كيف نستغل عشر ذي الحجة؟

محمد بن إبراهيم النعيم
عناصر الخطبة
  1. الحكمة في كون عشر ذي الحجة أفضل أيام الدنيا .
  2. ما ينبغي علينا عمله في عشر ذي الحجة .
  3. على المسلم أن يستحضر أعماله في رمضان ويكررها في عشر ذي الحجة .

اقتباس

علينا تجنُّب المعاصي ما ظهر منها وما بطن؛ لأن الأيام فاضلة ولها حرمة، بل هي من الأشهر الحُرُم التي تعظَّم فيها السيئات فلا تظلموا فيهن أنفسكم، ولنستقبل هذا الموسم بالتوبة الصادقة والعزم على عدم العودة إلى الذنوب، فلنكفَّ ألسنتنا من القيل والقال، ولنكف أسماعنا عن سماع الحرام من غيبة ونميمة وغناء وموسيقى...

الخطبة الأولى:

أيها الإخوة في الله: سيدخل علينا موسمٌ من مواسم الطاعات وأيام عشر مباركات؛ هي أيام العشر من ذي الحجة، هذه الأيام التي ظَلَمَتْهَا وسائلُ الإعلامِ فلم يُقَدِّرُوا لها قَدْرَها، ولم يسلِّطُوا عليها الأضواءَ؛ ليُعرف فضائلها؛ ولذلك لا يزال كثير من الناس يجهلون قدرَها وعظيمَ فضلها. هذه الأيام التي اختلف العلماء في تفضيلها على العشر الأخير من رمضان.

إن أياما يتضاعف ثواب أي عمل صالح فيها إلى ثواب الجهاد، بل ويزيد عليه، أَلَا تستحق أن يُسَلَّط الضوءُ عليها ويُرفعَ من شأنها؟

فقد روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله -عز وجل- من هذه الأيام -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء" (رواه البخاري)، هذا الموسم أيامه أفضل أيام الدنيا، فقد روى جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل أيام الدنيا العشر-يعني عشر ذي الحجة- قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: ولا مثلهن في سبيل الله، إلا رجل عفَّر وجهه بالتراب" (رواه البزار وأبو يعلى).

وعلل بعضُ أهل العلم الحكمةَ في كون عشر ذي الحجة أفضل أيام الدنيا؛ بأن أمهات الأعمال الصالحة والعبادات تجتمع فيها، ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصدقة لمن حال عليه الحولُ فيها، وفيها الصومُ لمن أراد التطوع، أو لم يجد الهَدْيَ، وفيها الحج إلى البيت الحرام، ولا يكون في غيرها، وفيها الذِّكْر والتلبية والدعاء الذي يدلّ على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرفٌ لها لا يضاهيها فيه غيرُها ولا يساويها سواها.

وقد سُئل شيخُ الإسلام ابنُ تيمية -رحمه الله- عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان: أيُهُما أفضلُ؟ فأجاب: "أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر في رمضان، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة" اهـ.

فلا غرابة إِذَنْ أن يحرص السلفُ الصالحُ على اغتنامها والاجتهاد فيها، فقد كان سعيدُ بن جبير -رحمه الله-، وهو الذي روى حديث ابن عباس السابق- إذا دخلت العشرُ من ذي الحجة اجتهدَ اجتهادًا حتى ما يكاد يُقدر عليه.

فماذا ينبغي علينا عمله في هذا الموسم العظيم الذي يستغرق عشرةَ أيام، وعدد ساعاته مئتان وأربعون ساعة؟

أولا: ينبغي علينا أن نصرف معظم وقتنا في هذه الأيام المعظَّمة في ذكر الله -عز وجل- خصوصا التهليل والتكبير والتحميد؛ فإنها أفضل عبادة نتقرب بها إلى الله -عز وجل- في مثل هذه الأيام، وقد قال تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الْحَجِّ: 28]، وقد ثبَت عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحبُّ إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثِرُوا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد" (رواه الإمام أحمد الفتح الرباني (6/168)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1248)).

والتكبير في هذه الأيام المباركة على نوعين: مُطْلَق ومُقَيَّد، أما التكبير المطلق فيُقصد به التكبير في هذه الأيام العشر في كل وقت وحين: في البيت والسيارة والعمل والسوق، ولقد كان أبو هريرة وابن عمر -رضي الله عنهما- إذا دخلت عشر ذي الحجة يخرجان إلى السوق يُكَبِّران كلٌّ على حِدَته، فإذا سمعهم الناسُ تذكَّروا التكبيرَ فكبَّروا كلُّ واحدٍ على حِدَتِهِ، وأما التكبير المقيَّد فيُقصد به التكبيرُ بعد الفرائض ابتداءً من بعد صلاة الفجر من يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخِر أيام التشريق؛ أي إلى رابع أيام العيد.

إن أفضل عمل يُشرع في هذه الأيام هو من أسهل الأعمال، ولا يكلفك شيئا: هو ترطيب اللسان بأحب الكلام إلى الله -تعالى-: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".

فعن سَمُرَةَ بن جُنْدَبٍ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ..." الحديثَ. (رواه الإمام أحمد الفتح الرباني- (13/161)، (14/222)، ومسلم (2137)، وابن حبان (835)، والطبراني (6791)، والنسائي في السنن الكبرى (10678)، والبيهقي (19093)). ‌

وهل يُعقل أن قول هذه التسبيحات أفضل من الجهاد؟ نعم فقد قال ابن القيم: والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبُّد لا سيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعيّن، ثم قال قاعدةً جليلةً: فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه اهـ. (تهذيب مدارج السالكين لابن القيم (صفحة 71)).

ما فضائل هذه الكلمات الأربع؟ وتأمَّلُوا كيف طلب منا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن نرطِّب ألسنتنا بأحب الكلام إلى الله -عز وجل- في أحب الأيام إلى الله -عز وجل-.

أولا: أنها مما تُفتح لها أبواب السماء: فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ مِمَّا تَذْكُرُونَ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ؛ التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّحْمِيدَ، يَنْعَطِفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ تُذَكِّرُ بِصَاحِبِهَا، أَمَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ لَا يَزَالَ لَهُ مَنْ يُذَكِّرُ بِهِ". (رواه الإمام أحمد، الفتح الرباني (14/225)، وابن ماجه (3809)، والحاكم (1855)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1568)).

ومتى ما وصلت هذه التسبيحاتُ إلى العرش بهذه السرعة دلَّ على أن أبواب السماء فُتحت لها.

ثانيا: أنها تَحُتُّ الخطايا من صحيفتك وتُثَقِّل ميزانَ حسناتك: روى أبو سعيد وأبو هريرة -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ -تعالى- اصْطَفَى مِنْ الْكَلَامِ أَرْبَعًا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كُتِبَ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَةً، وَحُطَّتْ عَنْهُ عِشْرُونَ سَيِّئَةً، وَمَنْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، كُتِبَتْ لَهُ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً وحُطَّتْ عَنْهُ بِهَا ثَلَاثُونَ سَيِّئَةً" (رواه الإمام أحمد، الفتح الرباني (14/220)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1718)).

وروى أَنَسٌ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ غُصْنًا فَنَفَضَهُ فَلَمْ يَنْتَفِضْ، ثُمَّ نَفَضَهُ فَلَمْ يَنْتَفِضْ، ثُمَّ نَفَضَهُ فَانْتَفَضَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، تَنْفُضُ الْخَطَايَا كَمَا تَنْفُضُ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا" (رواه الإمام أحمد، الفتح الرباني (14/221)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2089)).

وعن ثوبان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بَخٍ بَخٍ لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح يُتوفَّى للمرء المسلم فيحتسبه" (رواه الإمام أحمد، الفتح الرباني (19/195)، والنسائي في السنن الكبرى (9995)، والحاكم (1885)، والطبراني في الكبير (873)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2009)).

ثالثا: أنها غراس شجر الجنة، فأكثِر من مزروعاتك وحدائقك في الجنة، ولا تدع الوقت يضيع عليك؛ فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ" ((رواه الترمذي) واللفظ له (3462)، والطبراني في الكبير (10363)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2755)).

وروى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْسًا فَقَالَ: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا الَّذِي تَغْرِسُ)؟ قُلْتُ: غِرَاسًا لِي، قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى غِرَاسٍ خَيْرٍ لَكَ مِنْ هَذَا"؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، يُغْرَسْ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ" (سنن ابن ماجه (2/1251)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2613)).

رابعا: أُمرنا أن نقولها دُبُرَ كلِّ فريضة: فالمتأمل في تلك الفضائل يدرك حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- علينا حين أَمَرَنَا أن نسبِّح بهذه التسبيحات خمسًا وعشرين مرةً دُبُرَ كلِّ فريضةٍ؛ أي مئة وخمسًا وعشرين مرة في اليوم لفضلها عند الله -عز وجل-:

عَنْ زَيْدِ بن ثَابِتٍ -رضي الله عنه- قَالَ: أُمِرُوا أَنْ يُسَبِّحُوا دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيَحْمَدُوا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيُكَبِّرُوا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَأُتِيَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي مَنَامِهِ فَقِيلَ لَهُ: أَمَرَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تُسَبِّحُوا دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدُوا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتُكَبِّرُوا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاجْعَلُوهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَاجْعَلُوا فِيهَا التَّهْلِيلَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "اجْعَلُوهَا كَذَلِكَ" ((رواه النسائي) (1350)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (101)).

وقد يقول قائل: إنه ثبَت أننا نذكر في ختام التسبيح قول: لا إله إلا الله، قال العلماء: ينبغي العمل بكل الروايات الصحيحة، فنعمل بهذا تارةً وبهذا تارةً وبهذا تارةً. وإن كان الأخيرُ أكثرَ أجرًا لِمَا فيه من تكرار قول: لا إله إلا الله 25 مرة، وهي أفضل الحسنات؛ كما جاء في حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أوصني، قال: "إذا عملتَ سيئةً فأَتْبِعْهَا حسنةً تمحها"، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أَمِنَ الحسناتِ لا إله إلا الله؟ قال: "هي أفضل الحسنات" (رواه الإمام أحمد، الفتح الرباني (14/209)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3162)).

خامسا: أنها تقي قائلَها من النار: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خذوا جُنَّتَكُمْ من النارِ، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتينَ يومَ القيامة مقدَّماتٍ، ومعقبات، ومجنبات، وهن الباقيات الصالحات" ((رواه الترمذي) واللفظ له (3462)، والطبراني في الكبير (10363)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2755)). ‌

سابعا: أنها تُجزئ عن الفاتحة في الصلاة، وهي ركن لمن لا يعرف القرآن: فعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-فقال: إني لا أستطيع أن آخُذَ شيئًا من القرآن فعلِّمني ما يجزئني، فقال: "قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله" ((رواه أبو داود) (785)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3/68)).

فمن تأمَّلَ فضائلَ الأحاديث السابقة، وكيف أجزل الله -تعالى- مثوبةَ مَنْ رَطَّبَ لسانَه بها، يُدرك يقينًا بأنهن أحبُّ الكلام إلى الله -تعالى-، وأن أبواب السماء تُفتح لها.

ولذلك جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ" ((رواه النسائي) (لم أجد هذه الرواية) وسنن الترمذي (5/469)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3214))؛ ‌أَيْ: أَحَبُّ إليه من الدنيا وما فيها.

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من كل ذنب لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أقسم بالعَشْر فقال: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الْفَجْرِ: 1-2]، أحمده -سبحانه- وتعالى وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصَفِيُّه من خلقه، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطاهرين وعلى صحابته الغُرِّ الميامين، وَمَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واستغِلُّوا نفحات الله فإنكم مقبلون على أيام عشر ذي الحجة أفضل أيام الدنيا.

إن أيَّ عمل صالح تقدمه في هذه الأيام أجره عظيم ومضاعَف، فقد روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرًا من خير يعمله في عشر الأضحى، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلٌ خَرَجَ بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" (رواه البيهقي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1248))، ولذلك قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "إن جميع الأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة مضاعَفَة بغير استثناء، فهنيئا لمن سابق غيرَه فيها بكل عمل صالح، وتعسًا لِمَنْ فَرَّطَ فيها ولم يَغْنَمْ منها شيئا".

 أيها الإخوة في الله: لقد اعتاد بعض الناس أخذَ إجازاتهم في أول أيام عشر ذي الحجة للاستمتاع في إحدى الدول السياحية مفوِّتينَ على أنفسهم فرصةَ اغتنام الأجور المضاعفة التي يعرضها الله -عز وجل- في هذه الأيام المباركة التي أقسم الله بها في أول سورة الفجر.

إن مما ينبغي أن نعلمه أن العمل الصالح سَهْلٌ على الناس في رمضان؛ لأن الشياطين فيه مسلسلَة؛ لذلك لا نستغرب أن نرى معظم الناس يستثمرون أوقاتهم بقراءة القرآن والبعد عن مواطن المعصية في شهر رمضان، أما في عشر ذي الحجة فنحن نحتاج إلى مزيد من المقاوَمَة والمجاهَدَة للنفس والهوى والشيطان؛ لاستغلال هذه الأيام في العمل الصالح؛ لأن الشياطين فيها لا تُسلسل.

لذلك اسْتَحْضِرْ -أخي المسلم- كلَّ الأعمال الصالحة التي كنتَ تعملها في رمضان وقم بمثلها في هذه الأيام المباركة، فَأَكْثِرْ من قراءة القرآن، واختمه إن استطعت عدة مرات.

علينا تجنُّب المعاصي ما ظهر منها وما بطن؛ لأن الأيام فاضلة ولها حرمة، بل هي من الأشهر الحُرُم التي تعظَّم فيها السيئات فلا تظلموا فيهن أنفسكم، ولنستقبل هذا الموسم بالتوبة الصادقة والعزم على عدم العودة إلى الذنوب، فلنكفَّ ألسنتنا من القيل والقال، ولنكف أسماعنا عن سماع الحرام من غيبة ونميمة وغناء وموسيقى، ولنكف أبصارنا عن مشاهدة النساء عبر التلفاز أو القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية استجابة لأمر ربنا -عز وجل- القائل: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)[النُّورِ: 30]، فإن هذه المعصية أصبحت غير مستهجَنَة، واعتادها الكثير من الناس بسبب تعودهم على مشاهدة الممثلات والمذيعات فلا حول ولا قوة إلا بالله.

فلا تَدَعُوا ساعاتِ هذا الموسم تمر عليكم وأنتم في غفلة عن ربكم؛ لأنها أفضل أيام الدنيا، فقد لا تعود إليكم أبدا فَتَعَضُّوا على أصابع الندم، فاعمروا أوقاتكم فيها بشتى الطاعات: كقراءة القرآن، وترطيب اللسان بأحب الكلام إلى الله: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وبالدعاء، والصدقة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من طُرُق الخير وسُبُل الطاعة.

نسأل الله -عز وجل- أن يُعِينَنا على فعل الخير، ويسهله علينا، ويزينه في نفوسنا، ويتقبله منا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي