عِبَادَ اللهِ: إِنَّ تَقْوَى اللهِ هِيَ أَعْظَمُ مُنْجٍ مِنَ النَّارِ، وَكَذَلِكَ الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَتِهِ، وَمُرَاقَبَتُهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَكَذَلِكَ التَّعَوُّذُ مِنْهَا، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 191]، وَقَالَ...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ جَاءَ التَّحْذِيرُ مِنَ النَّارِ وَالْإِنْذَارُ مِنْهَا فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ -تَعَالَى-: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)[البقرة: 24]، وَقَالَ -تَعَالَى-: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى)[الليل: 14]، فَمَا أُنْذِرَ الْعِبَادُ بِشَيْء قَطُّ أَدْهَا مِنْهَا، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ! أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ! حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ بِالسُّوقِ، لَسَمِعَهُ مِنْ مَقَامِي هَذَا، قَالَ: حَتَّى وَقَعَتْ خَمِيصَةٌ كَانَتْ عَلَى عَاتِقِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ)؛ وَلِذَا كَانَ مِنَ دُعَاءِ الصَّالِحِينَ: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 16]، و(رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا)[الفرقان: 65]؛ فَالْخَوْفُ مِنَ النَّارِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي عَقْلِ كُلِّ مُؤْمِنٍ، حَتَّى يَتَّقِيَهَا؛ فَالنَّارُ مُخِيفَةٌ فَأَهْلُهَا فِي بُكَاءٍ دَائِمٍ لَا يَنْقَطِعُ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ)[هود: 106]، وَقَوْلُهُ: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)[الملك: 8]، وَقَالَ -تَعَالَى-: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)[فاطر: 37]
عِبَادَ اللهِ: بَعْدَ أَنْ يَيْأَسَ أَهْلُ النَّارِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا، حَيْثُ يَقُولُونَ: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)[المؤمنون: 107]، وَيَأْتِي عَلَيْهِم الرَّدُّ: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)، يَنْتَقِلُونَ إِلَى أُمْنِيَةٍ أُخْرَى، وَهُنَاكَ يُوَجِّهُونَ خِطَابَهُمْ إِلَى مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)[الزخرف: 77، 78]، وَبَعْدَ أَنْ يَئِسُوا مِنَ الْمَطْلَبَيْنِ، يَلْجَئُونَ إِلَى مَطْلَبٍ ثَالِثٍ، وَهُنَاكَ يُوَجِّهُونَ النِّدَاءَ إِلَى خَزَنَةِ جَهَنَّمَ؛ (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)[غافر: 50]؛ فَالنَّارُ جِدًّا مُخِيفَةٌ وَأَهْوَالُهَا مُرِيعَةٌ.
أَتَرْقُدُ يَا مَغْرُورُ وَالنَّارُ تُوقَدُ *** فَلَا حَرُّهُا يُطْفَا وَلَا الْجَمْرُ يُخْمَدُ
فَجَهَنَّمُ -عِبَادَ اللهِ- عَمِيقَةٌ وَقَعْرُهَا بَعِيدٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟"، قَالَ: قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! قَالَ: "هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا"، فَهِيَ عَمِيقَةٌ وَعَرِيضَةٌ يُحَاوِلُ سُكَّنُهَا الْخُرُوجَ مِنْهَا، وَلَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، قَالَ -تَعَالَى-: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)[الحج: 22].
وَأَمَّا عَنْ حَرِّهَا؛ فَحَدِّثْ وَلَا حَرَجَ، قَالَ -تَعَالَى-: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)[التوبة: 81].
أَمَّا شَرَابُهُمْ؛ فكَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ)[الأنعام: 70]، وَقَالَ -تَعَالَى-: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)[الكهف: 29]، وَقَالَ -تَعَالَى-: (يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ)[إبراهيم: 17]، وَمَعَ أَنَّهُ فِي النَّارِ يَتَلَقَّوْنَ أَصْنَافَ الْعَذَابِ وَزِيَادَةً فِي النَّكَال، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا)[المزمل: 12، 13]، وَمَعَ ذَلِكَ يُسَلْسَلُونَ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[سبأ: 33].
وَيُسْحَبُونَ فِي السَّلَاسِلِ، قَالَ -تَعَالَى-: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ)[غافر: 71]، وَمَعْنى الْغُلِّ: أَنْ تُغَلَّ الْيَدُ إِلَى الْعُنُقِ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ)[إبراهيم: 49].
وَأَمَّا الطَّعَامُ؛ فَكَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا)؛ فَطَعَامُهُمُ الزَّقُّومُ، وَقَدْ مُلِئَتِ النَّارُ بِالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "إِنَّ فِي النَّارِ حَيَّاتٍ كَأَمْثَالِ أَعْنَاقِ الْبُخْتِ، تَلْسَعُ إِحْدَاهُنَّ اللَّسْعَةَ؛ فَيَجِدُ حَمْوَتَهَا، أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَإِنَّ فِي النَّارِ عَقَارِبَ كَأَمْثَالِ الْبِغَالِ الْمُوكَفَةِ، تَلْسَعُ إِحْدَاهُنَّ اللَّسْعَةَ؛ فَيَجِدُ حَمْوَتَهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً"، وَالحَدِيثُ فِي النَّارِ وَمَا فِيهَا يَطُولُ، وَلَكِنْ عَلَيْنَا أَن نُنْقِذَ أَنْفُسَنَا مِنْهَا، وَقَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ شَرِّهَا.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ تَقْوَى اللهِ هِيَ أَعْظَمُ مُنْجٍ مِنَ النَّارِ، وَكَذَلِكَ الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَتِهِ، وَمُرَاقَبَتُهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَكَذَلِكَ التَّعَوُّذُ مِنْهَا، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 191]، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا يَسْأَلُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ اللهَ الْجَنَّةَ ثَلَاثًا، إِلَّا قَالَتِ الْجَنَّةُ: اللهُمَّ أَدْخِلْهُ. وَلَا اسْتَجَارَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ اللهَ مِنَ النَّارِ ثَلَاثًا، إِلَّا قَالَتِ النَّارُ: اللهُمَّ أَجِرْهُ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ).
فَاسْتَعِيذُوا -يَا عِبَادَ اللهِ!- مِنَ النَّارِ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي