فقد العلماء ثلمة في الدين

محمد بن إبراهيم الشعلان
عناصر الخطبة
  1. موت العلماء مصيبة كبرى .
  2. خسارة الأمة برحيل الشيخ محمد بن صالح العثيمين .
  3. حاجة الأمة إلى العلماء الربانيين .
  4. في موت العلماء عبرة وعظة وإغاظة. .

اقتباس

بقاء العلماء وكثرتهم رحمةٌ، وذهابهم وقِلّتهم عذابٌ، بقاؤهم وكثرتهم نعمةٌ، وذهابهم وقِلتهم نقمةٌ، بل إنَّ مِن أعظم الرزايا التي تُرْزَأ بها الأمة الإسلامية ذهابَ العلماء الربانيين واحدًا بعد الآخر، وفي زمن متقارب، ولا يخلفهم في علمهم أحدٌ، ولا يجد الناس علماء ربانيين عاملين، فيبرز حينئذ أهل الجهالة والضلالة، ومَن يدَّعِي العلم وليس...

الخطبة الأولى:

الحمد لله واسع الفضل والإحسان، أحمده سبحانه حمدًا يفوق العدّ والحسبان، وأشكره شكرًا تُنال به مواهب الرضوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، دائم الملك والسلطان لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في أيّ مكان، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده باليد واللسان والسنان، حتى قرَّر قواعد الملة وشدّ البنيان، وأماط ظلم الباطل وشبَّه البهتان، اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أهل الصفاء والوقار والأمان، ومَن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واعتصموا بكتاب ربكم وسُنة نبيكم؛ فإن أجسامكم على النار لا تَقْوَى، واستعدوا ليومٍ تُرْجَعُون فيه إلى الله، فتُوَفَّى كل نفس ما كسبت ولا تُظلم شيئًا؛ قال الله -جل وعلا- في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الأنفال: 29]، وقد كان دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى"، وأنت يا عبد الله:

إذا لم ترحل بزاد من التقى *** ولاقيت بعد الموت مَن قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله *** وترصد للموت الذي كان أرصدا

عباد الله: إن من أعظم المصائب وأكبرها –والتي تحل بأمة الإسلام وتذوق مرارتها–؛ فَقْدَ العلماء؛ الذين قال الله فيهم: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: 28]، الذين زهدوا في الدنيا ورغبوا فيما عند الله -عز وجل-، وجاهدوا في هذه الحياة الدنيا بأنفسهم وأموالهم، وبذلوا أوقاتهم للدفاع عن الإسلام وأهله وبيان الحق بدليله، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ولم ينظروا إلى ما في يد الخلق بل كانت نظرتهم أعلى من ذلك وأولى، إلى رفع الجهل عن أنفسهم وعن الناس، رجاء الثواب العظيم والأجر الكريم من الله، والطمع في دخول الجنة والنجاة من النار، والنظر إلى وجه الله العزيز الغفار.

ثلاثٌ بها نلت المعالي والغنى *** وأصبحت معتزّ الجناب ممولا

طويت على قصد المروءة باطني *** وفي ظاهري أبديت فيه التجملا

وأغضيت عما في يد الخلق ناظري *** وأبصرت ما لله عندي أفضلا

نعم عباد الله! الأمة الإسلامية تُصاب بفَقْدِ علماء الشريعة الإسلامية، والعقيدة الصافية الصحيحة النقية، ممن طلبوا العلم لله، وعلَّمُوه في أنفسهم، وعملوا به، وعلموا الناس وأرشدوهم، ولقد فُجِعَتْ الأمة الإسلامية مغرب يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر شوال عام واحد وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة خير الأنام نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

فُجِعَتْ بفقد العالم العلامة الفقيه الأصولي الصالح العابد الورع الزاهد، بقية السلف الكرام الأثبات، من علماء هذا العصر الذين يعز على الأمة فقدهم؛ الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وجمعه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين-؛ ذلكم العالم الجليل نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدًا قام بما أمره الله به ورسوله، ودافع عن الإسلام دفاعًا يُرْجَى له به الخير الجزيل والدرجات العالية عند ربه -جل وعلا-.

لم يطمع في الدنيا ولم يتطلع لزينتها وزخارفها، ولم تشغله عن ذِكْر الله وعبادته ولم يُعْجَب بنفسه، بل كان من أهل التواضع والرفق وحبّ المساكين، وخدمة طلاب العلم، جاءته الدنيا تطلب قُرْبَه فأبعدها، ورضي بالقليل منها، فكان أن تبوَّأ في القلوب منزلة عظيمة وقدرًا كبيرًا، وما أن علم الناس بموته إلا ذُهِلُوا من هول المصيبة وخطب الفجيعة.

لقد فقدت الأمة الإسلامية بفقده عالمًا جليلاً ومجاهدًا كبيرًا، وبفقده ثُلِمَتْ في الإسلام ثُلْمَة، وبِفَقْدِه سقط ركنٌ من أركان الأمة الإسلامية.

وقد قال مجاهد -رحمه الله- في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[الرعد: 41]؛ قال: "هو موت العلماء"، وقد قال أحدهم:

الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها *** متى يمت عالم يمت طرف

كالأرض تحيا إذا ما الغيثُ حلَّ بها *** وإن أبى عاد في أكنافها التلف

وإن مثل هذا الشيخ الجليل لتبكي لفقده الأرض والسماء؛ كما تبكي لفقده القلوب المؤمنة بربِّ الأرض والسماء، كيف لا يبكي لفقد العلماء الربانيين وهم الذين ورثوا العلم عن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وهم الذين تحيا بعلمهم ودعوتهم القلوب كيف لا وهم نور في الأرض تستير بهم الأمة في سلوك طريق الهداية والصلاح، والفوز والفلاح.

نقل عن كعب -رحمه الله- أنه قال: "إن الأرض لتبكي من رجل وتبكي على آخر؛ تبكي لمن يعمل على ظهرها بطاعة الله -والعلم من أفضل الطاعات–، وتبكي ممن يعمل على ظهرها بمعصية الله قد أثقلها، ثم قرأ قوله تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)[الدخان: 29]؛ يعني فرعون وقومه".

ونقل عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: "ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض، فقيل له: أتبكي الأرض؟ فقال: تعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبدٍ كان يعمرها بالركوع والسجود؟، وما للسماء لا تبكي على عبدٍ كان تكبيره وتسبيحه فيها كدويّ النحل".

والشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- نحسبه أن السماء والأرض تبكيانه وأمثاله، وتحزنان عليه، لقد ثُلِمَ في الإسلام ثُلْمَة بفَقْدِ هذا العالم الرباني.

وقد جاء عن الحسن البصري -رحمه الله- أنه قال: "كانوا يقولون: موت العالم ثُلْمَة في الإسلام لا يسدُّها شيء ما اختلف الليل والنهار".

نعم -عباد الله- هو كذلك، لا سيما في موت عالم مثل الشيخ ابن عثيمين، وفي هذا الزمان العصيب زمن الفتن والمِحَن وقلة العلم والعلماء، وكثرة الجهل والجهال؛ في هذا الزمن الذي كشَّر فيه أعداء الدين عن أنياب الحقد والبغض، والمكر والكيد، وانتشرت فتن الشهوات وفتن الشبهات، التي لا يصدُّ سيلَها الجارف إلا علمٌ نافعٌ صحيح متجرد، وعمل صالح متجدِّد، وإن ذهاب العلماء الربانيين واحدًا بعد آخر، وقلتهم في الأمة علامة على هلاك الناس؛ لأنهم يفقدون بموتهم وقلتهم مادة حياتهم الطيبة.

سأل هلال بن خباب -رحمه الله- سعيد بن جبير -رحمه الله-، قائلاً: "يا أبا عبد الله ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا هلك علماؤهم".

نعم عباد الله! بقاء العلماء وكثرتهم رحمة، وذهابهم وقِلّتهم عذاب، بقاؤهم وكثرتهم نعمة، وذهابهم وقِلتهم نقمة، بل إن مِن أعظم الرزايا التي تُرْزَأ بها الأمة الإسلامية ذهابَ العلماء الربانيين واحدًا بعد الآخر، وفي زمن متقارب، ولا يخلفهم في علمهم أحدٌ، ولا يجد الناس علماء ربانيين عاملين، فيبرز حينئذ أهل الجهالة والضلالة، ومَن يدَّعِي العلم وليس بعالم بل العلم في وادٍ وهو في وادٍ آخر، فيُبْتَلَى الناسُ به بلاءً عظيمًا.

فقد أخرج البخاري -رحمه الله- في صحيحه وغيره عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتخذ الناس رُءُوسًا جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".

فالحياة لا تستقيم للناس، إلا بحاكم عادل نَقِيّ، وعالم عامل تَقِيّ، ففقدهما مصيبة عظيمة على الأمة الإسلامية، وأحدهما مكمِّل للآخر، بل إنَّ صلاح العالم وتقواه سببٌ -بإذن الله- لصلاح الحاكم وتقواه، وعدلُ الحاكم وتقواه سببٌ -بإذن الله- لصلاح الأمة واستقامتها على أمر الله، ولهذا كان من الواجب علينا أن نعرف قَدْر الحكام العادلين الأتقياء، وقدر العلماء الربانيين العاملين الأتقياء، وأن نحترمهم ونُجِلّهم، ونسعى في مؤازرتهم والوقوف معهم في سرائهم وضرائهم، في عُسرهم ويسرهم، وأن نسعى في طلب العلم الشرعي والاجتهاد في تحصيله حتى نسدّ ما يُثْلَم من الدين؛ فقد كتب عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- إلى أبي بكر بن حزم عامله في المدينة: "انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاكْتُبْهُ؛ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا".

فإذا كان هذا من عمر بن عبدالعزيز في عهده في آخر القرن الأول على رأس المائة، فكيف بهذا القرن الذي نحن فيه الذي استحكمت فيه غربة الإسلام، وقل فيه العلماء، وانتشر فيه الشر والجهل والفساد، وقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء، ويقل الرجال؛ حتى يكون لخمسين امرأة القيِّم الواحد".

وإنَّ مِن العيب والسَّفَه أن لا يكون لعلمائنا ذِكْرٌ في نفوسنا وفي كتاباتنا، وإنه من العار أن ننساهم، وننسى ما قاموا به من جهاد في سبيل الله، ودعوة إلى دينه، وأن نلتفت إلى من تكون مصيبة الأمة في بقائهم، من أهل البدع والخرافات وأهل الفكر الدخيل والعقيدة الباطلة؛ من أهل المعاصي والفجور الذين أبرزوا فجورهم ومعاصيهم، ولم يستتروا بستر الله -جل وعلا-.

فالذي يجدر بنا ويليق بنا، أن نقبل على علمائنا الذين لا يريدون بعلمهم إلا الله والدار الآخرة، ونَستقي من علمهم، ونضع  أيدينا في أيديهم، وإزالة كل خلاف يحصل في المجتمع، ونَبْذ ما يُسَبِّب الفُرْقَة والخلاف ونعادي كل مَن يريد تفريق كلمة المسلمين وتمزيق وحدتهم وتدمير كيانهم، وأن ندعو لأولياء أمورنا بالهداية والصلاح وبالبطانة الصالحة وأن يكون التناصح فيما بيننا سمة لنا.

ولنعلم -عباد الله- أن علماء الشريعة الذين رزَقهم الله -عز وجل- الفقه في الدين والعقل والحلم لا يريدون للأمة وأولياء أمورنا إلا الخير والصلاح والاستقرار، لا يريدون فتنة ولا مالاً ولا جاهًا ولا منصبًا ولا رياسة، همّهم صلاح الناس واستقامتهم على أمر الله، ولهذا أكثر مَن يفقد هؤلاء العلماء هم ولاة الأمر، والدليل على ذلك حزن وليّ الأمر في هذه البلاد وأعوانه، على فقد هذا الشيخ العلم، وغيره من العلماء.

فنسأل الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أن يغفر لشيخنا العلامة محمد بن صالح بن عثيمين، وأن يرزقه الجنة والنظر إلى وجهه الكريم، وأن يجزيه عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وأن يبارك لنا في ولاة أمرنا وفي علمائنا ودعاتنا، وأن يحفظ بلادنا خاصةً وبلاد المسلمين عامةً من جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

عباد الله: إن في موت العلماء عبرة وعظة وإغاظة؛ عبرة بأن الموت نهاية كل حيّ مهما كان ذلك الحي (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)[آل عمران: 185]، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 26- 27]، وعظة بأن نعلم أن موت العلماء مصيبة وفقدهم رَزِيّة، وأن الناس إذا لم ينهجوا نهجهم في طلب العلم الشرعي ونفع الناس والدفاع عن الحق، فإنَّ الباطل سيظهر وأهله سيظهرون وينتشرون، وإن الجهل سيظهر وأهل الجهل سيكثرون، وهذه طامة كبرى وبلاء عظيم على المسلمين.

وأما كون موت العلماء إغاظة؛ فلأن أهل الباطل والانحراف، يغيظهم ما يرون من الناس من تبجيل علمائهم وتوقيرهم، في الحياة وبعد الممات، والشيخ بن عثيمين -رحمه الله- خير شاهد على هذا.

دموع المعالي والمكارم أرفت *** وربع العلا قاع لفقدك صفصف

غدا العلم والمعروف في اللحد ثاويا *** غداة ثوى في ذلك اللحد منصف

فواحسرتا لو ينفع الموت حسرة *** وواأسفا لو كان يُجْدِي التأسف

وكان على الإزراء نفسي قوية *** ولكنها عن حمل ذا الرزء تضعف

وصلوا وسلموا...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي