فانفلات الأمن شرٌّ مستطير، ووباءٌ خطير، تُنتهك الأعراض، وتفسد المجتمعات، وتحصل الخسائر المدلهمات، وتُنهب الأموال، ويشيع القتل، فلا يدري القاتل فيما قَتل، ولا المقتول فيما قُتِل...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله ذي الكرم والْمَنّ، أحمده -سبحانه- على النِّعم، وبالإيمان مَنَّ، وجعَل الاجتماعَ والائتلافَ وقايةً وحصنًا من الفتن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمره كائنٌ بِكُنْ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله حذَّر من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وحضَّ على الاتفاق والأمن، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أفضل من وقُوا المحن.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله حقَّ تقواه فقد فاز عبدٌ حقق التقوى وأطاع مولاه، فالجنة مأواه، ومن الشرور والمصائب وقاه.
الحديث في جمُعتنا هذه عن نعمةٍ عظيمة، وَمِنَّةٍ كريمةٍ أمينة، حفظٌ ووقاية، وحصنٌ وكفاية، ودرعٌ وحماية، أتدرون ما هذه النعمة؟ أم أتعلمون ما هذه المنة؟ إنها نعمة الأمن والأمان، والاستقرار والاطمئنان.
أيها المسلمون: ونحن نعيش -بحمد الله- بنعمة الأمن والاستقرار، والراحة وهدوء البال، والرخاء والهناء، الأمن سببٌ رئيسـيٌّ للثبات على الدين والإيمان، والقلقُ والخوفُ والتفككُ سببٌ للكفران وضَعْف الإيمان، الأمن عماد الطمأنينة، وسبيل التنمية به تصفو الحياة، ويهنأ العيش، ويطيب الطعام، تعشقه النفوسُ، وتطلبه الشعوبُ، وتفتخر به المجتمعات والأقليات.
الأمن مظلة يستظل بها الناسُ من وهج الفتن والهرج، وغطاءٌ ساخنٌ إذا انكشف حل الشـر والهرج، بالأمن تأمن السُّبل وتسلم الأعراض والأملاك، بالأمن يَعبد المرءُ ربَّه، ويستقيم على طاعته وعبادته، يقوم بالواجبات وتحل الخيرات، وتنزل البركات؛ ولهذا فالله -سبحانه- امتن على قريشٍ به، لكن قابلت النِّعم الكبار بالإباء والاستكبار، فقال الواحد القهار: (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش: 1-4].
وامتن على عباده بالحرم الآمن: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)[آل عمران: 97].
ويُذكِّر عبادَه بمن فقد هذه النعمةَ، فقال عزَّ من قائل: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)[العنكبوت: 67].
وجعل هذه النعمة داعيةً إلى توحيده، والإيمان به، فقال سبحانه: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش: 3-4].
ولعِظَمِهِ كان من دعاء الأنبياء: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا)[البقرة: 126].
بالأمن يعيش المرء عيشةَ الملوك، وكأن الدنيا بذهبها وفضتها مسبوك.
(روى الترمذي، وابن ماجه، والبخاري في الأدب المفرد): "مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا".
فانظر كيف قدَّم الأمنَ على متاع الدنيا وعلى الطعام والشراب إشارةً أنه -بدون الأمن- فلا يهنأ طعام، ولا يرقى منام، ولا يُؤْنَس بمالٍ ولا مُدَام، بالأمن -أيها الإخوة- حِفْظُ الضـروريات الخمس التي بدونها، أو بعضها يحصل الشتات واللَّبْس، والخلل والنقص، والضـروريات هي: "النفس والعقل، والعِرض والمال والدين".
يقول الغزالي -رحمه الله-: "مقصود الشارع من الخلق هو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكلُّ ما يتضمن هذه الأصول الخمسة فهي مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهي مفسدة، ودفعها مصلحة".
ويقول الشاطبي -رحمه الله-: "قد اتفقت الأمة، بل سائر الملل على أن الـشريعة وُضِعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وعلتها عند الأمة كالضروري" انتهى.
فلا تحصل المحافظة على هذه الضـرورات الخمس إلا بالأمن، وأصبحت المحافظة على الأمن وسلامته مما يُزعزعه ويفكِّكه أمرًا واجبًا على كل مسلمٍ ومسلمة؛ إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ ولأن بفقدها أو بعضها يفقد المرءُ مقوماتِ الحياة، ويعيش الأفراد والمجتمعات في اضطرابٍ وَمَنْعٍ وهات، وذعرٍ وخوفٍ على الدين، والعقل، والمال، والنسل، والأنفس المعصومات، علاوةً على التفرق والنهب والسَّلب والمفاسد المتعددات.
بالأمن تأمن السُّبل، وتتحقق المصالح، وتتبادل المنافع، بالأمن استقامة الحال، وصلاح المعاش وراحة البال، والحاجة إليه أحوج من الطعام والشراب والمال؛ ولهذا قدَّمَه إبراهيم -عليه السلام- في دعائه على الرزق: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)[البقرة: 126]، ثم عطف عليه: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ)[البقرة: 126]، عند فقد الأمن يفرح العَدُوّ، ويسيطر الحاسدُ، ويتسلط العَدُوّ الحاقدُ، ويتزعزع الصفُّ، ويقع الخللُ، وتحل الفوضى، وتنتشـر الجريمة، وتستشـري الرذيلة، ويأكل القويُّ الضعيفَ، ويهلك الحرث والنسل.
فانفلات الأمن شرٌّ مستطير، ووباءٌ خطير، تُنتهك الأعراض، وتفسد المجتمعات، وتحصل الخسائر المدلهمات، وتُنهب الأموال، ويشيع القتل، فلا يدري القاتل فيما قَتل، ولا المقتول فيما قُتِل.
ويعيش الناس في داهيةٍ دهماء، ورعبٍ وقلقٍ وجاهليةٍ جهلاء، فلا مفسدة إلا وهي -بعد فَقْد الأمن- محققة، ولا شر إلا -بدون الأمن- واقع، فرحماك ربنا رحماك؛ فلهذا وبهذا يعرف المرء قدر نعمة الأمن، واستقرار الحال.
وما نعيشه -بحمد الله- في هذه البلاد الآمنة لَهُوَ أكبرُ دليلٍ على شرف هذه المنة، والحرصُ على ثباتها واستقرارها واجبٌ على كل مسلمٍ ومسلمةٍ.
وبعضُ البلدانِ المجاورةِ خيرُ شاهدٍ على أرض الواقع، وما يعيشونه من القتل والتشـريد، والنهب وهتك الأعراض، ونهب الأموال والبطش، والهدم والتخريب، والتفجير والتدمير، يعيشون انفلاتًا وتشريدًا، فلا راحةَ في نومٍ ولا أمنَ في طريق، ولا أُنسَ بمعيشةٍ ومرافقة صديق، ولا طمأنينة، ولا راحة لا مع النفس، ولا الزوجة، ولا الذرية.
وأنتَ بين أهلك وأمام أولادك، وفي قعر مسكنكَ تقوم وتقعد، وتدخل وتخرج، فالحمد لله على ذلك، فيستدعي ذلك الشكرَ والثناءَ، والتحدثَ بالأمن والرخاء، قال المولى -جلَّ وعزَّ وعلا-: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[الضحى: 11].
ولا يُعرف قدرُ النعمة إلا بضدها، نسأل الله السلامة والعافية من ضدها، فَاعْتَبِرُوا بمن حولَكم، واشكروا ربَّكم، فالعاقل الحصيف مَنْ تدبَّر وتعقَّل، ونظر إلى البلدان المجاورة وما تعيشه من التفكك والتشتت، والتفرق والاختلاف، والفتن المتلاطمة، والدماء السائلة، والحروب الطاحنة، والأنفس المزهَقَة، والحوادث والكوارث المدمرة.
الفتن إذا وقعت أكلت الرطب واليابس، وعمَّت القاصيَ والدانيَ، ودخلت على الكبير والصغير، وشملت الخاصَّ والعامَّ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)[الأنفال: 25].
أيريد العابثُ بالأمن زعزعة البيوتات، وتشتيت الأفراد والمجتمعات، وعويل الآباء والأمهات، وتيتيم الأولاد والبنات، وصراخ الضعفاء والأبرياء والنساء الضعيفات، ونهب الأموال المعدودات، وهدم المساكن والممتلكات؟! اللهم أدِم علينا نعمة الإيمان والأمان.
وعلينا بما يُثَبِّت أمننا من الإيمان، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العقيدة وترسيخها وتدريسها، والحذر من الذنوب والمعاصي بأشكالها والظلم، والنهب ولزوم الجماعة والالتفاف، وسؤال أهل العلم الراسخين بالعلم والحِلم، والاجتماع ونبذ الافتراق، والترابط والتلاحم والوفاق (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)[آل عمران: 103].
اللهم أدِم علينا نعمة الإيمان والأمان، والصحة والعافية والاطمئنان، واجعل هذا البلد آمنًا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله...
ولنحذر -عبادَ اللهِ- مما يُزعزع الأمنَ ويزعجه، ويُفسده ويُخرجه، ومن ذلكم الاختلافُ والشِّقاقُ، والنزاعُ والافتراقُ.
فالاختلاف مفسدٌ للأمان، وأعظم سُبل الشيطان، وكذا إطلاق التكفير وزرع الشحناء والبغضاء.
وما يُفسده الاستهانةُ بالدماء، وقتل الأبرياء، وقد عظَّم المولى -جلَّ وعلا- قتل النفس بغير حق، فقال الحق: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء: 93]، أربع عقوباتٍ عظيمات، وعظائم موبقاتٍ مهلكات، فجريمة القتل جريمةٌ شنعاء، وفعلةٌ نكراء، فهي من السبع الموبقات، كما قال سيد البريات: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ..." وذكر: "وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ"، بل في (البخاري): "لا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا".
والقتل ثاني الكبائر، كما قال المولى الناصر: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)[الفرقان: 68].
فالقتل للنفس بغير حق مفاسدُه وخيمةٌ، وآثاره سيئةٌ وأليمة من إيلامٍ للمقتول، وإثكال أهله، وترميل نسائه، وإيتام أطفاله، وكذا فهو سببٌ لزرع الخلافات، وتطاولٍ على الأفراد والمجتمعات.
ولحماية الأنفس المعصومة حرَّم الإسلامُ الإشارةَ بالسلاح، ورفع السلاح من الجُناح سدًّا للذريعة، وصيانةً للدماء المعصومة، بل ترويعه وتخويفه، وإيذاؤه وإرهابه محرمٌ شرعًا، ففي (مسلم): "مَنْ أشارَ إلى أخيهِ بحديدَةٍ فإنَّ الملائِكةَ تَلْعَنُهُ حتّى يَنتهي، وَإنْ كانَ أخاهُ لأبيهِ وأمِّهِ".
هذا في الإشارة إليه، فكيف بحمل السلاح عليه؟!!
وقد جاء في (الصحيحين): "وَمَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ، فَلَيْسَ مِنَّا".
وجاء عند (الطبراني): "مَنْ أَخَافَ مُؤْمِنًا كَانَ حقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يُؤَمِّنَهُ مِنْ أَفْزَاعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، وقال: "لا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوّعَ مُسْلِماً" (رواه أحمد والترمذي).
وفي (الصحيح): "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ".
وإن من أعظم المنكرات ما يحصل في هذه البلاد المباركة من القتل بغير حق، وعدم المبالاة بدماء المسلمين، والترويع للآمنين، وإتلاف الممتلكات، فأقدمت فئةٌ على أقبح الإجرام، واقتحمت كبائر الآثام، وصار أهون ما لديهم إزهاق الأنفس المعصومة، وَسَفْكٌ للدماء المحترمة المأمونة؛ ولهذا يجب علينا -جميعًا- أن نُساهم في الحفاظ على الأمن ورجال أمنه، واستهداف مواطنيه، والحذر من الخروج عن الطاعة، ومنهج أهل السُّنَّة والجماعة، والحفاظ على شبابنا من أيدٍ عابثة، وخلايا نائمة، وكذا كَشْف المخططات الآثمة، والإفساد في الأرض، ولنعلم أننا مسئولون عن أمتنا وأرضنا، فلنحافِظْ على نعمة الأمن والرغد، والحذر مما يُزيلها أو ينقصها.
ولنكن يدًا واحدة، وصفًّا متماسكًا ضد كيد الكائدين، وعدوان المعتدين، وشر المفسدين.
هذا ومما يُذكر ويُستنكَر ما حصل من الاعتداء على نقطةٍ أمنيةٍ في القصيم، من قتل أبرياء وسفك دماءٍ معصومةٍ أُمناء مما تستنكره الفِطَرُ السليمةُ، وتنأى عنه العقولُ الرشيدةُ.
ومما يَزرع زعزعةَ الأمن والاستقرار ونشر الخوف والاضطراب، فانتبهوا -يا رعاكم الله- لأبنائكم وشبابكم، واحفظوهم من فتن الشبهات والشهوات المضلات.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي