وسلامة القلب علامة من علامات النجاة يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؛ لذلك كان الاهتمام بتصحيح القلب أوّل ما يعتمد عليه السالكون، والنظر في أمراضه وعلاجه أهمّ ما تنسك به الناسكون؛ حتى يلاقوا ربهم به سليمًا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ..
أيها الأحبة في الله: إن القلب موضع نظر الربِّ سبحانه؛ فإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والهيئات، ولا إلى الأجساد والثروات، ولكنه ينظر إلى القلوب والطاعات، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". رواه مسلم.
فالقلب موضع نظر الرب -سبحانه وتعالى-، وما ذاك إلا لأنه سيّد الأعضاء كما قال ابن القيم -رحمه الله-: إن القلب للأعضاء كالملك المتصرف في الجنود التي تصدر كلها عن أمره، فتكتسب منه الاستقامة أو الزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله. اهـ.
إذَا القلوب استرسلت في غيها *** كانت بليّتها على الأجسام
قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". رواه البخاري.
وسلامة القلب علامة من علامات النجاة يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؛ لذلك كان الاهتمام بتصحيح القلب أوّل ما يعتمد عليه السالكون، والنظر في أمراضه وعلاجه أهمّ ما تنسك به الناسكون؛ حتى يلاقوا ربهم به سليمًا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
عباد الله: علم إبليس -عدوّ الله- مكانة القلب، فأجلب عليه بخيله ورجله، وأقبل عليه بالوساوس تارة، وبالشهوات والشبهات تارة أخرى، فزين للنفس من الأحوال والأعمال ما يصدها عن طريق الله المتعالي، ونصب من الحبائل والمصائد ما يجعل به العبد عن الله شاردًا، فتغيرت القلوب وتبدّلت، وانصرفت عن الله وتحولت، حتى انقسم الناس إلى: صاحب قلب سليم مقبل على الله ومرضاته، وصاحب قلب مريض يصارع نفسه وشيطانه، وصاحب قلب ميت لا يعرف ربّه ولا يؤدّي حقه ولا يستجيب لداعيه.
إذا قسا القلب لم تنفعه موعظةٌ *** كالأرض إن سبخت لم ينفع المطر
أحبتي في الله: إن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ولزيادة الإيمان ونقصه أثر في القلوب، فكلّما زاد الإيمان أثّر في القلب وزاد في انكساره ورقّته، وكلما نقص الإيمان وانشغلت النفس بالفتن زاد مرض القلب وعلته وزاد بُعده واشتدت قسوته.
نعم -أحبّتي في الله-، ما رقّ قلبٌ لله -عز وجل- إلا كان صاحبه سابقًا إلى الخيرات، مشمّرًا في الطاعات والمرضاة، وما رق قلب لله إلا وجدتَ صاحبه إذا ذكِّر بالله تذكّر، وإذا بصِّر به تبصّر، وما رقّ قلب لله إلا كان أبعد ما يكون عن معاصي الله.
وإن لرقّة القلب علامات، فمن علامات رقة القلب أن لا يفتر صاحبه عن ذكر ربّه، فإن ذِكْرَ الله تطمئن به القلوب، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]. وفي القلب فاقه لا يسدّها إلا ذكر الله، فيكون صاحبه غنيًا بلا مال، عزيزًا بلا عشيرة، مهيبًا بلا سلطان؛ قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد: أشكو قسوة قلبي! قال: أذِبه بذكر الله.
ومن علامات رقّة القلب أن يكون صاحبه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، ووجد فيها راحته ونعيمه وقرّة عينه وسرور قلبه، وسبحان الله! نحن الواحد منا إذا دخل في الصلاة تذكّر أمور دنياه، وما هذا إلا لقسوة في القلب.
ومن علامات رقه القلب أن صاحبه إذا فاته ورده أو طاعة من الطاعات وجد لذلك ألمًا أعظم من تألم الحريص بفوات ماله ودنياه.
ومنها أن صاحبه يخلو بربّه فيتضرع إليه ويدعوه، ويتلذّذ بين يديه سبحانه، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: اطلب قلبك في مواطن ثلاثة: عند سماع القرآن، وعند مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده فسَل الله قلبًا، فإنه لا قلب لك.
ولعلنا نسأل أو نتساءل: من أين تأتي رقة القلوب وانكسارها وإنابتها إلى ربها؟! ومن الذي يتفضل عليها بإخباتها؟! إنه الله -سبحانه وتعالى-؛ فالقلوب بين إصبعين من أصابعه، يقلبها كيف يشاء، كما قال –صلى الله عليه وسلم-: "قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله -عز وجل-، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه". رواه الطبراني والحاكم وصححه.
اللهم -يا مثبت القلوب والأبصار- ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم -يا مقلب القلوب والأبصار- ثبت قلوبنا على دينك.
فإذا أرسل الله سبحانه على القلب رحمة فإنها تتغلغل فيه، وتحوّل ذلك القلب من القسوة إلى الرقة، ومن الغفلة إلى اليقظة، ومن البعد عن الله إلى القرب منه سبحانه، فبعدما كان العبد جريئًا على التفريط في جنب الله، متساهلاً بأوامر الله، فإذا به يتغير حاله، وتحسن عاقبته ومآله، يعرف لله حقوقه، وينفر من عصيانه، ويخشى عقابه، ويرجو ثوابه.
أحبتي في الله: إن رقه القلب هي النعمة التي ما وجدت نعمة على الأرض أجل وأعظم منها، وما من قلب يحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعودًا بعذاب الله، قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 22]؛ لذلك ما من مؤمن صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر: كيف أرقّق قلبي لذكر الله ومحبة الله؟!
اعلموا -رحمكم الله- أنّ لرقه القلب أسبابًا وسبلاً، أولها: الإيمان بالله؛ فما رقّ قلب بسبب أعظم من الإيمان بالله، ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا رقّ قلبه وصفت سريرته، فلا تأتيه الآية من الله والحديث عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلا قال بلسان حاله ومقاله: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285].
ومن أسباب رقه القلب: النظر والتدبر في كتاب الله وآياته، قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24]، فالمؤمن المتدبر لآيات الله هو أرق الناس قلبًا وأنقاهم نفسًا، وما قرأ العبد هذه الآيات متفكرًا متدبرًا إلا والعَين تدمع والقلب يخشع والنفس تخضع، وإذا بأرض هذا القلب تنقلب خصبة غضّة طرية، تنبت في النفس السكينة والخضوع لله رب العالمين، (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر: 23].
إن هذا القرآن موعظة رب العالمين، وكلام إله الأولين والآخرين، فما قرأه عبد يرجو الهداية إلا وتيسرت له أسبابها، واتضحت له طرائقها، هذا القرآن الذي حوّل قلوب الصحابة من الظلمة إلى الإشراق، ومن الغلظة إلى الرقة، فها هو عمر بن الخطاب يسمع آيات من سورة طه فتملأ قلبه القاسي رقة وخشية، وها هو الطفيل بن عمرو الدوسي يسمع آيات من الذكر الحكيم فيسارع إلى هذا الدين مؤمنًا مستجيبًا لأوامره داعيًا قومه إليه، وهذا أسيد بن حضير جاء ليمنع مصعب من الدعوة في المدينة فيشير عليه مصعب بسماع بعض الآيات، فما هي إلا آيات تتلى وإذا بها تسري إلى القلب سريان النور في الظلماء، حتى يسلم أسيد ويتحول من محارب للإسلام إلى داع إليه؛ لذلك ما أدمن عبد تلاوة القرآن إلا رق قلبه من خشية الله.
ومن الأسباب المعينة على رقة القلب: تذكّر الآخرة وأهوالها، والجنة ونعيمها، والنار وجحيمها، أعاذنا الله وإياكم من النار، أن يتذكر العبد أنه إلى الله صائر، وأنه ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، فإذا تذكر الإنسان أن الحياة زائلة، وأن المتاع فانٍ فإنه حينئذ يحتقر الدنيا، ويقبل على ربها، عندئذ يرق قلبه وتخشع جوارحه.
إن انشغال النفس بالدنيا ومتاعها لمن أكبر أسباب قسوة القلب، فهي التي تجعل العبد ينشغل بالمظهر عن الجوهر، وبالمبنى دون تحقيق المعنى، ويصبح اللهو سمة له؛ لذا كان التفكر في اليوم الآخر كالحادي الذي يسوق النفوس إلى ربها، ويرقق القلوب بعد قسوتها واغترابها، ويردعها عن غيها، وذلك لأن يوم القيامة هو يوم الحسرة، وما أدراك ما يوم الحسرة؟! إنه يوم خَوَّف الله به، وتهدّد وأنذر به وتوعد، قال تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [مريم: 39]، وأي حسرة أعظم من فوات رضوان الله وجنته واستحقاق النار؟! أعاذنا الله من النار.
يوم القيامة لا يتذكر العبد نعيمًا تنعم به في الدنيا ولا شقاء أصابه في الدنيا، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بأنعم أهل الأرض، فيغمس في النار غمسة، فيقال: هل رأيت نعيمًا قط؟! فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشقى أهل الأرض، فيغمس في الجنة غمسة، فيقال: هل رأيت بؤسًا قط؟! فيقول: لا والله يا رب". رواه مسلم.
ذلك اليوم العظيم المهيب الذي تشخص فيه الأبصار، ويشيب فيه الولدان: (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) [المزمل: 17]، الولد الذي لا ذنب له، ورفع عنه القلم، يشيب من هوله، فما بالنا بمن اسودّت من الذنوب صحائفه؟! ذلك اليوم العبوس القمطرير الذي تذهل فيه المرضعات عن الرضيع، ويتمايل الناس سكارى وما بهم سكر، ولكنه الخوف من عذاب الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1، 2].
وذلك يوم يكون الناس كالجراد المبثوث، وتكون الجبال كالعهن المنفوش، يوم تتطاير الصحف: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة: 19-29]، يوم يقال لآدم: "يا آدم: أخرج بعث النار، فيقول: يا رب: وما بعث النار؟! فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة". رواه البخاري.
يوم القيامة يوم تدنو الشمس من الرؤوس حتى تكون قدر ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم من العرق: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 34-37]، هذا اليوم لا ينجو فيه إلا أصحاب القلوب السليمة: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88، 89].
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يظلنا بظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يؤمننا يوم الفزع الأكبر، وأن يدخلنا الجنة بغير حساب ولا سابق عذاب، وأن يرقق قلوبنا ويصلح أحوالنا، إنه هو البر الرحيم.
لم ترد
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي