وصايا بعد عشر ذي الحجة

محمد بن سليمان المهوس
عناصر الخطبة
  1. هنيئا لمن حج حجا مبرورا .
  2. من مظاهر إنعام الله على غير الحجاج .
  3. وجوب تحقيق الإخلاص في كل الأعمال .

اقتباس

فَأَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ، وَتَابِعُوا رَسُولَ رَبِّكُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَنَاطُ الْقَبُولِ عَلَى ذَلِكَ، فَرُبَّ عَابِدٍ فِي ذُرَى جِبَالِ السِّنْدِ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى اللهِ مِنْ مُتَعَبِّدٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَرُبَّ مُصَلٍّ عِنْدَ جَبَلِ طَارِقٍ تَبْلُغُ صَلَاتُهُ مَا لَمْ تَبْلُغْهُ صَلَاةُ مُصَلٍّ فِي الرَّوْضَة الشَّرِيفَةِ، فَإِنَّ الْجَامِعَ لِذَلِكَ هُوَ الْإِخْلَاصُ للهِ -جَلَّ جَلَالُهُ-...

الخطبة الأولى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيِكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيِثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ--، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي الْأَيَّامِ الْقَلِيلَةِ الْخَالِيَةِ قَضَى الْحُجَّاجُ عِبَادَةً مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ، وَقُرْبَةً مِنْ أَجَلِّ الْقُرُبَاتِ، وَرُكْنًا عَظِيمًا مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، وَعَادَ الْحُجَّاجُ بَعْدَ ذَلِكَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يُونُسَ: 58]، فَهِنِيئًا  لِلْحُجَّاجِ حَجُّهُمْ، وَهَنِيئًا لَهُمْ بِقَوْلِ رَسُولِ الْهُدَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ" (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ حَجَّ ولَمْ يرفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أمُّهُ" (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

وَإِنِّي لأَدْعُوَ اللهَ أَسْأَلُ عَفْوَهُ *** وَأَعْلَمُ أَنَّ اللهَ يَعْفُو وَيَغْفِرُ

لَئِنْ أَعْظَمَ النَّاسُ الذُّنُوبَ فَإِنَّهَا *** وَإِنْ عَظُمَتْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ تَصْغُرُ

عِبَادَ اللهِ: كَمَا أَكرَمَ اللهُ الحُجَّاجَ بِالْحَجِّ فَقَدْ أَنعَمَ عَلَى سَائِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ الحُجَّاجِ بِنِعَمٍ عَظِيمَةٍ، وَيَسَّرَ لَهُمْ عِبَادَاتٍ جَلِيلَةً، مَرَّتْ بِهِمْ عَشْرُ ذِي الحجَّةِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنيَا عِنْدَ اللهِ، وَمَرَّ بِهِمْ يَومُ عَرَفَةَ الَّذِي يُكَفِّرُ صِيَامُهُ سَنَتَينِ، وَمَرَّ بِهِمْ يَوْمُ النَّحْرِ فَصَلَّوْا وَضَحَّوْا، وَتَقَرَّبُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِوَجْهِهِ صَوَابًا عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ للهِ وَالْبُعْدِ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ؛ فَمِنَ الْحُجَّاجِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ أَعْمَالَهُ فِي الْحَجِّ أَوْ فِي الْعَشْرِ ويَسْرُدُهَا لِلنَّاسِ؛ وَلَوْ أَخْفَاهَا لَكَانَ أَفْضَلَ، وَاللهُ يَقُولُ: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)[الْأَعْرَافِ: 55]، يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ  -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "تَضَرُّعًا وَخُفْيةً؛ أَيْ: سِرًّا"، وَيَقُولُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: "إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ قَدْ فَقُهَ الْفِقْهَ الْكَثِيرَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ الطَّوِيلَةَ فِي بَيْتِهِ وَعِنْدَهُ مَنْ عِنْدَهُ وَمَا يَشْعُرُونَ بِهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدِرُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي السِّرِّ فَيَكُونَ عَلَانِيَةً أَبَدًا، وَلَقَدْ كَانَ المُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ، إِنْ كَانَ إِلَّا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)[الْأَعْرَافِ: 55].

وَلِذَلِكَ كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- أَشَدَّ النَّاسِ خَوْفًا عَلَى أَعْمَالِهمْ مِنْ أَنْ يُخَالِطَهَا الرِّيَاءُ أَوْ تَشُوبَهَا شَائِبَةُ الشِّرْكِ. فَكَانُوا -رَحِمَهُمُ اللهُ- يُجَاهِدُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، كَيْ تَكُونَ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

فَأَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ، وَتَابِعُوا رَسُولَ رَبِّكُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَنَاطُ الْقَبُولِ عَلَى ذَلِكَ، فَرُبَّ عَابِدٍ فِي ذُرَى جِبَالِ السِّنْدِ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى اللهِ مِنْ مُتَعَبِّدٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَرُبَّ مُصَلٍّ عِنْدَ جَبَلِ طَارِقٍ تَبْلُغُ صَلَاتُهُ مَا لَمْ تَبْلُغْهُ صَلَاةُ مُصَلٍّ فِي الرَّوْضَة الشَّرِيفَةِ، فَإِنَّ الْجَامِعَ لِذَلِكَ هُوَ الْإِخْلَاصُ للهِ -جَلَّ جَلَالُهُ- (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الْأَنْعَامِ: 163].

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الآيَاتِ وَالْحِكْمَةِ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .. أَمَّا بَعْدُ:

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنْ دِينِكُمْ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَتَفَطَّنُوا ذَلِكَ عَلَى الْقُلُوبَ وَالْأَعْضَا، وَاحْذَرُوا سَخَطَ الْجَبَّارِ فَإِنَّ أَجْسْامَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى، وَتَقَرَّبُوا إِلَى اللهِ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِطَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَحَقٌّ عَلَى مَنْ يَعُودُ شَبَابُهُ هَرمًا، وَنَشَاطُهُ وَهَنًا، وَقُوَّتُهُ ضَعْفًا، وَزِيَادَتُهُ نَقْصًا، وَحَيَاتُهُ مَوْتًا أَنْ يُبَادِرَ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ، وَلَا يَتَمَادَى فِي اغْتِرَارِهِ، وَلَا يَتَنَاهَى عَلَى إِصْرَارِهِ، وَالتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَاللهُ يَقُولُ: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النُّورِ: 31].

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، وَقَالَ ‏-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا" رَوَاهُ مُسْلِم.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي