لقد ظهَر هذا النوع من الابتلاء في هذا الزمان ظهورًا بيِّنًا وواضحًا، ووقع فيه كثيرٌ من المسلمين، فأسباب المعصية للناس قد يُسِّرَت، ووسائل الوقوع فيها قد تنوَّعت، فالربا مثلاً تيسرت أسبابه لكثير من الناس، ومُلِّحَتْ أسماؤه، وسَهُلَ...
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق فأظهره الله على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحها، وخَالِقْ الناسَ بخُلُق حَسَن"، روى أبو نعيم في الحلية بسنده عن ميمون بن مهران أنه قال: "لا يكون الرجل من المتقين، حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، حتى يعلم من أين مطمعه، ومن أين ملبسه، ومن أين مشربه، أمِن حلٍّ ذلك أم مِن حرام".
عباد الله: الابتلاء في هذه الحياة سُنَّة ماضية من الله، قال -سبحانه وتعالى-: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[الأنبياء: 35]، والله -سبحانه وتعالى- ينوِّع الابتلاء على عباده، وله في ذلك الحكمة البالغة -جل في علاه-، قال -سبحانه وتعالى- (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)[البقرة: 155]، وهذا الابتلاء ظاهر في عباده منذ أن خلَقهم وإلى أن يُميتهم، فمن سخط فله السخط، ومَن رضي فله الرضا.
فنحن نرى الناس يتعرضون للابتلاء، هذا في نفسه وهذا في أهله، وهذا في ماله، والغالب من الناس أنهم يصبرون على هذا البلاء، ويتضرعون لخالق الأرض والسماء ويدعونه رفع المحنة وكشف البلاء.
ولكنَّ هناك نوع ابتلاء هو في الحقيقة من أشد أنواع الابتلاء وأخطرها، وقلَّ مَن ينتبه له ويفيق منه، ويتدارك نفسه قبل هلاكها وخسرانها بهذا الابتلاء، وقد ابتُلِيَ به السلف، وابتُلي به الخَلَف، فكان للسلف الصالح ومن سار على نهجهم موقف حميد من هذا الابتلاء، فعرفوا أمره وكشفوا سرَّه، وخافوا ربهم -عز وجل- سرًّا وجهرًا؛ لقوة إيمانهم بربهم -عز وجل- وتقواهم له –سبحانه-، فوقاهم الله -عز وجل- شرّه، وأعقبهم خيرًا وبرًّا، وكان لكثير من الخلف –لا سيما في هذه العصور المتأخرة– موقف غير حميد من هذا الابتلاء جهلوا أمره وخفي عليهم سرّه، ولم يخافوا ربهم بالغيب؛ لضعف إيمانهم وتقواهم، فسقطوا في الابتلاء ووقعوا في الشر والبلاء.
أتدرون -عباد الله- ما هذا النوع من الابتلاء؟ إنه تيسير المعصية وأسبابها للإنسان -نسأل الله السلامة والعافية-، فيجد أن أسبابها متاحة له وميَسَّرة، ويرى أن ذات المعصية في متناول يده، ويستطيع الوقوع فيها والتلبُّس بها، بلا رقيب من الخَلق ولا حسيب، بل وينجو من المحاسبة والعقاب الدنيوي عليها، فقولوا لي بربكم: أيّ إنسان يُبْتَلَى بذلك، وإيمانه ضعيف وتقواه لربه ضعيفة، وخوفه من ربه وخشيته منه قليلة، فلا يقع في شراك هذا الابتلاء؟!
لقد ظهَر هذا النوع من الابتلاء في هذا الزمان ظهورًا بيِّنًا وواضحًا، ووقع فيه كثيرٌ من المسلمين، فأسباب المعصية للناس قد يُسِّرَت، ووسائل الوقوع فيها قد تنوَّعت، فالربا مثلاً تيسرت أسبابه لكثير من الناس، ومُلِّحَتْ أسماؤه، وسَهُلَ عليهم تناوله وكَسْبُه، وفاحشة الزنا يُسِّرَتْ أسبابها لطائفة من الناس بل يُسِّرَت ذاتها، فسَهُلَ عليهم الوقوع فيها بلا تعب ولا نَصَب، والنجاة من عقابها الدنيوي.
والأشربة المحرمة والمأكولات المحرَّمة، يُسِّرَ لبعضهم أكلها وشربها، بلا عناء ولا مشقة، فأكلوها وشربوها.
ظلم العباد في النفس والمال والعِرْض قد يُسِّرَ لبعضهم الوقوع فيه، والنجاة من المحاسبة والعقاب الدنيوي، فظلموا وتعدوا.
كل ذلك -عباد الله- ابتلاءٌ من الله -جل في علاه-، ليعلم -سبحانه- مَن يخافه بالغيب ممن لا يخافه، وليعلم من يخشاه بالغيب ممن لا يخشاه.
ولكي تدركوا معنى هذا الابتلاء، أذكر لكم مثالين اثنين لهذا الابتلاء؛ ذكرهما الله -عز وجل- في كتابه الكريم:
المثال الأول: من المتقرَّر والمعلوم أن الله -عز وجل- حرَّم الصيد على المُحْرِم حالَ الإحرام، ونهى عباده عن قتل الصيد البري حالَ الإحرام، ومع هذا فقد ابتلى الله –عز –وجل- الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- يوم الحديبية وهم مُحْرِمُون، بكثرة الصيد الذي لم يروا مثله في حياتهم، يغشاهم في رِحَالهم حتى إنهم يقدرون على صيده بأيديهم ورماحهم، بدون عناء ولا مشقة، لكنهم علموا أن هذا ابتلاء من الله، فامتنعوا من صيده خوفًا من الله -عز وجل- وامتثالاً لأمره، قال الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[المائدة: 94].
والمثال الثاني: يتعلق باليهود -عليهم لعنة الله-، فقد حرَّم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، وأباحه لهم في غيره، فابتلاهم الله -عز وجل- بكثرة السمك يوم السبت اليوم الذي حرَّم عليهم صيده فيه، حتى إن السمك يطفو على سطح الماء من كثرته، وفي غير يوم السبت يختفي السمك ولا يظهر.
فلم يصبروا على هذا، ولم يخافوا الله -سبحانه وتعالى-، فتحايلوا على صيده، واعتدوا، وخالفوا أمر الله –سبحانه-، فقاموا بوضع الحبائل والبرك قبل يوم السبت، فإذا جاءت الحيتان يوم السبت نشبت بتلك الحبائل، ووقعت في تلك البِرَك فلم تخلص منها يومها ذلك، فإذا كان الليل أخذوها بعد انقضاء يوم السبت، ويقولون: لم نصطد يوم السبت، فعاقبهم الله -عز وجل- على هذا العمل القبيح، بأن مسَخهم على صورة قِرَدَة، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة؛ لأن عملهم مُشَابِه للحق في الظاهر ومُخَالِف له في الباطن، فكان الجزاء من جنس العمل.
فأقول لكم عباد الله: قد يُبتلى الإنسان بتيسير المعصية وأسبابها له، فليحذر من هذا الابتلاء ويتجنب الوقوع فيه، حتى يسلم من الإثم والعقاب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
عباد الله! هذا الابتلاء ذكَر الله -عز وجل- أنه لحكمة، وهي ليعلم من يخافه بالغيب، فليحرص المسلم على مراقبة الله -عز وجل- في سره وعلنه، فإن له بذلك أجرًا عظيمًا قال -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[الملك: 12]، وذكر النبي –صلى الله عليه وسلم- أنَّ من السبعة الذين يُظِلّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال؛ فقال: إني أخاف الله"؛ فقد تيسرت أسباب المعصية لهذا الرجل، ولكنه منعه خوفه من الله من الوقوع في هذه المعصية.
ونحن اليوم -عباد الله- في زمانٍ تيسرت فيه أسباب المعصية، وسهُل الوقوع فيها؛ أصحاب سوء يدعون إلى السوء، ودعاة إلى الرذيلة لا يَكِلُّون ولا يَمَلُّون، وقنوات تُسَهِّل وتُيَسِّر الوقوع في المعاصي والذنوب، فلنحذر -عباد الله- من هذا، ولْنَصُنْ عقيدتنا وديننا وأخلاقنا من الفساد، ولنراقب ربنا -سبحانه وتعالى- الذي يجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
وصلوا وسلموا....
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي