الكبر

أحمد عبدالرحمن الزومان

عناصر الخطبة

  1. حقيقة الكبر وخطورته
  2. من مظاهر الكبر عند الناس
  3. من مظاهر الكبر عند أهل الفضل والصلاح
  4. أنموذج للتواضع وقبول الحق

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء:1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.

عباد الله: الكبر داء عظيم وكبيرة من كبائر الذنوب فالمتكبر من أهل الوعيد إن لم يتب ويكفي الكبر قبحاً أنه سبب طرد إبليس من الجنة ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:34] وكذلك مآل من سلك سبيله.

أصل الكبر خلق باطن في النفس وذلك برؤية النفس فوق المتكبر عليه فيرى المتكبر لنفسه مرتبة فوق مرتبة غيره فيحصل في قلبه اعتداد وركون إلى ما اعتقده واحتقار للمتكبر عليه وهو غمط الناس فيثمر هذا الاعتقاد أعمالاً من الترفع على الناس والأنفة من مجالستهم واعتقاد حقه عليهم.

فعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس" رواه مسلم. فجماع الكبر في بابين في باب باحتقار الناس وازدرائهم. وباب الترفع عن قبول الحق و التسليم له.

وإنما صار الكبر حجاباً دون الجنة لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين وتلك الأخلاق هي أسباب دخول الجنة فالمتكبر لا يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه المتكبر لا يقدر على التواضع المتكبر لا يستطيع تطهير قلبه من الحقد المتكبر لا يترك الغضب لنفسه المتكبر لا يكظم غيظه المتكبر لا يقدر على ترك الحسد المتكبر لا يقدر على النصح اللطيف المتكبر لا يقبل النصح.

إخوتي: لا يتكبر إلا من استعظم نفسه ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد أن لها صفة من صفات الكمال الديني أو الدنيوي ولو تأمل هذا المتكبر لوجد أن هذه الأشياء التي يتكبر بها على الناس هي منة من الله عليه وليس له كسب فيها بل هبة من الله عليه فحق هذه النعمة أن تشكر ولا تكفر ومن أعطى هذه النعمة قادر على أن يسلبها فكم من شخص أمسى عزيزاً وأصبح ذليلاً.

إخوتي: أهل الفضل والصلاح ليسوا بمنأى عن الكبر فمن يرى أنه أولى بأن يزار ولا يزور ويتنتظر من الناس القيام بقضاء حوائجه وتوقيره وتصديره في المجالس وذكره بالورع والتقوى والعلم وتقديمه على سائر الناس. لا يرى ذلك إلا لما وقع في نفسه من علو قدره على غيره وأن له حقاً على الناس بسبب ما أوتي من علم وعمل و هذا هو عين الكبر.

إخوتي: من مظاهر الكبر عند أهل الفضل والصلاح أنه لو استخف ببعضهم مستخف أو آذاه مؤذ لقال لا بد أن تناله العقوبة بسببي عاجلاً، ولو أصيب هذا المعتدي بنكبة لقال هذا بدعائي عليه.

وهل نسي هذا أن الكثير من الكفار يسبون الله ويسبون رسوله وجماعة منهم آذوا الأنبياء صلوات الله عليهم ثم إن الله أمهل أكثرهم ولم يعاقبهم في الدنيا بل ربما أسلم بعضهم فلم يصبه مكروه في الدنيا ولا في الآخرة فهل هذا أكرم على الله من أنبيائه وأنه قد انتقم له بما لا ينتقم لأنبيائه.

إخوتي: يقول ربنا تعالى: (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * إلى آخر الآيات) فمن عرف نفسه حقيقة بداية ونهاية لم يتكبر فقد كان الإنسان عدما فخلقه الله من ماء مهين من نطفة تستقر في الرحم ثم تكون علقة قطعة دم ثم مضغة ثم جعله عظماً ثم كسا العظم لحماً فقد كانت هذا بداية وجوده فجعل له الله السمع والبصر والفؤاد وسائر الحواس عند الصغر ثم لا يزال يكبر وتزداد نعم الله عليه، وإن عمر رد إلى أرذل العمر ثم يكون مآله الموت فيصبح جيفة ينفر منها القريب قبل البعيد فلو تأمل العاقل اللبيب هذه البداية والنهاية لما تطرق له الكبر لكنها الغفلة واستيلاء الشيطان على النفس.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة و السلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

وبعد:

إخوتي: الكبر يمنع من الانتفاع بالعلم كما قال ربنا تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف:146] فمن الكبر بطر الحق فيجب قبول الحق بغض النظر عن قائله ومهما تكن منزلة من أخطأ الحق ونبه على خطئه فالقبول ليس لقول الشخص بل الشخص ما هو إلا ناقل عن الله وعن رسوله فمن رد الحق فإنما يرد في الحقيقة حكم الله وحكم رسوله.

وبذلك يتبين عظم خطأ من يناظر غيره ويصر على خطئه بعد أن يتبين له الحق حتى لا يقل قدره عند الناس بزعمه. و يتبين عظم خطأ من إذا عرض عليه الحق ممن هو أصغر منه سناً أو علماً أو قدراً رد قوله بهذه الحجج و الحق لا يعرف بذلك. فالفاسق وهو فاسق لم نؤمر برد خبره بل أمرنا بالتثبت من خبره فالحق ضالة المؤمن ولا زال أهل القدوة من أصحاب النبي ومن بعدهم من أهل الفضل والعلم يقبلون الحق ومن غير التفات لقائله وإن كان موغلاً في الشر فهذا أبو هريرة رضي الله عنه: "حينما وكله الرسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة الفطر أتاه آت فجعل يحثو من الطعام وعاهد أبا هريرة ألا يعود ثلاثا ثم لم يف بعهد وفي الثالثة قال له دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها فقال له أبو هريرة رضي الله عنه ما هو؟ قال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي الله لا إله إلا هو الحي القيوم حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح قال أبو هريرة فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل أسيرك البارحة قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال ما هي؟ قلت قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية الله لا إله إلا هو الحي القيوم وقال لي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة قال لا قال ذاك شيطان" رواه البخاري. فلم يمتنع أبو هريرة من الانتفاع من هذا الشيطان السارق بل انتفعت الأمة بعده إلى قيام الساعة بعد إقرار النبي لصدقه.

ولا زال طلاب الآخرة متى ما تبين لهم الحق رجعوا له ولم يستنكفوا من الاعتراف بخطئهم والتبريء منه. ذكر أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن عن شيخه محمد بن قاسم العثماني قال أخبرني غير مرة: "وصلت الفسطاط مرة، فجئت مجلس الشيخ أبي الفضل الجوهري، وحضرت كلامه على الناس، فكان مما قال في أول مجلس جلست إليه: إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وظاهر وآلى، فلما خرج تبعته حتى بلغت معه إلى منزله في جماعة، فجلس معنا في الدهليز، وعرفهم أمري، فإنه رأى إشارة الغربة ولم يعرف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه، فلما انفض عنه أكثرهم قال لي: أراك غريباً، هل لك من كلام؟ قلت: نعم .قال لجلسائه: أفرجوا له عن كلامه. فقاموا وبقيت وحدي معه. فقلت له: حضرت المجلس اليوم متبركاً بك، وسمعتك تقول: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت، وطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت.

وقلت: وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لم يكن، ولا يصح أن يكون؛ لأن الظهار منكر من القول وزور؛ وذلك لا يجوز أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم. فضمني إلى نفسه وقبل رأسي، وقال لي: أنا تائب من ذلك، جزاك الله عني من معلم خيراً. ثم انقلبت عنه، وبكرت إلى مجلسه في اليوم الثاني، فألفيته قد سبقني إلى الجامع، وجلس على المنبر، فلما دخلت من باب الجامع ورآني نادى بأعلى صوته: مرحباً بمعلمي؛ أفسحوا لمعلمي، فتطاولت الأعناق إلي، وحدقت الأبصار نحوي، -وتعرفني: يا أبا بكر يشير إلى عظيم حيائه، فإنه كان إذا سلم عليه أحد أو فاجأه خجل لعظيم حيائه، واحمر حتى كأن وجهه طلي بجلنار- قال: وتبادر الناس إلي يرفعونني على الأيدي ويتدافعوني حتى بلغت المنبر، وأنا لعظم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض، والجامع غاص بأهله، وأسال الحياء بدني عرقاً، وأقبل الشيخ على الخلق، فقال لهم: أنا معلمكم، وهذا معلمي؛ لما كان بالأمس قلت لكم: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلق، وظاهر؛ فما كان أحد منكم فقه عني ولا رد علي، فاتبعني إلى منزلي، وقال لي كذا وكذا؛ وأعاد ما جرى بيني وبينه، وأنا تائب عن قولي بالأمس، وراجع عنه إلى الحق؛ فمن سمعه ممن حضر فلا يعولْ عليه. ومن غاب فليبلغه من حضر؛ فجزاه الله خيراً؛ وجعل يحفل في الدعاء، والخلق يؤمنون.

فانظروا رحمكم الله إلى هذا الدين المتين، والاعتراف بالعلم لأهله على رءوس الملإ من رجل ظهرت رياسته، واشتهرت نفاسته، لغريب مجهول العين لا يعرف من هو ولا من أين أتى، فاقتدوا بحسن توجيه الطالب و بإقرار الشيخ بالخطأ أمام الملأ ترشدوا ولم يكن ذلك الاعتراف من العالم بالخطأ مزرياً به بل أصبح منقبة من مناقبه.

 


تم تحميل المحتوى من موقع