إنَّ أمّةً نزل البلاء في نواحيها واستهدفها العدوُّ في دينها وأراضيها يجب أن تكونَ أبعدَ الناس عن اللهو والترفِ والركون إلى الدنيا وزينتِها، وأن تصرفَ جهودَها وطاقاتِها للتقرّب إلى خالقها وباريها، وأن تخلِصَ له الدّين، وتوحِّد لله ربِّ العالمين، وأن تقلِعَ عن المعاصي والشهوات، وتهجُرَ الذنوبَ والمنكرات؛ فهي التي أبحرت بفئامٍ من الأمّة إلى بحارٍ...
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أمّا بعد:
أيها الإخوة: تمرُّ أمّتنا اليومَ بعصرٍ ليس هو أحلكَ عصورها، وسنينَ ليست هي أتعسَ سنينها، لقد رَأت هذه الأمّة في تاريخها الطويل من مواقفِ النّصر والهزيمة ما تراه كلُّ أمّة، ولكنَّ الخاتمةَ الثابتة في كلِّ حقبةٍ حسنُ العاقبة وخيرُ المآل. وانظروا في التاريخ تجِدوه ناطقًا بهذا بأبلغِ لسانٍ وأوضح بيان.
أيها الإخوة: فقد خرج رسولنا -صلى اللهُ عليه وسلمَ- من مكةَ مختفياً، ومكنه الله، وبعدها بسنيات دخلها فاتحاً بجيش ضخم.. ومرت قرون عز ونصر وتمكين للأمة سطرتها كتب التاريخ تتمنى كل أمة لو حازت على معشارها.. إلى أنْ رمانا الشّرقُ بداهية لا أعظم ولا أفضع منها، فقد ساق التّتَرُ إلينا جيوشَهم كالسّيلِ العظيم والموجِ الهائج، يحطُّ على بلدان الإسلام العامِرة؛ كما يحطّ الجرادُ على الحقول الزّاهرة، حتّى أبادت هذه الجيوشُ الممالك، وبلغَ هولاكو عرشَ الخليفة ببغداد، فذبح الخليفَة، وهدَّ العرش، وقوَّض الدّولة، فإذا بغدادُ العظيمة حاضرةُ الدنيا وعاصمةُ الإسلام دمارٌ بعد عمار، وخرابٌ وأطلال، ثمّ ساح التتر في الأرض لا يردُّهم شيء، حتّى حسِب بعض الناس أنّها نهايةُ الإسلام، فنُعِي الإسلام على المنابر، ورُثي المسلمون في الدّفاتر، حتّى قال مؤرّخ الإسلام ابنُ الأثير -رحمه الله-: "لَقَدْ بَقِيتُ عِدَّةَ سِنِينَ مُعْرِضًا عَنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ اسْتِعْظَامًا لَهَا، كَارِهًا لِذِكْرِهَا، فَأَنَا أُقَدِّمُ إِلَيْهِ رِجْلًا وَأُؤَخِّرُ أُخْرَى؛ فَمَنِ الَّذِي يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ نَعْيَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ؟! وَمَنِ الَّذِي يَهُونُ عَلَيْهِ ذِكْرُ ذَلِكَ؟! فَيَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي، وَيَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ حُدُوثِهَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا.." إلى أن قال: "هِيَ الْحَادِثَةُ الْعُظْمَى، وَالْمُصِيبَةُ الْكُبْرَى الَّتِي عَقِمَتْ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي عَنْ مِثْلِهَا، عَمَّتِ الْخَلَائِقَ، وَخَصَّتِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْعَالَمَ مُذْ خَلَقَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- آدَمَ، إِلَى الْآنِ، لَمْ يُبْتَلَوْا بِمِثْلِهَا، لَكَانَ صَادِقًا، فَإِنَّ التَّوَارِيخَ لَمْ تَتَضَمَّنْ مَا يُقَارِبُهَا وَلَا مَا يُدَانِيهَا". انتهى كلامه -رحمه الله-.
ولكنَّ الذي لم يدرِك زمنه ابنُ الأثير -رحمه الله- ولم يُلحِقه بمقولتِه تلك أنَّ الإسلامَ طوى التّتر تحتَ جناحِه، وظلّلهم برايتِه، وانطوَوا تحتَ لوائِه، فانطلقوا فاتحين لبلادِ الهند، فألحقوها بدِيار الإسلام وأهلَها بالمسلمين، وصارَ منهم الملوكُ العادلون والقادَةُ الفاتحون، وغدَوا عُمقَ أمّتِنا في المشرق، ونُسِيت المصيبة حتّى لا يدري كثيرٌ من النّاس اليومَ ما خبرُ التّتَر.
أيها الأحبة: ألم يقذِف إلينا البحرُ المتوسِّط سفائنَ النصارى تحمِل السيفَ والصّليب، فبسطوا نفوذَهم على الشام، وأقاموا على كلِّ جبلٍ قلعة، وفي كلِّ وادٍ حامِية؟؛ فما هي إلا سنواتٌ حتى ساقتهم الجيوش المسلِمة إلى أسوارِ فْيِنَّا عاصمةِ النّمسا، في وسط أوربا!.
وألم يأتِ الغزاةُ في العصور المتأخِّرة إلى بلاد المسلمين بزعمهم مستعمرين، ولم تبقَ أرضٌ لم تطأها أقدامُهم إلا وسطَ جزيرة العرب، واستحكمت غربةُ الدّين، وغابت أو ضعُفت علومُ المسلمين، ثمّ حال بهم الحال إلى أن كانوا كسحابٍ استدبرته الريح، فعادَ في السّماء قطعا، وقامت على أطلالِهِم عودةٌ من الناس للدين لم تسبق؛ فقد انتشر هذا الدين في أصقاع الأرض، وأصبحت ترى ملايين المسلمين في عواصم الدول التي تجيش الجيوش لغزو أمة الإسلام؛ تسد طرقاتها، وتمتلئ حدائقها بالمسلمين الذين يؤدون صلاة العيد.! وألقى كثيرٌ من رؤسائهم كلمات الشكر والامتنان والاعتزاز على دور مسلمي دولهم في تنمية بلادهم، وإثراء حياة الآخرين..؛ فكم لهذِه الأمّة من وثباتٍ بعد كبَوَات وإغارات بعد غَفَوات!
كيف لا؟! وهي الأمّة المرحومةُ المنصورة التي لا يُدرَى خيرها في أوّلها أو في آخرها؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِي الله عَنهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قَالَ:" إِنَّ مَثَلَ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ، لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَوْ آخِرُهُ"(رواه أحمد والترمذي، وقال الألباني حسن صحيح). قال السندي: "أي المطر كله خير، أوله ينبت، وآخره يربي".
كذلك هذه الأمة المرحومة المباركة كلها خير، ولم يُرِدْ الشك، وإنما أراد أنهم من كثرة الخير تشابه أمرهم، وكاد لا يتميز أولهم من آخرهم؛ إذن هي أمّة تمرض ولا تموت، وتُجرَح ولا تُذبَح.
أيها الإخوة: إنَّ مِن سنن الله -تعالى- في خلقه: بقاءَ الصّراع بين الحقِّ والباطل؛ ليميزَ الله الخبيثَ من الطيّب، وليصطفيَ بالتّمحيص أهلَ الإيمان، وليرفعَ بالابتلاءات درجاتِهم، وما يجري للأمّة مِن أحداثٍ ضِخام تنطوي على أمورٍ قد تكرهُها النّفوس، وأحداثٍ تضيق بها القلوبُ سيكون مآلها الأخير -بإذن الله- إلى النصر والعزّة للمسلمين، والتمكين لعباد الله المؤمنين، وانقشاعِ أسبابِ الذلّة والهوان؛ فهذه الأمّة ليست كغيرِها، فهي الأمّة الموعودَة بالنّصرِ والعاقبة، وهي الأمّة المحفوظة من الهلاكِ العامّ، وهي أمّة الاستعلاء رغمَ الجِراح.. (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ)[آلعمران:139] قالها الله -تعالى- لجيش الإسلام وقد خرجَ للتَّوِّ من معركةِ أحُد، وقد خلَّف سبعين شهيداً من خِيرة رجالِه، (وَأَنتُمُ الأعْلَوْن)َ قالها الله -سبحانَه- لأمّة الإسلام وهي في تلك الحال؛ لأنّ الله -تعالى- كتب العزّة والعلوَّ والرِّفعة لهذه الأمّة في كلِّ أحوالها؛ في انتصارِها وانكسارها، في قلَّتها وكثرتِها، ما دامت مؤمنَة.
أيّها الأحبة: وممَّا يجب اعتقادُه وتذكيرُ النّفسِ به خصوصًا في أوقات الشّدائد والمِحن أنّه لا يقع في هذا الكونِ حادثٌ صغير ولا كبير إلا بعلمِ وتقدير وتدبيرِ اللطيفِ الخبير، وأنّه لا يخرج عن قدَر الله وقدرتِه شيء في السماوات ولا في الأرض (وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)[محمد:4] الأسبابُ والنتائج من صنعِه وتقديره، والوسائلُ والغايات من خلقِه وتدبيرِه. إذا علمنا ذلك كان لِزاماً علينا الفرارُ إلى الله، والاعتصامُ بحبلِه، وطلبُ النجاةِ والنصر من عنده؛ فهو -سبحانه- الذي يعطي ويمنَع ويخفض ويَرفع، وقد جعل في خلقِه نواميسَ وسُننًا (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً)[فاطر:43].
ومِن سننِه -سبحانه-: أن يبتليَ عبادَه ويمحِّصَهم، ثمّ يجعل العاقبة لهم، قال الله -تعالى-: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت:1-3].
ولقد كانَ من هدْيِ النّبيّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- في الشدائد التبشيرُ والتّشجيع وضربُ المثلِ بالسباقين؛ إشارةً إلى سنّةِ الله -تعالى- في خلقه، يقول خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ -رَضِي الله عَنهُ-: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"(رواه البخاري). والنبيّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يبيِّن لنا بذلك أن المستقبلَ لهذا الدين، وأنَّ العاقبة للإسلام والمسلمين، ولا يجوز إطلاقًا أن نشكَّ في ذلك قال سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[التوبة:33].
بارك الله لي ولكم بالكتاب والسنة..
أيها الإخوة: إنَّ يقينَنا بالنّصر وثقتنا بوعد الله -تعالى- وظهور البشائر بذلك لا يعنِي القعودَ والاتكال؛ كما لا يعني غضَّ الطرف عن الخطأ والخللِ والنّقص والتقصير الذي لا زال موجودًا في الأمّة، بل الواجب مع إذكاءِ جانبِ الثقة بوعدِ الله العودةُ الصّادقة إلى الله -سبحانه-؛ فما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة، والله -تعالى- لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم؛ فالتّغيير يأتي من الدّاخل ومن إصلاح الذات، وسنةُ الله لا تتخلَّف.
إنَّ أمّةً نزل البلاء في نواحيها واستهدفها العدوُّ في دينها وأراضيها يجب أن تكونَ أبعدَ الناس عن اللهو والترفِ والركون إلى الدنيا وزينتِها، وأن تصرفَ جهودَها وطاقاتِها للتقرّب إلى خالقها وباريها، وأن تخلِصَ له الدّين، وتوحِّد لله ربِّ العالمين، وأن تقلِعَ عن المعاصي والشهوات، وتهجُرَ الذنوبَ والمنكرات؛ فهي التي أبحرت بفئامٍ من الأمّة إلى بحارٍ من الظّلمات، كما يجِب على كلّ مسلمٍ أن يتذكَّر دائِمًا أنّه لا طريق لسعادةِ الدنيا والآخرة، ولا سبيلَ إلى الفوز والفلاح والأمن والنّجاح إلا بالتمسّك بصراط الله المستقيم، وتحكيمِ أمر الله ونهيه، وتقديمِ حُكمِه وشرعِه في كلِّ نواحي الحياة، وأنَّ العبدَ لا يكون مؤمِنًا حتى يكون هواه تبعًا لما جاء به النبي -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.
إنَّ الإسلامَ دينٌ حيٌّ يبعث الحياةَ فيمن يحسِن الأخذَ به، فإذا أتى جيلٌ معرِض أو مُغرض استبدله الله بخير منه قال الله -تعالى-: (وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـٰلَكُم)[محمد:38].
أيّها الإخوة: وممَّا يجدر التذكيرُ به وإعادتُه والتأكيدُ عليه خصوصًا في الأزماتِ والفِتن: الالتزامُ بالمنهج الشّرعيّ عند وقوعِ الفتن من الصبر والمصابرة، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ونبذِ الفرقة والخلاف، والبعدِ عن الاستعجال في المواقف، والمحافظة على أمنِ بلاد المسلمين ووَحدتها، وألا يكونَ المسلم مِعوَل هدمٍ لإيقاع الفتنة في بلادِ المسلمين من حيث يشعُر أو لا يشعر؛ فإنَّ مصلحةَ العدوِّ المتربِّص أن يرى الفتنَ في بلاد المسلمين قائمة، والزَموا التضرّعَ إلى الله وسؤالَه ودعاءَه ورجاءَه، (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)[لأعراف:56].
اللهم وحد صفوف المسلمين وأصلح ذات بينهم، اللهم ولي عليهم خيارهم واكفهم شر شرارهم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي