بعض الناس يعادي ويوالي في الدنيا، إن أعطى أعطى للدنيا، وإن أحب أحب للدنيا، وإن منع منع للدنيا، وكأنه مخلد فيها، ولم يعلم ذلك المسكين بأنه مسافر، وأنه عنها راحل، ولو كان لأحد البقاء لكان...
ابن أربعين أو السبعين، انظر إلى حياتك الماضية كأنها رؤيا قد رأيتها وانتهت، وكل الأمور قد سجلت علينا، وسنجد الأعمال والأقوال في يوم القيامة.
فمن علامة الغفلة -يا عباد الله-: أن الإنسان لا ينتبه لتسرب الأيام، واعلم يا ابن آدم أنك أيام مجموعة، إذا مضى يوم فقد بعضك، يقول الحسن البصري: "يا ابن آدم إنك أيام مجموعة فإذا مضى يوم فقد مضى بعضك"، ويقول: "ما من يوم تطلع شمسه إلا وينادي ذلك اليوم ويقول: يا ابن آدم أنا على عملك شهيد فاستغلني فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة".
ومن مظاهر الغفلة -يا عباد الله-: أن الإنسان يظلم العباد، يأخذ الأموال يتجرأ على الناس في أموالهم، ويتجرأ عليهم في أعراضهم، يسب هذا ويغتاب ذاك.
نعم هذا من مظاهر الغفلة -يا عباد الله- كم نرى من المظالم؟ كم نرى من الحقوق قد أخذت؟ ونسي ذلك المسكين أنه قد ظلم وأن المظلوم قد توعد الله -جل وعلا- بالانتصار له قال: "وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين"، فهمه جمع الأموال، ولا يفرق بين الحلال والحرام، ولم يعلم أن المال حلاله حساب وحرامه عذاب.
هذه بعض مظاهر الغفلة.
أما أسبابها، فكثيرة منها: التعلق بالدنيا، نعم الإنسان بعض الناس يعادي ويوالي في الدنيا، إن أعطى أعطى للدنيا، وإن أحب أحب للدنيا، وإن منع منع للدنيا، وكأنه مخلد فيها، ولم يعلم ذلك المسكين بأنه مسافر، وأنه عنها راحل، ولو كان لأحد البقاء لكان لسيد الأولين والآخرين -عليه والصلاة والسلام-، قال عن الدنيا: "ما أنا والدنيا إلا كرجل استظل تحت شجرة ثم ذهب وتركها"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
فمن أسباب الغفلة: أن الإنسان يعلق قلبه بالدنيا، فلنتق الله -يا عباد الله-، ولنعرف حقيقة الدنيا وأنها إلى زوال، وأنها أيام معدودة، أين الآباء؟ أين الأجداد، أين من ملكوا الدنيا؟ رحلوا ونحن على ذلك الأثر سائرون، وإلى ما صاروا إليه صائرون.
ومن أسباب -يا عباد الله- الغفلة أيضا: أن الإنسان ينسى الآخرة، ينسى الآخرة، وما فيها من الأهوال والشدائد، ينسى الحساب، ينسى الوقوف بين يدي الله -جل في علاه-، وما منا إلا وسيكلمه ربه ليس بينه ويبنه ترجمان، فيسأله عن كل أعماله، عن صغيرها وكبيرها، فتأمل -يا عبد الله- عندما تحدثك نفسك الأمارة بالسوء والشيطان والهوى وقرين السوء أن تعصي الله، تذكر أنك ستقف بين يدي الله -سبحانه وتعالى-، وسوف يسألك عن كل هذه الأعمال.
ومن أسباب الغفلة -يا عباد الله-: الجليس فبعض الناس يذكرك بالأمور المحرمة ويربطك بها، بل ربما يحثك على فعلها ولا شك ولا ريب -يا عباد الله- أن المرء يؤثر في جليسه، ولذلك يقول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل".
فعلينا أن نعنى بجلسائنا -يا عباد الله-، أن نعنى بمن يذكرنا بالله، إذا رأى منا تقصيرا، ذكرنا بالله -جل وعلا-، وإذا رأى منا خيرا أعاننا على فعله، وشجعنا على فعله، أما من يربطنا بالمعصية، أما من يعلق قلوبنا بمعصية الله -جل وعلا-، فهذا ليس بصديق، والأخلاء بعضهم لبعض عدو.
نعم -يا عباد الله- كما أخبر الله -سبحانه وتعالى- عن حالهم، كل واحد منهم يتبرأ لنفسه، ويوجد الخلاص لنفسه، ألا ترون -يا رعاكم الله- إلى الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم أكمل المائة بالعابد، ودلوه على عالم، فقال: "اخرج من هذا البلد إلى البلد الفلاني فإن فيه أناس يعبدون الله فاعبد الله معهم" فحثه على أن يغير بيئته، وأن يغير جلسائه، فعليك -أخي الحبيب أخي المبارك أخي المسلم- أن تبتعد عن مجالس اللهو والغفلة التي تربطك التي تجعلك تتجرأ على معصية الله -جل وعلا-، واذهب إلى مجالس الذكر ومجالس الخير، ومجالس العلم التي تحبها الملائكة وتغشاها الرحمة، ويذكرها الله -سبحانه وتعالى-.
ومن أسباب الغفلة -يا عباد الله-: عدم الاعتبار بما يحصل من الأحداث، تمر الأحداث والنكبات على الأفراد وعلى الجماعات وعلى الأمم كما نشاهد في الصباح والمساء، أحداث هنا وهناك، وكأن الأمر لا يعنيه، نعم؛ لأن القلب قد قسى، والقلب -يا عباد الله- إذا تركه صاحبه فإنه يهلك، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أذنب العبد ذنبا نكت فيه نكتة سوداء، فإن تاب منها صقل" أي صقل القلب "وإذا عاد نكت فيه نكتة أخرى حتى يسود القلب" -والعياذ بالله- "ويصبح كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا" يشاهد عبر الوسائل الأحداث والحروب الطاحنة، وكأن الأمر لا يعنيه، وهذا لا شك ولا ريب أنه من أسباب الأمراض التي علقت بالقلوب، ومن أشدها الغفلة والإعراض عن علام الغيوب -سبحانه وتعالى-.
أما المؤمن فلا شك أنه يتأثر ويتألم بمصاب إخوانه هنا وهناك إذا رأى الجراحات تألم لإخوانه المسلمين في كل مكان، يتألم للقريب والبعيد.
فعلينا -يا عباد الله- أن نتقي الله -جل وعلا-، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعيذنا من الغفلة، وأن يعينا على ذكره وعلى شكره، وأن يرزقنا قلبًا صحيحًا سليمًا يتعلق بالله -جل وعلا-، ويقوم بما أمره به سبحانه وتعالى، وينهى عما نهاه ربه -جل وعلا- ونهاه عنه رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور رحيم.
الحمد لله، حمدا يليق بجلال الله وعظمته، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله، وداووا أنفسكم من داء الغفلة، والغفلة تحصل للجميع ولكنها تتفاوت، بعض الناس يغفل لساعات، وبعضهم لأيام، وبعضهم لشهور، ثم يرجع وينيب إلى خالقه.
ومما يعين -يا عباد الله- أن يكثر الإنسان من قول: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك".
ومما يعين أيضا -يا عباد الله- على العلاج: أن نسير وأن نمتثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اكثروا من ذكر هادم اللذات".
الموت -يا عباد الله- حقيقة قاسية مرة سنواجهها جميعا.
نعم لا تفتر -يا عبد الله- عن ذكر الموت، لا سيما إذا رأيت في قلبك تقصيرا وتفريطا في حق الجليل، إذا رأيت في قلبك تقصيرا في حق الله -جل وعلا-، وإذا رأيت في قلبك جرأة على معصية الله -جل وعلا- فزر المقابر، قال الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها فإنها تذكركم الآخرة".
لابد لكل واحد منا أن يترك أهله وداره وما له ووظيفته، ويوضع في حفرة مظلمة موحشة لا أنيس فيها ولا جليس، فإن.. لا يغتر بصحته ولا بماله ولا بجاهه، ويعلم ولو كان جالسا على كرسيه أنه سائر إلى الدار الآخرة، وليعلم ولو كان في فراشه أنه سائر إلى الدار الآخرة، ونحن في بيت الله الآن متجهون إلى الدار الآخرة؛ لأن هذه الساعات تنقلنا إلى الدار الآخرة.
نعم، فالموت -يا عباد الله- حقيقة قاسية: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34]، (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)[الرعد: 38]، لو أتى أطباء العالم وأرادوا أن ينسؤوا في أجل إنسان قد كتب الله -سبحانه وتعالى- له الوفاة لم يستطيعوا، ولن يستطيعوا أن يؤخروا في عمره ولو لساعة واحدة ولو لدقيقة واحدة: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34]، (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الواقعة: 83 - 87].
إلى الله نشكو قسوة القلوب، إلى الله نشكو هذه الغفلة التي نراها.
ومن آثارها: الجرأة على معصية الله، والتساهل بطاعة الله، وقساوة القلب -والعياذ بالله-.
ومما يعيننا -يا عباد الله-: أن نتذكر أهوال القيامة، وما فيها من الشدائد والأهوال، وأن الله -جل وعلا- سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد.
والموت -يا عباد الله- والساعة ليست بعيدة، قال الله -جل وعلا-: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)[القمر: 1]، فالساعة قريبة، نعم فالساعة قريبة، بعض المفسرين يقول: "إن الإنسان إذا مات قامت قيامته".
فالموت لهذا الإنسان، أو الساعة لهذا الإنسان أن هذا النفس يرتفع فلا ينزل أو ينزل فلا يرتفع فتقوم قيامته، بمعنى أنه يعذب أو ينعم، وكم من شخص خرج وهو من أصح الرجال، ومن أقوى الرجال ثم فارق الحياة، ثم أصابته سكتة أو أتاه مرض من هذه الأمراض التي انتشرت، فعلينا أن نعالج أنفسنا، وأن نعالج قلوبنا -يا عباد الله-، ونعلم أن الفلاح كل الفلاح، وأن الفوز كل الفوز، هو العبادة لله -جل وعلا-، هو أن نعلق قلوبنا بالله -جل وعلا-، هو أن نقوم بما أمرنا به ربنا -جل وعلا-، وأمرنا به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والشر كل الشر في معصية الله -جل وعلا-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور: 63].
هذا، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ به بنفسه، فقال جل من قائل عليما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على حبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم اصلح أحوال المسلمين يا رب، اللهم أصلح أحوالهم في كل مكان، اللهم اجمع قلوبهم، اللهم وحد صفوفهم، اللهم اجمع كلمتهم على الكتاب والسنة، اللهم اجمع كلمتهم على الكتاب والسنة.
اللهم من أرادنا أو أحدا من المسلمين بسوء، اللهم يا قوي اشغله بنفسه، واجعل يا قوي كيده في نحره، وأدر عليه دائرة السوء يا رب العالمين.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا وعقيدتنا يا حي يا قيوم، ووفق ولاتنا لكل خير يا رب العالمين، اللهم من أراد هذه البلاد وغيرها من بلاد المسلمين فاشغله يا رب بنفسه، اللهم أدر عليه دائرة السوء، اللهم أبطل كيده يا قوي يا عزيز.
اللهم يا حي يا قيوم أصلح فساد قلوبنا، اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب يا رب العالمين، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا رب العالمين.
اللهم حبب إلى قلوبنا الطاعات بأنواعها، وكره إلى قلوبنا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اجعلنا يا أرحم الراحمين ممن يطول عمره ويحسن عمله.
يا رب! أصلح شباب المسلمين، يا رب أصلح شباب المسلمين، يا رب أصلح شباب المسلمين، اللهم أقر أعين آبائهم بصلاحهم، اللهم يا حي يا قيوم، اجعلهم بهذا الدين من المتمسكين، وإليه من الداعين يا حي يا قيوم.
اللهم أحسن لنا الختام، اللهم أحسن لنا الختام، وثبتنا يا رب بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اجعل يا رب قبورنا روضة من رياض الجنة، اللهم اجعلها روضة من رياض الجنة.
اللهم يا حي يا قيوم يا من ترانا وتسمع كلامنا، وتعلم سرنا ونجوانا، وتعلم عن تقصيرنا وتفريطنا، كما أكرمتنا بالاجتماع في بيت من بيوتك أن تمن علينا بالاجتماع في جنات النعيم مع حبيبنا ورسولنا -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم أسقنا من يده شربة لا نظمأ بعدها أبدًا، وارزقنا شفاعته يا رب العالمين، اللهم ارزقنا شفاعته يا رب العالمين.
اللهم اعصمنا من فتن الشهوات والشبهات، اللهم اعصمنا من فتن الشهوات والشبهات.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45 ].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي