فأكثر الناس لا يعلمون العلم الذي ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وإنما يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا؛ لو سألت أحدَهم عن أحكام الوضوء، أو أحكام الغسل، أو أحكام الصلاة، والزكاة والحج، والصوم؛ التي لا يسع المسلم الجهلُ بها، لتبيَّن لك جهله وقلة علمه، ولكنه في شؤون الدنيا عالِم وحاذِق، ولو سألته عن أسماء الصحابة المشهورين، من...
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهد الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق فأظهره الله على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
عباد الله: عندما ننظر إلى حال كثيرٍ من المسلمين في هذا الزمان، نجد أن لهم حذقًا ومعرفةً، وتصوُّرًا وإدراكًا، وفيهم نشاطٌ وجدٌّ، وحركة دائبة لا تعرف الكلل ولا الملل، لا تعرف الكسل ولا السأم، تدأب النهار ومعظم الليل، ولكن ما هو متعلِّق هذا الحذق وهذه المعرفة، وما هو الأمر الذي أكثَر العباد فيه هذه الأمور من تصوُّر وإدراك وجدّ ونشاط، وحركة دؤوبة؟
إنها الدنيا -عباد الله- وأكسابها وشؤونها، تجد أن أكثر الناس اليوم حُذَّاق فيها وعالمون بشؤونها وأمورها، لو سألت أحدهم عن شؤون هذه الحياة ومبتكراتها ومخترعاتها، وشهواتها وملذاتها، لأجابك عنها جواب الخبير، ولأخبرك عنها خبر الواثق الجدير، ولذُهِلْتَ من علمه بها، وبأحوالها وشؤونها.
فمنهم مَن هو عالم بما فيه منفعة وفائدة للمسلمين؛ مثل علم الفلك، وعلم الصناعة، وعلم الكيمياء والهندسة، وما أشبه ذلك، ومنهم مَن هو عالم بما ليس فيه منفعة للمسلمين، بل فيه مضرَّة عليه يذهب عمره سدًى لم يستفد منه شيئًا ولم يُفِد، وهو من فعل السفهاء وأهل الغفلة، ويضحك منه العقلاء.
كما نسمع أن بعضهم عالِم بأنواع الطوابع قديمها، وحديثها، سواءً في بلده أو غير بلده؛ وقد أمضى جزءًا كبيرًا من عمره التكليفي في جمع تلك الطوابع، وجعل جمعها هواية له ومهنة له.
وبعضهم عالم بأنواع الآثار القديمة يجمعها من هنا وهناك، ويضع لها مكانًا في بيته؛ وقد أمضى جزءًا كبيرًا من عمره التكليفي في جمعها وتحصيلها.
وبعضهم حاذِق في تربية الطيور بجميع أنواعها وفصائلها وأشكالها، وطائفة أخرى في تربية الكلاب، والعياذ بالله، وتسمينها وتسميتها؛ تقليدًا للغرب، واتباعًا لهم أعمى.
وطائفة أخرى لها علم ومعرفة بأسماء الفنانين والفنانات، وأحوالهم وتحركاتهم، وحفلاتهم وأسماء أغانيهم، فعلمهم مقتصِر على ظاهر من الحياة الدنيا، ولكنهم عما ينفعهم وينجيهم ويزكِّي نفوسهم ويطهِّر قلوبهم، غافلون ومعرضون فدخلوا في قول الله --عز وجل-- في كتابه الكريم: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)[الروم: 6-7].
فأكثر الناس لا يعلمون العلم الذي ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وإنما يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، قال ابن كثير -رحمه الله-: "ليس لهم علمٌ إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها، فهم حذّاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون عما ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مغفّل لا ذهن له ولا فكرة".
لو سألت أحدَهم عن أحكام الوضوء، أو أحكام الغسل، أو أحكام الصلاة، والزكاة والحج، والصوم؛ التي لا يسع المسلم الجهلُ بها، لتبيَّن لك جهله وقلة علمه، ولكنه في شؤون الدنيا عالِم وحاذِق، ولو سألته عن أسماء الصحابة المشهورين، من الذكور والإناث، بل لو سألت أحدهم عن نَسَب النبي -صلى الله عليه وسلم-، لما أجابك، ولكنه حاذِق وعالِم بأسماء الذين لا نفع منهم للإسلام والمسلمين.
وقد قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: "والله لبَلَغَ مِن علم أحدهم بدنياه أن يَقلِب الدرهم على ظفره، فيخبرك بوزنه وما يُحْسِن يصلي"؛ وما أكثر هؤلاء في هذا الزمان! تجد أنه خبير بدنياه، عالم بها ذكي حاذق، يعرف أسرارها وطرقها، وكيفية الحصول عليها وجمعها، لكنه لا يعرف من عقيدته شيئًا، وإن عرف فهي معرفة ضعيفة مدخولة، ولا يُحْسِن يتوضأ ولا يُحْسِن يغتسل ولا يُحْسِن يصلي.
وهذا -عباد الله- له أثره السيئ الكبير على أمة الإسلام؛ لأن من كان عن الآخرة غافلاً، وللعمل لها تاركًا، وعلى الدنيا مقبلاً وحاضرًا ولها عاملاً، فسوف يُصاب بالوَهَن والخَوَر أمام أعداء الله -عز وجل-، ويُبْتَلى بالذل لأعداء الله والهوان على الناس، ومن الآثار السيئة ترك الاهتمام بالمسلمين وقضاياهم، وعدم حمل الهمّ في القلوب لمصابهم ولأوائهم، ولا تدمع له عين، وهو يرى أعداء الله -عز وجل- وأعداء رسله، يسومون المسلمين سُوء العذاب، ولا يتحرك له قلب ولا لسان، ولو أنه فقَدَ شيئًا من دنياه لأقام الدنيا وأقعدها من أجل هذا المفقود، ولربما أُصِيبَ في عقله -والعياذ بالله-.
ومن الآثار السيئة: ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا أمرٌ مُشاهَد؛ لأن من كانت الدنيا وشؤونها ومكاسبها وشهواتها، أكبر همّه ومبلغ علمه، فإنه لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، بل يسكت على أقل تقدير، إن لم يجعل نفسه داعية من دعاة الضلالة والشر، فيضعف جانب الأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، بل يسكت على أقل تقدير، إن لم يجعل نفسه داعيةً من دعاة الضلالة والشر، فيضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجانب أهله، ومِن ثَمَّ تكثر المنكرات والأعمال الفاسدة في المجتمعات الإسلامية، وتقل الخيرات والأعمال الصالحة، وحينئذ يسهل على أعداء الإسلام القضاء على المسلمين.
ومن الآثار السيئة: حصول المداهنة -والعياذ بالله- في دين الله -عز وجل-؛ فيبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا قليل، من أجل الإبقاء على دنياه، ومن الآثار أيضًا ظهور المعاملات الفاسدة المحرَّمة، وخفاء المعاملات الصالحة المباحة، ومن الآثار السيئة أيضًا، التقاطع والتدابر بين الناس؛ لأن الصحبة والمصاحبة إذا بُنِيَتْ على الدنيا فلا تلبث أن تنهار تلك الصحبة، وتلك العلاقة، وينقلب الحب يغضًا والمودة كرهًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
عباد الله! ومن أهم الآثار السيئة التي تنتج عن هذا العلم القاصر، التنافس في الدنيا وشؤونها تنافسًا يؤدي إلى أمرين اثنين:
الأمر الأول: أن هذا التنافس في الدنيا يُلْهِي المتنافسين عن الأمر الذي يجب عليهم أن ينتبهوا له، ويتنافسوا فيه حقيقة، ألا وهو أمر الدين وأمر الآخرة، فإننا لا نجد قومًا تنافسوا في هذه الدنيا إلا لهوا بهذا التنافس عن الآخرة.
والأمر الثاني: أن هذا التنافس في الدنيا يهلك المتنافسين، هلاكًا حسيًّا وهلاكًا معنويًّا، أما الهلاك المعنوي فهو قسوة القلوب، وإعراضها عن طاعة علام الغيوب، وأما الهلاك الحسي فهو العداوة والبغضاء بين المتنافسين فيها المقتضية للمقاتلة والمنابذة المؤدية إلى الهلاك.
ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابة الذين وافوه في صلاة الفجر يريدون من الغنائم التي جاءت من البحرين: "أبشروا وأمِّلُوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم! ولكن أخشى عليكم أن تُبْسَط عليكم الدنيا كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كم ألهتهم"؛(أخرجه البخاري في صحيحه).
وفي رواية "فتهلككم كما أهلكتهم"؛ فلتكن -عباد الله- همتنا عالية، وعلمنا رفيعًا، يرتفع قدرنا مكانتنا، ويكتب لنا النصر في الدنيا والآخرة.
وصلوا وسلموا..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي