المقصود هنا بصيام الجوارح هو حفظها من كل قول أو فعل محرم يؤدي إلى تقليل أجر الصائم، وقد بيّن لنا النبي –صلى الله عليه وسلم- أن الأقوال والأفعال المحرمة تنقص من أجر الصائم؛ حيث قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
المقصود هنا بصيام الجوارح هو حفظها من كل قول أو فعل محرم يؤدي إلى تقليل أجر الصائم، وقد بيّن لنا النبي –صلى الله عليه وسلم- أن الأقوال والأفعال المحرمة تنقص من أجر الصائم؛ حيث قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". رواه البخاري وأبو داود.
ونسبة الصيام هنا للجوارح هو من باب نسبة الفعل إلى جارحة الفاعل؛ لأنه هو الذي قام بهذا الفعل، وقد نسب النبي –صلى الله عليه وسلم- الفعل إلى الجوارح فقال: "العينان تزنيان وزناهما النظر، واللسان يزني وزناه النطق، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه". متفق عليه.
قال ابن حجر -رحمه الله- في كتابه فتح الباري: "واحتج للشافعي فيما ذكر الخطابي بأن الأفعال تضاف للأيدي لقوله تعالى: (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى:30]، وقوله: (بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) [الحج: 10]، وليس المراد في الآيتين جناية الأيدي فقط، بل جميع الجنايات اتفاقًا، فكأنه إذا قال: "زنت يدك" وصف ذاته بالزنا؛ لأن الزنا لا يتبعض".
ووقوع الجوارح هنا في المحرمات ليس من المفطرات الحسية للصائم؛ ولهذا قال العلماء: إن هذه المعاصي تؤدي إلى نقصان أجر الصائم، وقد نقل ابن الوزير الاتفاق على أن الكذب والغيبة يكرهان للصائم ولا يفطرانه، وهذه الجوارح التي يجب على المسلم حفظها ومنعها من فعل المحرمات والحرص على أن تصوم عنها هي ما يلي:
صيام اللسان: وهو منعه من القول المحرم، سواء في نهار رمضان أثناء الصيام أم في الليل بعد إفطار الصائم، وقد ذكر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خطورة اللسان على صيام المسلم بقوله: "من لم يدع قول الزور"، والمقصود بـ"قول الزور" هو كل قول مائل عن الحق، ومنه الكذب والبهتان والسب والشتم والغيبة والنميمة، ومن أعظمه شهادة الزور الكاذبة في أخذ الباطل أو إبطال الحق.
وقد بيّن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أهمية حفظ الصيام من كل قول محرم يخل بهذا الصيام، فقال –صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم". متفق عليه.
وقد بين الله تعالى في كتابه الكريم أن الإنسان محاسب على كل كلمة يقولها، فقال -سبحانه وتعالى-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]، والرقيب: هو ملَك يراقبه، وأما العتيد أي إنه حاضر معه.
كما نبّه رسول الله على أهمية حفظ اللسان فقال: "من يضمن لي ما بين لحييه -أي: لسانه- وما بين رجليه -أي: فرجه- أضمن له الجنة". متفق عليه.
قال النووي -رحمه الله-: "اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء".
صيام العينين: ويكون بامتناعهما عن النظر لكل ما هو محرم من عورات لا تحل، أو نساء متبرجات، أو نظر امرأة لرجل بشهوة أو غير ذلك، فإن وقع المسلم في شيء من ذلك فإن ذلك ينقص أجر صيامه، وقد نبه إلى ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عندما نسب الزنا إلى العينين عند النظر إلى ما هو محرم، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه". متفق عليه.
قال ابن حجر في فتح الباري: "قال ابن بطال: سمي النظر والنطق زنا لأنه يدعو إلى الزنا الحقيقي، ولذلك قال: "والفرج يصدق ذلك ويكذبه"".
صيام الأذنين: ويقتضي منعهما من الاستماع للكلام المحرم، كالاستهزاء بالله -عز وجل-، أو برسوله، أو بالدين الإسلامي، أو بشعيره من شعائره، أو كالغيبة أو النميمة أو الأغاني المحرمة، ومما يدل على نقص الصيام عند استماع الكلام المحرم نهي النبي –صلى الله عليه وسلم-؛ حيث قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، ولا شك أن استماع المحرمات هو من الجهل الذي نهى عنه النبي –صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث.
وقد نهى الله تعالى في كتابه الكريم عن استماع المحرمات فقال سبحانه: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) [القصص: 55]، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون:3]، وقال سبحانه: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء:36].
وأما إذا وُجد المسلم أو المسلمة في مكان فيه غيبة أو نميمة فإنه إما أن يرد عن عرض أخيه المسلم ويمنع المغتاب أو النمام من ذلك؛ لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة". رواه الترمذي وأحمد بسند حسن. وإذا لم يستطع المسلم الرد عن عرض أخيه أو كان في مجلس فيه كلام محرم، كسبِّ الله -جل جلاله-، أو سب النبي –صلى الله عليه وسلم-، أو سب الإسلام أو غيبة أو نميمة، فإنه يجب عليه أن يفارق هذا المجلس؛ لقول الله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 68]، وقوله سبحانه: (الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا) أي: الذين يخوضون فيها بالطعن والاستهزاء.
وكذا يحرم على المسلم استماع الأغاني؛ لما ثبت عن رسول الله فيما رواه الإمام البخاري تعليقًا ووصله ابن حجر حيث قال: "ليأتين على الناس زمان يستحلون فيه الحر والحرير والخمر والمعازف".
وسمعك صن عن سماع القبيح *** تصون اللسان عن النطق به
فإنك عند استماع القبيـح *** شريـك لقـائله فـانتبـه
صيام اليدين والرجلين: وصيام اليدين يكون بامتناعهما عن فعل الحرام من أخذ للمال الحرام، أو تناول المشروب أو المطعوم المحرم، أو البطش وإلحاق الأذى بالآخرين، أما صيام الرجلين فبمنعهما من السير إلى الأمور المحرمة أيًّا كانت هذه الأمور، وقد نبه إلى ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بقوله: "العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يزني". رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع (4150).
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: "وفي الرواية الثانية: "كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة؛ فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه". ومعنى الحديث: أن ابن آدم قدّر عليه نصيب من الزنا، فمنهم من يكون زناه حقيقيًّا بإدخال الفرج في الفرج الحرام، ومنهم من يكون زناه مجازًا بالنظر الحرام أو الاستماع إلى الزنا وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية بيده أو يقبلها، أو بالمشي بالرجل إلى الزنا، أو النظر، أو اللمس، أو الحديث الحرام مع أجنبية، ونحو ذلك، أو بالفكر بالقلب. فكل هذه أنواع من الزنا المجازي. "والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه" معناه: أنه قد يحقق الزنا بالفرج، وقد لا يحققه بأن لا يولج الفرج في الفرج وإن قارب ذلك. والله أعلم".
صيام القلب: ويصوم القلب عن المحرمات التي لا ترضي الله تعالى من كبر وحسد أو غل وحقد على أحد من المسلمين، فإن كان القلب يحمل كفرًا أو نفاقًا يخرج صاحبه من الملة، فإن هذا يتنافى مع الصيام أصلاً، فإن من شروط الصيام أن يكون الصائم مسلمًا، وما كان دون ذلك من المعاصي القلبية فإنها -والله أعلم- تنقص أجر الصائم، فقد ذكر رسول الله تحريم الأعمال التي يحملها المسلم في قلبه على إخوانه المسلمين فقال: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا". متفق عليه.
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: "المراد النهي عن ظن السوء، قال الخطابي: هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس؛ فإن ذلك لا يملك".
ومراد الخطابي أن المحرَّم من الظن ما يستمر صاحبه عليه ويستقر في قلبه، دون ما يعرض في القلب ولا يستقر؛ فإن هذا لا يكلف به كما سبق في حديث: "تجاوز الله تعالى عما تحدثت به الأمة ما لم تتكلم أو تعمد"، وسبق تأويله على الخواطر التي لا تستقر. ونقل القاضي عن سفيان أنه قال: الظن الذي يأثم به هو ما ظنه وتكلم به، فإن لم يتكلم لم يأثم. قال: وقال بعضهم: يحتمل أن المراد الحكم في الشرع بظن مجرد من غير بناء على أصل ولا نظر واستدلال، وهذا ضعيف أو باطل، والصواب الأول.
كما حذَّر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من الكبر فقال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس". رواه مسلم.
فهل حفظنا -أخي المسلم وأختي المسلمة- صيامنا من كل ما يخل به أو ينقص من أجره، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر". رواه ابن ماجه وأحمد والبيهقي. وصححه السيوطي في الجامع الصغير والألباني في صحيح الجامع الصغير (3490).
قال الإمام عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "ويجب على المسلم أن يصون صيامه وقيامه عما حرم الله عليه من الأقوال والأعمال؛ لأن المقصود بالصيام هو طاعة الله سبحانه وتعظيم حرماته وجهاد النفس على مخالفة هواها في طاعة مولاها، وتعويدها الصبر عما حرم الله، وليس المقصود ترك الطعام والشراب وسائر المفطرات".
ولا يخفى على كل مسلم أن الله تعالى قد فرض علينا الصيام وأمرنا به من أجل أن نكون من المتقين، فقال -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]. قال البغوي في معالم التنزيل (1/149): "(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يعني بالصوم؛ لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات"، وقال ابن كثير في تفسيره (1/289): "لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان"، وقال ابن الجوزي في زاد المسير (105): "قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)؛ لأن الصيام وصلة إلى التقى؛ إذ هو يكف النفس عن كثير مما تتطلع إليه من المعاصي، وقيل: لعلكم تتقون محظورات الصوم".
ويجب حفظ الجوارح مما ينقص أجر الصائم في رمضان حتى في غير وقت الصيام، وذلك بوجوب صيامها عن المحرمات، فيجب صيام البطن عن أكل أو شرب الحرام في الوقت الذي يجوز فيه الأكل، أي: من بعد المغرب إلى أذان الفجر، فإن أكل محرمًا أو شرب محرمًا فإن ذلك يقلل من أجر الصائم، فمِن أكل الحرام أكل الأموال المحرمة كالربا والغش وأكل المخدرات والحشيش والقات وغيرها، أما شرب المحرمات فكشرب الدخان والشيشة والمسكرات كالخمر وغير ذلك مما حرم الله شربه، أما لو شرب الصائم أو أكل شيئًا حلالاً أو محرمًا في وقت الصيام؛ فإنه يبطل الصوم بالإجماع.
وكذا من صيام الجوارح صيام الفرج عن الزنا وعمل قوم لوط والاستمناء أثناء الليل، فإن فِعل هذه المحرمات يقلل أجر الصائم، أما فعل هذه المحرمات أثناء النهار فإنه مفطر، أسأل الله السلامة والعافية، وأسأله -سبحانه وتعالى- أن يجعلني وإخواني المسلمين من المتقين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين...
الخطبة الثانية
لم ترد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي