمَسَّكُ بها سِرًّا وَعَلَنًا، لإِصلاحِ أَنفُسِنَا، وَمَنهَجٌ مُتَكَامِلٌ نُعَامِلُ بِهِ مَن حَولَنَا، وإنما الشرائع للالتزام وتطهير البَاطِنِ وَتَغيِيرِ الظَّاهِرِ، وَفي الحَدِيثِ: "إِنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إِلى صُوَرِكُم وَلا أَموَالِكُم، وَلَكِنْ يَنظُرُ إِلى قُلُوبِكُم وَأَعمَالِكُم"؛(رَوَاهُ مُسلِمٌ)، (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت: 34].
اللَّهُمَّ أَصلِحْ قُلُوبَنَا، وَاغفِرْ ذُنُوبَنَا، وَاستُرْ عُيُوبَنَا، وَاغفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ المُسلِمِينَ، الأَحيَاءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ، إِنَّكَ أَنتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ..
أقول قولي هذا ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة..
إن أكبر عائق للعفو لدى البعض اعتِقَادُهم أَنَّ العَفوَ مُرَادِفٌ لِلضَّعفِ، وأن التنازل عجز، وذلك مِن أَخلاقِ الجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ لم تَكُنْ ذِئبًا أَكَلَتكَ الذِّئَابُ، وأنَّ مَن أُسِيءَ إِلَيهِ يَرُدُّ الصَّاعَ بِصَاعَينِ، وما علموا أن الرِّفعَةَ الحَقِيقِيَّةَ وَالقُوَّةَ الفِعلِيَّةَ، لِمَن عَفَا وَتَجَاوَزَ طلبًا لِمَا عِندَ اللهِ، وَتَرَكَ الانتِقَامَ لِوَجهِ اللهِ، يَشهَدُ لِهَذَا قوله -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "وَمَا زَادَ اللهُ عَبدًا بِعَفوٍ إِلاَّ عِزًّا, وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ"؛(رَوَاهُ مُسلِمٌ)، وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَملِكُ نَفسَهُ عِندَ الغَضَبِ"؛(مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).
الإِسلامُ يُرِيدُنا أَن نكُونَ مُجتَمَعًا رَاقِيًا فَاضِلاً، نجمَعُ الحُبَّ وَالوُدَّ وَالإِخَاءَ، وَتَسُودُ المُرُوءَةُ وَالفَضلُ وَالصَّفَاءُ، وَيَكثُرُ الخَيرُ وَالإِحسَانُ وَالعَطَاءُ، مجتمعٌ قَوِيُّ الأَركَانِ مُتَمَاسِكُ البُنيَانِ، مُتَوَحِّدُ الصُّفُوفِ يسعى للإصلاح والإحسان فجعل أفضل العبادات وأكثرها أجرًا السعي بالإصلاح (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ) –أي عباداتهم- (إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)[النساء: 114].
فما بالنا نرى الكثيرون يتهربون من إصلاح ذات البين، ولا يحسنون أداءها مع أنها بابُ أجرٍ عظيم لمن فعلها حتى ولو لم يتحقق لهم المطلوب.. ونحتاج في مجتمعاتنا اليوم لإيجاد لجانِ إصلاحٍ بين الناس، وللعفو عما بَدَرَ من أخطاء وتسهيل الصلح بينهم؛ لعلَّ الله أن يكتب أجرهم.
وهنا نذكر أن الإصلاح يحتاج لقواعد مهمة أولها النية الصالحة؛ (إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)[النساء: 35]، ومنها السرًّ والكتمان ومعرفة الحال جيدًا، والقوة والقبول من جميع الأطراف، وعدم الدخول في التفاصيل المؤلمة والتغاضي والتسامح سببٌ للقبول والغفران..
اللهم اجمع كلمتنا على الحق والدين.. ووحِّد صفنا مع إخواننا المسلمين، وجنبنا الخصومات والنزاعات، ووفق ولاة أمورنا للصواب، وانصر جنودنا واحمِ حدودنا..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي