احذر ردغة الخبال من قيل وقال

عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عناصر الخطبة
  1. حرمة الأعراض .
  2. انتشار القيل والقال في المجتمع .
  3. أنواع الناس عند سماع قيل وقال .
  4. كيفية مواجهة مرض القيل والقال .

اقتباس

ابتُليت الأمَّةُ بمرض عضال، سَرَى في أخلاقها سريان النَّار في الهشيم؛ مع انتشار وسائل التواصل وتنوّعِها الذي غيَّر القلوب، وأفسدَ العقول.. يؤثر على الأوطان، ويُفرّقُ الجماعات زورًا وبُهتانًا؛ بلا بيّنة قاطعة، ولا حُجَّة ساطعة، ولا...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونستهديه..

ما أعظمها من خسارة.. يُبكِّرُ للصلاة ومن قُرّاءِ القُرآن يتبعُ الجَنائز ويَزورُ المرضى وربما يتصدقُ ويُنفقُ لكنَّهُ مسكين لا يُمسكُ لِسانه عَن أعراض الناس؛ فيُطلقهُ ويفريهم فرياً نقلاً للأخبار وتُهمةً وافتراءً وبُهتاناً يَنشرُ ذلك ويتحدَّث بهُ مُضيِّعاً لدينه مُفسداً لأخلاقهِ؛ فمن أَعظمِ الامتحان لدينِ المرءِ وتقواه تعظيمُ حقوق المسلمين، ومَخافةُ اللهِ في أَعراضِ المؤمنين، مخافةٌ وتعظيمٌ يدلّان على صدق الإيمان والتقوى والورع، وفقدُ ذلك دليلٌ على خراب تقوى العبد وفساد دينه وأخلاقه ولو قام بظاهر العبادات.

معاشرَ المسلمين: آفةٌ كبرى وداءٌ عظيم دبَّ في مجتمعات المسلمين من انتشار قِيل وقال، دون برهانٍ قاطعٍ، ولا دليلٍ ساطع، وتلكم فتنةٌ، وهي على الإسلام والمسلمين محنة؛ لأنها مما يُوغِرُ الصدور، ويُغيِّرُ العقول، ويُفسِد الأُخُوَّة، تجُرُّ من ويلاتٍ ما لا تُحصَى، ومن الشرور ما لا يُستقصَى؛ فلا يَليقُ بمجتمعٍ تداوُل أقاويل وأحاديث سندُها الظنُّ والتخمين، والرجمُ بالغيب من غير تثبّتٍ ولا تبيّن؛ فذلكم مفاسدُ عُظمى، ويتضمَّنُ آثاماً كُبرى.

أيها الإخوة: حُرمة الأعراض عظيمةٌ في الإسلام، ومن أعظمِ الظلمِ التجنِّي على أحدٍ من المسلمين، أو التعرُّض له وفق عواطف عمياء، وتبعيَّةٍ بلهاء، صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أربى الربا شتم الأعراض".

فالواجب على من يخاف مقام ربه ويخشى المُثولَ بين يديه البُعدُ عن الخوض مع الخائضين بقيل وقال، وأن لا يُشغل نفسه بما يخدِش دينه، ويُعرِّضُه لغضب ربه؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قال في مؤمنٍ ما ليس فيه أسكنَه الله رَدْغَة الخَبال حتى يخرج مما قال: ورَدْغَة الخَبال: عصارة أهل النار"(رواه أحمد)؛ "فلا تقل بلسانك إلا معروفًا، ولا تبسط يدكَ إلا إلى خير"(رواه الطبراني، وصححه الألباني).

إخوة الإسلام: من الإثم المبين التسارعُ في نشر أخبارٍ لا يعضُدُها دليل، وإشاعةُ أحاديث لا يسنُدُها برهان؛ فربُّنا -جل وعلا- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات:6]، وأغلب الأخبار المتداولة اليوم؛ إما اتهامات أو يثبت فيما بعد أنها تجني وتحريف، وبعضهم يبادر بالنشر والتعليق. ومن علامات الحمق ترك التثبُّت، ونشر الأخبار الواهية، والظنون الباطلة، وتصيُّد الأحاديث الكاذبة، وسوء الظنون بالمسلمين، وحملهم على محامل السوء والشكوك.

وقد ابتُليت الأمَّةُ بمرض عضال، سَرَى في أخلاقها سريان النَّار في الهشيم؛ مع انتشار وسائل التواصل وتنوّعِها الذي غيَّر القلوب، وأفسدَ العقول.. يؤثر على الأوطان، ويُفرّقُ الجماعات زورًا وبُهتانًا؛ بلا بيّنة قاطعة، ولا حُجَّة ساطعة، ولا وازع من دين ولا ضمير، وإنَّما محض شكوكٍ وظنون، وقيل وقال، ولعلَّ وأظُن، وأحسبُ ورُبَّما، وسمعتُ ويقولون، وألم تسمع ما قيل ويُقال؟! في عرض مَصون، وذمَّةٍ بريئة معصومة! مرضٌ يُصيبُ قلباً فارغاً، فتسري حُمَّاه على اللسان؛ فيتكلَّمُ بما لا يعلم، وتنتقلُ عدواه مع الهواء لتصيبَ آذاناً مريضةً.. وسرعَانَ ما ينشره الناس مع الإعادة والزيادة.. والجنايةُ خرابُ الديار، وانقطاع العلاقات، والقضاء على الدماء والأعراض في لحظات وتفرقة الأوطان والمجتمعات!

ألم تسمع ما يقولون؟! يا رجُل! أنت قديم ولا تعيش بين الناس! المسؤول الفلاني تعدّى وفاسد.. الشيخ والعالم مُتجاوز وحزبي.. الموظف الفلاني عقدَ الصّفقةَ وقبضَ الرّشوة وسرَقَ مال الأمّة. وفلانةُ؛ ألم تسمع؟ ربّي يعافينا، يقولون: وجَدُوها ورأَوها وسمِعوها.. في سلسلةٍ لا تنتهي من قيل وقال ويقولون..

مرضٌ خبيث صنعةٌ لكلِّ أفّاكٍ أثيم، يقع فيه من كان فارغًا من التقوى وإن تمظهر بها، يُخرِّب دينه وخلقه بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى "عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال" فهو واقع في ردغة الخبال في النار عياذاً بالله..

وكم جنى على الأمة هذا المرضُ الفتاك من قيلٍ وقالَ ونشرِ عوراتٍ على أبرياء وأشعل نار الفتنة بين الأصفياء! وكم نال من عظماء! وكم هدّم من وشائج! وتسبّب في جرائم! وفكَّكَ أواصر وعلاقات! ودمّر أُسراً وبيوتات! وأشغل الهاشتاق كذباً والسبب: قيل وقال، وكلّه محرّم نيلٌ من ولاة الأمر أو من مسؤول أو عالمٍ أو أي إنسان كبيرٍ أم صغيرٍ أو فقير..

اعلم -يا عبد الله- ذنوبك الخاصة لو بلغت عنان السماء ثم استغفرت الله لوجدته غفوراً رحيماً، ولكن حقوق العباد ممن تكلَّمتَ بهم وأسأتَ إليهم كيف النجاة منها وقد ساهمت بنشرها؟! فابتعدوا -إخوتي- عن اللغو بأنواعه، والفُحش بشتى صوره، والتسارع في شتم أعراض المسلمين، والقدح في أديانهم وأمانتهم بغير حقٍّ ولا برهان؛ فالله يقول في حق المفلحين (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)[المؤمنون:3]، ويقول: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ)[القصص:55]؛ فاحذر أن تُصدرَ حكماً على أحدٍ من المسلمين دون أسبابٍ شرعية، ولا حُجج قطعية، ولا براهين صحيحة، ولا أدلةٍ واضحة، واعلم أن أعراضَ المسلمين حفرةٌ من حُفر النار.. إياك أن تقف على شفيرها، واعلم أنك إن جرحتَ مسلمًا بغير تثبُّت ولا تحرُّز أقدمتَ على الطعن في مسلمٍ بريء من ذلك، ووسَمْتَه بسوءٍ سيبقى عليه عارُه أبدًا، ويبقى عليك إثمُه أبدًا.

وأشدُّ أنواع الغِيبة، وأضرُّها على أهلها، وأكثرها بلاءً وعقابًا أن يتساهلَ المرء بما تخُطُّه يمينه بما لا سند له ولا مُعتمَد؛ وغلوٍّ في إساءة الظن بالمسلم، فيقرأه حينئذٍ الملأ، ويشهد عليك أهل الأرض والسماء بما كتبتَ، قال -صلى الله عليه وسلم-"إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبيَّن فيها يزِلُّ بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب".

عباد الله: الناسُ أنواع مع الأخبار المتداولة والاتهامات الباطلة.. فأحدٌ يخترعُ الكذبة ثم ينشُرها فتنتشر وتنقل عنه وهذا ينطبق عليه قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث الرؤيا للإسراء: "وأما الذي رأيته يشقُّ شِدْقَه في النار فكذابٌ يكِذْبُ الكذبة فَتُحمل عنه في الآفاق".

ونوعٌ آخر يسمع الخبر الكاذب الذي لا يصدقه عقل لكنه -لجهله أو لمؤامرته وحقده- يُساهمُ في نشره طمعاً في تحقيق مأربه بتشويهِ من يكرههُ والتأليب عليه وهذا بهتان يقول الإمام أحمد: "ما رأيت أحداً تكلم في الناس وعابهم إلا سقط".

أما الثالث: فيبحثُ عن الأخطاء ويقلب فيها؛ فيفرحُ إذا وجدها فينشرها ثم يُؤلّبُ عليها وهذا من تتبع العورات، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته"(أخرجه أحمد).

والرابع: لا ناقة له ولا جمل إلا الإثمُ المبين هو مسكين!! يسمع الأخبار والاتهامات ثم ينشرها وتنقل عنه فيأثم.. وظيفته النشر وسنده في ذلك: والله يقولون!! لكنها لن تنفعه عند الله بل هي عقوبة وإثمٌ في حقوق العباد.

والخامس: إذا سمعها سكت ولم ينشر أو ينكر فلعلّه على خير "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت".

وأما السادس: فمؤمن ومؤمنة سمعوا الإشاعات والاتهامات فظنوا خيراً وهذا مصداقُ قولِ الله: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ)[النور:12].

أما سابعاً: فرجالٌ مؤمنون تَقِيُّون ومواطنون حقيقيُّون لما سمعوا اللغوَ أعرضوا عنه، ودافعوا ضدّه لمصلحة دينهم وأوطانهم، وذَبُّوا عن أعراضِ الناس، ودافعوا بالحق عن بلادهم لا يرجون من الناس جزاءً ولا شكوراً؛ لأن الأصل براءة المسلم.. هؤلاء هم المخلصون الناجون يوم القيامة يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من ذب عن عرض أخيه بالغيبة، كان حقاً على الله أن يعتقه من النار"(حديث صحيح) وديننا وأوطاننا وأخلاقنا وقيمنا ألزم علينا بالدفاع عنها..

أيها المسلم: السعادة عند كل فتنة العمل بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أمسِك عليك لسانك، وليَسَعك بيتُك، وابكِ على خطيئتك"؛ فكيف بمن خاضَ مع الخائضين، وتناول أعراض المسلمين؟! وإذا سمعتَ من يُشنِّع على مسلم فلا تُصدِّقه؛ بل تثبَّت وتروَّ وتحرَّ الحق، وتوخَّ الصدق، ولا تكن عونًا في نشر الشائعات المُغرِضة، والأخبار الواهية، قال -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء إثمًا أن يُحدِّث بكل ما سمِع"(رواه مسلم).

بعض الناس يصله خبر بالجوال وعبر وسائل الاتصال فيه اتهامٌ أو مبالغة، فيُسابق لنشره يظن أنه مأجور وهو آثمٌ مأزور؛ فقد يكون إرجافا أو اتهاما أو ظن سوء أو قول زور أو خبراً كاذباً أو إشاعة (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)[النساء:83]؛ فاتق الله -أخي- واحذر القيل والقال؛ فهي في النار ردغة الخبال عصارة أهل النار.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً)[الإسراء:36].

يا رب نجنا من حقوق العباد، وطهر ألسنتنا من الكذب وقول الزور يا أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

وبعد: إن من أولى الخطوات في مواجهة مرض القيل والقال تربية النفوس على الخوف من الله، والتثبت في الأمور؛ فالمسلم لا ينبغي أن يكون أُذُنًا لكل ناعق، بل عليه حسن الظنّ أوّلاً، ثمَّ التحقق والتبيّن، وطلبُ البراهينِ القطعية، والأدلّةِ الموضوعية؛ وبذلك يُسَدُّ الطريق أمام الأدعياء، الذين يعملون خلف الستور، ويلوكون بألسنتهم قولَ الزور. قال قتادة: "لا تقل رأيتُ ولم ترَ، وسمعتُ ولم تسمع، وعلمتُ ولم تعلم؛ فإن الله سائلُكَ عن ذلك كُلّه".

لا ينبغي أن يُتركَ اليقينُ في الناس لمجرَّد قيل وقال، لا يجوز أن يُتركَ ما عُلِمَ من اليقين في صدق الناس وطهارتهم لمجرّد قول أفاك أثيم! أينَ حُسن الظن بالناس؟! وأين التثبُّتُ والتبيُّنُ والسترُ والنُّصحُ وبينك وبين أخيك ثلاثةُ أمتار؟! هذه كلُّها أخلاقٌ كفيلةٌ بالإصلاح لو كان في القلوب إيمانٌ وإرادةٌ لله والدار الآخرة؛ فكيف بمن خاضَ مع الخائضين، وتناول أعراض المسلمين؟! نسأل الله التوفيق إلى حسن العلم وحسن العمل.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي