اغتنام الأوقات والمبادرة إلى الحج

عبد الله بن محمد الطيار
عناصر الخطبة
  1. وجوب اغتنام الوقت والحذر من إضاعته .
  2. موقفان يتحسر عندهما العبد على إضاعة وقته .
  3. على المسلم أن يبادر لأداء فريضة الحج ما دام مستطيعا .
  4. ما يُشرع حال الكسوف .

اقتباس

فليكنْ لدى الجميعِ -وخاصةً شبابنَا المبارك- أن يهتموا بأوقاتِهم، وأن ينظروا في مصالِحهم ومصالحِ بلادِهم، وأن يفكروا التفكيرَ الجادَّ المفيدَ لشغلِ تلك الأوقاتِ بما ينفعُهم في الدنيا والآخرة...

الخطبة الأولى:

الحمد للهِ الكريمِ المنانِ، ذي الفضلِ والإحسانِ، أفاضَ علينا بنعمةِ الإسلامِ والإيمانِ، وأعطانا من الفضائلِ والنِّعَمِ ما لم يُعطِ أحدًا من العالَمين، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- أيها المؤمنون والمؤمنات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون)[الحشر:18].

عبادَ الله: يقول صلى الله عليه وسلم: "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغِكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ" (رواه الحاكم، وصححه).

يقولُ ابن القيم -رحمه الله-: "فالعارفُ ابنُ وقتِه، فَإِنْ أضاعَه ضاعتْ عليهِ مصالحُه كلُّها، فجميعُ المصالحِ إنما تنشأُ مِنَ الوقت، فمتَى أضاعَ الوقتَ لم يستدرِكْه، فوقتُ الإنسانِ هو عمرُه في الحقيقةِ، وهو مادةُ حياتِهِ الأبديةِ في النعيمِ المقيمِ، ومادةُ المعيشةِ الضنكِ في العذابِ الأليمِ، وهو يمرّ أسرعَ مِن مَرِّ السحابِ، فما كان مِن وقتِه لله وبالله فهو حياتُه وعمرُه، وغيرُ ذلك ليس محسوبًا مِن حياتِه، وإنْ عاشَ فيه عيشَ البهائم، فإذا قَطَعَ وقتَه في الغفلةِ والشهوةِ والأمانيّ الباطلةِ، وكان خيرُ ما قطعه بالنومِ والبطالةِ، فموتُ هذا خيرٌ له مِن حياتِه، وإذا كان العبدُ -وهو في الصلاةِ- ليس له من صلاتِه إلا ما عَقَلَ منها، فليس له من عمرهِ إلا ما كان فيه بالله وله".

أيها المؤمنون: إنَّ رأسَ مالِ المسلمِ في هذه الدنيا عمرُه، فهو عبارةٌ عن أيامٍ معدودةٍ، وأنفاسٍ محدودةٍ، فإن استثمره في الخيرِ فطوبى له وحُسنُ مئاب، وإن أضاعه وفرَّط فيه خَسِرَ خسرانًا مبينًا، وفي عصرِنا هذا الذي تفشَّى بين الناسِ كثرةُ العجزِ، والميلُ إلى الدَّعةِ والراحةِ، فسببَّ ذلك جدبًا في الطاعةِ، وقحطًا في العبادةِ، وتركًا للعملِ المفيدِ، وموتَ الهمّةِ، وَضَعْفَ العزيمةِ، حتى إن السنوات والأيام والساعاتِ واللحظاتِ تمرُّ مرورَ الكرامِ، ولا يُحسبُ لها حساب، بل قد اشْتُهِرَ بين الناسِ مَنْ ينادي فيهم: "هيا بنا نقضي وقتَ الفراغِ"، وأيُّ فراغٍ ينادي لهُ، والربُّ -جلَّ وعلا- يقول لنبيه -عليه الصلاة والسلام- (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَب * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب)[الشَّرح: 7-8].

عباد الله: أُذكِّر نفسي وإيِّاكم بأنَّ هذا الإهمالَ الكبيرَ بالوقتِ في حياتِنا سوف نتحسَّرُ عليهِ أشدَّ الحسرةِ في موقفينِ شديدينِ على العبد، واحدٍ في الدنيا، والثاني في الآخرة.

فالأول عند ساعةِ الاحتضارِ، حينَ نودِّع الدنيا ونستقبلُ الآخرة، ونتمنَّى لو مُنِحَنا مهلةً من الزمن، وأُخِّرنا إلى أجلٍ قريبٍ لنُصلِحَ ما أفسدَنا، ونتداركَ ما فاتَنا، يقول الله -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون: 9-11].

والثاني في الآخرة؛ حيث تُوفَّى كلُّ نفسٍ ما عملتْ وتُجزَى بما كسبت، (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِين * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِين * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الزُّمَرِ: 56 -58].

عباد الله: وبلادُنا -حرسها الله- تبذلُ الكثيرَ من الجهدِ والمالِ من أجلِ إفادةِ مواطِنيها وشبابِها وفتحِ مجالاتِ العملِ لهم، ومساعدتِهم على بناءِ أنفسهِم ونفعِ مجتمعِهم، وفتحِ الطرقِ الْمُوصِلَةِ إلى النجاحِ في أمورِ دنياهُم وآخرتِهم.

فليكنْ لدى الجميعِ -وخاصةً شبابنَا المبارك- أن يهتموا بأوقاتِهم، وأن ينظروا في مصالِحهم ومصالحِ بلادِهم، وأن يفكروا التفكيرَ الجادَّ المفيدَ لشغلِ تلك الأوقاتِ بما ينفعُهم في الدنيا والآخرة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون)[النحل: 97].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذِّكْر الحكيم، أقول ما سمعتُم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الذي علَّم أمتَه كلَّ خيرٍ، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: ففي هذهِ الأيامِ المباركةِ يستعدُّ كثيرٌ من المسلمين في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها لتلبيةِ أمرِ اللهِ -جلَّ وعلا- لأداءِ فريضةِ الحجِّ، محبَّةً وشوقًا، مستجيبينَ لأمْرِ اللهِ -تعالى-: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا...)[آل عمران: 97]، وأمرِ رسولِه -صلى الله عليه وسلم-: "من حجَّ للهِ فلم يرفثْ ولم يفسقْ رجعَ كيومِ ولدته أمُّه" (رواه البخاري ومسلم)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة" (رواه البخاري ومسلم).

فعلى كلِّ مسلم أن يبادرَ إلى أداءِ فريضةِ الحجِّ إذا كانَ مستطيعًا، ولا يسوغُ لهُ أن يتأخرَ وهو قادرٌ مستطيعٌ، بلْ عليهِ أن يبادَر بأدائهِ قبلَ أن يَعرضَ لهُ عارضٌ، لقولهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تعجّلوا إلى الحجِّ فإن أحدَكم لا يدري ما يَعرضُ له" (رواه أحمد، وصححه الألباني).

وإن تأخَّرَ لعذرٍ شرعيٍ كالمرضِ، ثم توفي ولم يحجَّ وجبَ على ورثتهِ أن يحجوا عنه من تركتِه إن ترك مالًا، أو يتطوعَ بعضُ أقاربِه أو غيرِهم أن يحجُّوا عنه من غير ماله، وكلُّ ذلكَ يجزئُه.

ومن أخَّر الحجَّ وهو قادرٌ مستطيعٌ ولا يمنعُه مانعٌ فإنَّه يأثمُ لهذا التأخيرِ.

أسأل الله -تعالى- أن يكتب لنا ولكم حجَّ بيت الله هذا العام، إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.

واعلموا -بارك اللهُ فيكم- أنَّه يُشرعُ حالَ الكسوفِ ما يأتي:

"الصلاةُ، والدعاءُ، والتكبيرُ، والصدقةُ، والتعوذُّ باللهِ من عذابِ القبرِ، وَذِكْرُ اللهِ عُمومًا، والاستغفارُ، والتسبيحُ، والتحميدُ، والتهليلُ، والتعوذُّ باللهِ من عذابِ النَّارِ، وإظهارُ الفزعِ الشديدِ، والخوفُ من اللهِ، ووعظُّ النَّاسِ وإرشادُهم بعدَ الصلاة".

وينبغي لمن كان عندهم مناسبة في وقت الكسوف أن يُرُوا اللهَ في أنفسهم خيرًا، وألا يفعلوا ما يُغضب اللهَ -جل وعلا-؛ فهذا الوقت وقت عبادة وتضرُّع وخوف من الله -جل وعلا-.

واعلموا أن الركعة من صلاة الكسوف لا تُدْرَك إلا بالركوع الأول؛ لأنه الركن، وكل ركعة في صلاة الكسوف لها ركوعان وسجودان.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: ٥٦].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي