قبل أن تسافر

عبد الرحمن بن صالح الدهش
عناصر الخطبة
  1. كثرة نعم الله على عباده .
  2. أهمية السفر والتنقل في الأرض .
  3. كثرة السفر للسياحة الخارجية .
  4. وصايا ونصائح مهمة لعامة المسافرين. .

اقتباس

يا عبد الله! تذكر بسفرك هذا القصير سفرك الطويل الذي عُدَّتُه من نوعٍ آخر؛ عُدَّتُه العمل الصالح، وزاده التقوى،.. ثم تذكر حينما تجَمعُ متاعَك، وتركب أولادك وتقلّهم في سائرة أو طائرة أن هناك من جمع أولاده ومتاعه هربًا من...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، والمبادرةِ بالأعمال الصالحة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا".

عباد الله: إن كل عاقل ذا فطرة سليمة يعلم أن الشيء الثمين حقُّه الحِفْظ في المكان الأمين، فيعابُ عليه أن يضعه في مكان يكون عرضة للضياع، أو تصل إليه أيدي السُّراق، كما يعاب عليه أيضًا أن يضعه في مكان لا يناسبه فيلحقه به ضرر يفسده، أو ينقص قيمته

ألا وإنَّ أغلى ما يملكه الإنسان في هذه الدنيا دينه الذي به سعادته في الدنيا، ونجاته في الأخرى.

فواجب على الإنسان أن يحفظ دينه حفظه لماله بل أشدّ.

عباد الله: إن على المسلم كما أنه يتعرض لأسباب الهداية والاستقامة، وما به صلاحه عليه أيضًا أن ينأى بنفسه عن مواطن الفتن، ومظنة تغير القلب.

وإنَّ من مناهج كثير من الناس في قضاء إجازتهم السفرَ في أرض الله، والسياحة في أرجائها، والمشي في مناكبها (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)[الملك: 15].

وإنَّ على السائح في الأرض أن يراعي آداب السفر فلا يفرط في واجبٍ، أو يقع في محرم، يعلم أنَّ الله مطلع عليه في سفره كما هو -عزَّ وجلَّ- مطلعٌ عليه في إقامته وحضره.

فأوَّلُ ما يجب على من أراد السفر أن يُحسن اختيار المكان الذي يسافر إليه، فلا يسافر إلى البلاد والأماكن التي نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن دخولها؛ فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن دخول ديار المعذَّبين، فعن ابن عمر – رضي الله عنه – قال: لما مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحِجْر، قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكون باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوها، لا يصيبكم مثلُ ما أصابهم"( الحديث متفق عليه، وينظر: الفتح (6/378)، اقتضاء الصراط المستقيم (80)، زاد المعاد (3/532). وذكر في الفتح أن في رواية أحمد "فإن لم تكونوا باكين فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم").

والحِجْر هي ديار ثمود، ويعرفها الناس بمدائن صالح شمال المدينة.

والحديث عامٌّ في سائر أماكن العذابِ.

ومن مراعاة مكان السفر ألا يسافر إلى بلاد ظهر فيها الفساد، وتيسرت فيها أسباب المعصية، وانتشرت فيها الرذيلة، وطمست فيها كثيرٌ من معالم الفضيلة من بلاد الشرق أو الغرب، القريبة أو البعيدة.

فصارت شَرَكًا يصادُ بها من كثرَ ماله، وقلَّ دينه، وساق نفسه إلى الفتنة سوقًا.

إنَّ مصيبتنا عظمى في أبنائنا وإخواننا الذين أعدُّوا للسفر عدَّته، قاصدين مجتمعات مشبوهة باسم الفرجة والسياحة مستجيبين للدِّعايات المغررة، منخدعين بالتسهيلات والحجوزات الميسرة، والخدمات المعلنة.

إنَّ هذه الدعايات للسفر إلى بلاد الخارج التي تطالعها في صحيفة أو مجلة، أو عبر قناةٍ أما إنها تعرض الوجهَ المنَمَّقَ المرغوبَ فيه في تلك البلاد.

تريك صورة البحر والنهر تمخره القوارب، وصورة السكن والغرف فيها النمارقُ، والأعمدة المتهدمة زعموها بقايا حضارةٍ بائدةٍ.

تخاطب فيك بطنك لا عقلك فهي تغريك، وتسيل لعابك بمأكولاتها الشرقية والغربية، وأنواع مقبلاتها، وأصناف حلوياتها..

ناهيك عن دعايات قلَّ حياؤها، وأظهرت فسادها وإفسادها فعرضت صُوَرَ المومِساتِ، وكتبت ما كتبت من رديء القول والكلماتِ، وأعلنت عن غناء وطرب وحفلات.

وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه"، و"إنَّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى؛ إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت".

فمال هذه الدعايات إن كانت ناصحة في دعايتها، صادقة في عروضها، دنيًا لا دينًا مالها لا تعرض أو تشير إلى أنه عليك أيها السائح: أن تحذر فإنَّ هناك من يتربص بالسائحين ليأخذ ما استطاع من أموالهم في حين غفلة منهم؟

وهناك من يتظاهر بالدَّلالة والنصح لهم ليأخذ ما غفلوا عنه من متاعهم.

وليس عند هذا ولا ذاك أدنى مانعٍ أن يضرب أو يجرح بل ويقتل لتحقيق أيِّ غرض عَنَّ في خاطره، واجتهد في تحقيقه.

وسرقة المال والمتاع تهون عند سرقة الدين.

وما بال هذه الدعايات لا تجمع مع دعايتها الترغيبية - للبلاد التي زعموها سياحية - ما بالها لا تجمع التحذير من مروِّجي المخدرات، ومستحلِّي الخمور الذين يسمُّونها بغير اسمها. يتلقفون السياح، يبادرونهم ما حرَّم الله، وما يفسد عليهم دينهم، ويقضي على مروءتهم.

بل، ما لها لا تحذر من سماسرة الخنا، والدعاة إلى اللواط والزنا، والراقصات حاملاتِ الأمراض، وناقلاتِ الإيدز؟

بل، ما لها لا تحذر من السَّحَرَةِ الكافرين، والكهنة الكاذبين الذين ربما استجروا المغفلين لسحرهم ودجلهم تحت مسمَّى الألعاب المسلية، أو ليستكشفوا له حظًا، أو يعطف لها زوجًا، أو ليداووا مريضًا.

وكيف يحذرون من هذه وهذه بضاعتهم، ولأجلها أجهدوا أنفسهم؟

أبعد هذا وذاك تشكّ أيها المسلم أنك مستهدَف في دينك، وفي أخلاقك، وفي القرش الذي تحمله في جيبك؟.

(وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)[النساء: 27].

وإلا فما معنى أن يرجع بعض السائحين وقد تنكَّر لدينه، وثقلت عليه عبادة ربّه إلا من هول الفتنة، وقوة العاصفة، وشدة القاصفة.

يعود متبرمًا من أهله وولده، يندب حظَّه، ويعلن حسرته من انقطاع سفره.

يعود بحسده، وقلبه معلّق في البلد الذي قَدِمَ منه.

ألا فليتّق الله أناس اختاروا بلادًا هذا بعض ما فيها، ليتّقوا الله وليعيدوا النظر في سفرهم فُرادى أو بأولادهم وأهليهم فعظم الفتنة لا يغفل وإن حسن الجو واخضرت عندهم الأرض.

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[فاطر: 8].

أقول قولي هذا..

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى....

أما بعد:

فإليك بعض الآداب تذكيرًا لا تعليمًا.

فلقد سافر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد سفره لهجرته سافر لأحد أغراض ثلاثة، سافر مجاهدًا في سبيل الله، وسافر معتمرًا، ثم سافر حاجًّا.

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفرٍ، كبَّر ثلاثًا، ثُمَّ قال: "سبحان الذي سخَّر لنا هذا وما كنَّا له مقرنين، وإنَّا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العملِ ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا، واطو عنَّا بعده، أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل".

وإذا رجع قالهنَّ وزاد فيهنَّ: "آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون".

وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إذا علوا الثنايا – وهي الأماكن المرتفعة - كبَّروا، وإذا هبطوا سبَّحوا".

ثمَّ لا يكن للشيطان نصيب في سفرك فتضيع أو تتكاسل عن صلاة مكتوبة، فقد جعل الله للصلاة كتابًا موقوتًا، ووقتًا مفروضًا؛ فصلِّ الصلاة في وقتها على حسب ما تستطيع؛ فإن كنت في الطائرة وخشيت فوات الوقت فصلِّ في الطائرة قائمًا متوجهًا إلى القبلة واجتهد في ذلك؛ فإن تعذر فصل على حالك ولا تنتظر نزولك من الطائرة فتخرج الصلاة عن وقتها، والسنة للمسافر أن يقصر الرباعية حتى يرجع على الصحيح من غير تحديد وقت للسفر وإن طال.

وإن جمع الصلاتين للحاجة فلا حرج، والأفضل أن يصلي كل صلاة في وقتها.

أخي المسافر: احذر التفريط في حفظ من وجب عليك حفظهم من الأولاد والمحارم.

فتحفظهم مما يؤذيهم أو يضرّ بهم في أبدانهم فلا تسمح لهم بالذهاب إلى ما فيه خطرٌ عليهم.

أو يضرهم في أديانهم فلا تأذن لهم بالذهاب إلى أماكن فتنة فيها اختلاط، أو تساهل من نساء في الحجاب، أو سماع محرم من أغاني، أو مشاهدات.

فهذه الأماكن لا يجوز الذهاب إليها إلا لمنكر لفسادها، سواء تسمَّت باسم حدائق، أو ملاهي، أو أماكن ألعاب وترفيه، أو غير ذلك.

ولا يليق بالأب الذي حفظ أولاده في بلده أن يضيعهم إذا سافر بهم.

فإياك أن تقرّ عينك إلا أن يكونَ أولادك تحت ناظريك؛ فالسفر لا يبيح للأب أو غيره أن يخرج أولاده متى شاءوا إلى أسواق البلد الذي سافروا إليه، والسفر ليس عذرًا في أن يمضى الليل في جلسات شرها أكثر من خيرها أو لا خير فيها ألبتة.

والسفر ليس عذرًا أن يتميع الأبناء فيلبسوا البناطيل مسرحين شعورهم متسكعين في الأسواق

والسفر ليس عذرًا أن تخلع البنت المراهقة حياءها في لباسها ومشيها على مرأى من وليها أو على حين غفلة.

فاتقوا الله عباد الله، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة.

ثم من أعظم ما ينبّه عليه المسافر أن يكون رسول صدق وسفير خير إلى البلد الذي يسافر إليها بأخلاقه وأفعاله قبل أقواله ليتمثل المؤمن الصادق في قوله، الوفي لوعده، الغاضّ لبصره، المشتغل بما يعنيه، (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)[فاطر: 72].

واستعن أيها المسافر على قضاء حوائج بالكتمان فليس من المرؤة ولا الذوق السليم أن تُرِيَ الناس صالحهم وفاسدهم تفاصيل سفرك وتنقلاتك وما أكلت؟ وماذا لبست؟ في صور أو مقاطع تنزلها.

فانتبه، ونبِّه مَن هُم برفقتك ممن قد يتوسعون في ذلك، وليس عذرًا لك أن يُقال: هذه طريقة الناس، والحياة تغيرت.

ولست بحاجة أن أذكرك بما في ذلك من مفاسد فيكفي أن تعرف أن المحب ربما تطلع إلى ما أنت فيه، ولكنه لم يستطع ما استطعت، والمبغض ربما شمت بك أو حسدك.

واكتفِ بالتواصل الخاص مع مَن له حق عليك، ويهمه أمرك، وليطمئن على حالك!

وبعد هذا –يا عبد الله- تذكر بسفرك هذا القصير سفرك الطويل الذي عُدَّتُه من نوعٍ آخر؛ عُدَّتُه العمل الصالح، وزاده التقوى، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة: 197].

ثم تذكر حينما تجَمعُ متاعَك، وتركب أولادك وتقلّهم في سائرة أو طائرة أن هناك من جمع أولاده ومتاعه هربًا من زلازل مدمرة، أو حروب مستمرة وقصفٍ متوالٍ فهو يخرج هاربًا مضطرًا، وأنت تخرج سائحًا مختارًا !

وما أخبار القصف في درعا في بلاد الشام منكم ببعيد!

تذكر ذلك لتعرف نعمة الله لديك، وعِظَمَ الأمن الذي أسبغه ربك عليك (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)[إبراهيم: 7].

رزقني الله وإياكم شكر نعمته، وحسن عبادته.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي