فإياكم وهذه الدعوات الخطيرة التي تدعو إلى التكفير والتفجير، واعلموا أن من أعظم الواجبات الرجوع لأهل العلم الموثوق بعلمهم فيما يُشْكِلُ عليكم؛ لأن الله جعلهم هداة مهتدين. نسأل الله أن يجتث هذه الأفكار الدخيلة من بيننا...
الخطبة الأولى:
أما بعد فيا أيها الناس: لا تستقيم الحياة ولا تنتشر السعادة إلا بالأمن في الأوطان، وما جُلِبَ الأمنُ بمثل طاعة الله، واجتناب معصيته، وإحلال العدل بين الناس، قال جل وعلا: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الْأَنْعَامِ: 82]، وهذا أمن عامّ في الدنيا والآخرة.
معاشر المسلمين: الكل في هذه المعمورة ينشد الأمنَ، الذي لا حياةَ بدونه، ولا استقرار، بل لا يستطيع العبدُ أن يعبد ربَّه بدون الأمن، نعمة الأمن نعمة عظيمة كفرها كثير من الخَلْق، حتى تبدلت أحوالُهم من بعد الأمن خوفا، وأصابهم الجوع، فالفقر مربوط بالخوف، فمتى ما خاف العبد ولم يأمن جاءه الخوف، وهذا كله جزاء لأعمالهم قال جل ذكره: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النَّحْلِ: 112].
معاشر المسلمين: نحن -كما لا يخفى على كل عاقل- نعيش في أمن وأمان، ورغد من العيش، في حين أن كثيرا من البلدان من حولنا فقدوا تلك النعمة، وحل بهم بأس الله، فعلى العاقل اللبيب أن يسعى في حفظ هذه النعمة التي يغبطنا، بل يحسدنا عليها كثيرٌ من الشعوب، وحفظُ هذه النعمة يكون بعدة أمور، نمر على بعضها سريعا:
أولا: إقامة شرع الله، وإرساء العدل بين الخلق، فالأمن مربوط بتطبيق شرع الله، وقد تكفل الله بذلك لمن فعل ذلك قال جل ذكره: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا)[النُّورِ: 55].
ومنها: فعل الطاعات وترك المنكرات، فما سقطت الدول بمثل معصية الله، قال جل ذكره: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الرُّومِ: 41].
ومتى ما انتشرت المنكرات، ولم يُنكرها أهلُ الخير، إلا سلَّط الله عليهم شرارهم، فأفسدوا في الأرض فحق عليهم العذاب كما قال سبحانه: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[الْإِسْرَاءِ: 16].
أيها المؤمنون: ومن أسباب حفظ الأمن في البلاد تعليم الناس الدين؛ فرائضَه وواجباتِه وسُنَنَه، فمهما كثر الشرُّ فتعليم الناس الدينَ يدحر ذلك، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ بدء دعوته وحتى توفاه الله، وهو ينشر الدينَ ويعلم الناس ما أوجب الله عليهم، ومتى ما اشتغل الناس بالسياسة، والقيل والقال، وأعرضوا عن تعلُّم الدين إلا نُزِعَ الأمن من بين أظهرهم شيئا فشيئا، -والعياذ بالله-.
وإن من وسائل حفظ الأمن: السير على فهم السلف الصالح.
فإن مما يذهب بأمن الناس: انتشار المفاهيم الخاطئة حيال نصوص القرآن والسنة، وعدم فهمهما بفهم السلف الصالح، وهل كُفِّر الناس وأريقت الدماء وقُتل الأبرياء وخُفرت الذمم بقتل المستأمنين وفُجِّرت البقاع إلا بهذه المفاهيم المنكوسة.
فإياكم وهذه الدعوات الخطيرة التي تدعو إلى التكفير والتفجير، واعلموا أن من أعظم الواجبات الرجوع لأهل العلم الموثوق بعلمهم فيما يُشكل عليكم؛ لأن الله جعلهم هداة مهتدين. نسأل الله أن يجتث هذه الأفكار الدخيلة من بيننا.
ومن وسائل حفظ الأمن كذلك: معاملة الحاكم بمنهج السلف، فلا يُخرَج عليه، ولا يُنصَح على الملأ؛ لأن ذلك يسبِّب الفوضى والخروج عليه؛ وبالتالي حرمان الناس من الأمن، وإراقة الدماء، ووقوع البلابل والفتن.
فمهما كثر الشرُّ وانتشرت المنكراتُ، فلا يجوز التهور، ومنابذة ولي الأمر، والخروج عليه بالقول أو الفعل، فإن ذلك من أسباب زوال الأمن، والواقعُ من حولنا شاهدٌ بذلك، والواجب على العبد أن يسير على المنهج النبوي في معالجة ذلك بالنصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإنكار الشرّ حسب الاستطاعة، والمحافظة على الأمن، حتى تصلح الأمور، فإن الدين غالب، ولا يحيق المكرُ السيءُ إلا بأهله.
اللهم آمِنَّا في دُورِنَا وأوطانا... أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أما بعد فيا أيها الناس: لقد امتن الله في القرآن على عباده بنعمة الأمن في الأوطان فقال تعالى: (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ)[القصص: 57]. وقال سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)[العنكبوت: 67]. وقال: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا)[البقرة: 125].
وامتن الله بهذه النعمة على أصحاب نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فقال: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الأنفال: 26].
ولولا عظيم قدر هذه النعمة لَمَا امتن الله بها، وانظر إلى نبي الله إبراهيم لَمَّا دعا لقومه وبلده دعا بالأمن قبل الرزق: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ)[الْبَقَرَةِ: 126]، ويوسف -عليه السلام- يطلب من والديه دخولَ مصر مُخْبِرًا باستتباب الأمن بها: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)[يوسف: 99].
ولَمَّا خاف موسى أعلمَه ربُّه أنه من الآمنين ليهدأ رَوْعه، وتسكن نفسه (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)[القصص: 31].
(وفي صحيح مسلم) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رحم أهلَ مكة يوم فتحها ذكَّرهم بما ينالون به الأمن؛ مما يدل على أهميته لدى المؤمنين والكافرين، فقال: "مَنْ دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمِنٌ، ومن ألقَى السّلاحَ فهو آمِنٌ، ومن دخل المسجدَ فهو آمن".
معاشر المؤمنين: إن الاعتداء على رجال الأمن بكافة أنواعهم، اعتداء صارخ على الأمن، فنحن ننام آمنين على فرشنا -ولله الحمد- وهم يسهرون على أمننا، انظروا إليهم على الحدود، فلولا حفظ الله ثم جهودهم لوصل أعداء الله إلى الحرمين وهذه هي مقاصدهم، وانظروا إليهم داخل البلد، وهم يقاومون الشر حسب استطاعتهم، ويحافظون على الأمن، فأكثِرُوا لهم من الدعاء، واعرفوا حقهم عليكم.
اللهم احفظ جنودنا الذين يذودون عن بلادنا ومقدساتنا ويحاربون الأشرار والفجار، وينشرون الأمن في البلاد يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين…
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي