نبي الله داود عليه السلام سيرة وعبرة (2)

عبدالله بن عبده نعمان العواضي
عناصر الخطبة
  1. من الدروس العلمية في قصة داود .
  2. من دروس السياسة في قصة داود .
  3. عِبرٌ ودروس قضائية .
  4. من الدروس العسكرية .
  5. اهتمام داود بالمجال الاقتصادي .
  6. دروس وعبر عامة. .

اقتباس

العدل وصلاح الحكام من أسباب بقاء الدول وراحة الشعوب التي ترعاها، وقد مضت سنة الحياة على هذا، فكم بقيت دول قرونًا متعددة بسبب إقامة العدل وصلاح حكامها، وكم فنيت دول كانت أشد قوة وبأسًا بسبب الظلم وفساد...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، أحمده على نعمه الوفيرة، وآلائه الغزيرة، وأشهد أن لا إله إلا هو المعبود الحق في أرضه وسمائه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد أوليائه، وخيرة أصفيائه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران102], (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء1], (يَآ أَيَّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَ قُولُواْ قَولاً سَدِيداً * يُصلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَ يَغْفِرْ لِكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيمَاً)[الأحزاب70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-, وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس: لقد عشنا في خطبة الجمعة الماضية مع قصة داود -عليه السلام- في القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية، منذ أن كان شابًا إلى أن توفي -عليه السلام-.

وكان في حياة هذا النبي الكريم محطات مهمة متنوعة تستدعي الوقوف عندها لأخذ العظة والعبرة؛ فإن دراسة حياة الأخيار دراسة تدبرية عميقة يعطي الدراسَ والسامع والقارئ أنواراً تضيء طريق العبد إلى ربه -تعالى-، وحياة العظماء -بهداياتها وإضاءاتها- بعد موتهم أمدُّ منها قبل وفاتهم.

وكانت في حياتك لي عظاتٌ *** وأنت اليوم أوعظُ منك حيّا

عباد الله: في حياة نبي الله داود -مما ذكرنا في النصوص في الجمعة الماضية- دروس وعبر منيرة، في جوانب كثيرة من الحياة، فهناك دروس علمية، وهناك دروس سياسية، وهناك دروس قضائية، وهناك دروس عسكرية، وهناك دروس اقتصادية، وهناك دروس عامة أخرى.

فمن الدروس العلمية في قصة هذا النبي الكريم: بيان شرف العلم النافع وأثره الحسن في صلاح الحياة، سواء كان علم دين أم علم دنيا؛ فالعلم نور يشرق على جوانب الحياة الخاصة والعامة, فيرى به صاحبُه السبل السوية فيسلكها، والأحوال المرضية فيأخذ بها، ونبي الله داود -عليه السلام- كان ممن جُمع له علم الدين والدنيا، فكان عالمًا بالشرع، وعالمًا بالسياسة، وعالمًا بالقضاء، وعالمًا بالصناعة، وغير ذلك.

ومن الدروس العلمية: شكر الله -تعالى- على نعمة العلم النافع، علم الدين وعلم الدنيا، فالشكر يزيد هذه النعمةَ ويبارك فيها ويحفظها، قال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7], ومن شكر العلم: استعمالُه فيما يرضي الله -تعالى-؛ كنفع الناس به، والاستعانة به على صلاح الدنيا والدين، وهكذا كان نبي الله داود مع ابنه سليمان -عليهما السلام-، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)[النمل: 15].

ومن الدروس العلمية: أن العلم نعمة من الله -تعالى- على صاحبه، وهبة سَنَية منه وحده، فليس باستحقاق العبد ولا بقدرته ولا بذكائه، وهذا يجعل ذا العلم متواضعًا، لا يرى لنفسه أيَّ موجب للكبر، بل يوجب عليه رد العلم إلى الله -تعالى-، قال -تعالى-: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)[ص: 20], وقال -تعالى-: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)[سبأ: 10]، وقال: (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)[البقرة: 251].

ومن الدروس العلمية: أن الإعلان بالعلم والتحدث به، إن كان من باب الشكر والتحدث بالنعمة لا يعدّ مذمومًا، إنما المذموم إظهاره شهرةً أو رياء أو عُجبًا, ولهذا أظهر داود وسليمان -عليهما السلام- نعمة العلم على اللسان؛ شكراً لله -تعالى-، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)[النمل: 15].

ومن الدروس العلمية: أن الناس متفاوتون في العلم والفهم، فليسوا في مرتبة واحدة، ولو بين الأب وابنه، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الحديد: 21], ولا يعني هذا التفاوت انتقاص المفضول بتقدم الفاضل، فلكلٍّ فضله، وإن نقص حظه في جانب ما كمل في جانب آخر، وهنا أعطى الله -تعالى- سليمان -عليه السلام- مزيدَ فهمٍ في القضاء يفضل أباه -عليه السلام-، قال -تعالى-: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)[الأنبياء: 79].

أيها الأخوة الفضلاء: وفي هذه السيرة العطِرة لهذا النبي الكريم دروس في السياسة، فمن تلك الدروس: أهمية وجود الحكم والدولة لحكم الناس وسياسة أمورهم، فلابد لأي تجمع بشـري يريد الحفاظ على بقائه ونمائه من حاكم يسوس شؤونه، ويدبر أحواله، قال الشاعر:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سراة إذا جهالهم سادوا

إذا تولى سَراةُ الناس أمرَهمُ *** نما على ذاك أمرُ القدْم وازدادوا

تُهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت *** فإن تولّت فبالأشرار تنقاد

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها؛ فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس"(السياسة الشـرعية، لابن تيمية).

وتقتضي طبيعة الحياة السيرَ على نظام يُبنى على سلطة حاكمة ومجموعة بشـرية محكومة، تدين بالطاعة لتلك السلطة، وتتولى هذه السلطة رعاية تلك المجموعة بما يضمن لها العيش بأمان واستقرار.

فقد استقرت حياة بني إسرائيل في عهد النبيين الكريمين داود وابنه سليمان حينما أعطاهما الله النبوة والملك, فحكما بينهم بشرع الله -تعالى-.

ومن الدروس السياسية: أن قوة الدولة يورث استقرارَ البلاد، أما إذا وهنت وصارت ضعيفة فإنه سيعيث الفسادُ فيها، وتنتشر الاضطرابات المتنوعة في ربوعها، وتؤول إلى الزوال والاضمحلال, وحكم داود -عليه السلام- حينما كان مبنيًا على القوة العادلة استقرت دولته وشعب بني إسرائيل الذي حكمه, قال -تعالى-: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ)[ص: 20].

ومن الدروس السياسية: أن العدل وصلاح الحكام من أسباب بقاء الدول وراحة الشعوب التي ترعاها، وقد مضت سنة الحياة على هذا، فكم بقيت دول قرونًا متعددة بسبب إقامة العدل وصلاح حكامها، وكم فنيت دول كانت أشد قوة وبأسًا بسبب الظلم وفساد ولاتها!.

وداود -عليه السلام- عندما كان حاكماً عدلاً ونبيًا صالحاً استقرت مملكته ونعُم شعبه في ظل حكمه, فقد أمره الله -تعالى- فقال له: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)[ص: 26].

ومن الدروس السياسية: أن كثرة علم الحاكم بالدين، وكثرة علمه بأمور الدنيا خاصة المتعلقة بالحكم من أسباب النجاح في الحكم، وهكذا كان داود -عليه السلام-.

ومن الدروس السياسية كذلك: أهمية وجود المستشارين الصالحين، والبطانة الصالحة للحاكم المسلم، فإنها سمعُه وبصره بين رعيته، يسددونه، ويعينونه، ويصلحون ما أخطأ، ويشيرون عليه بالصواب من القول والفعل, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما بعث الله من نبي ولا كان بعده من خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، فمن وقيَ شرها فقد وقي"(رواه البخاري في الأدب المفرد), وهكذا كان سليمان بطانةَ خير لأبيه -عليهما السلام-.

ومن الدروس السياسية: أن اتباع الحاكم للهوى في حكمه من أسباب تقويض الحكم وخرابه؛ لأن اتباع الهوى سيضله عن الصواب، ويبعده عن الحق في الفصل بين الناس، وتسيير أمور الدولة؛ ولذلك نهى الله -تعالى- داود -عليه السلام- عنه، وبين له عاقبته وآثاره السيئة، فقال: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)[ص: 26].

ومن الدروس السياسية: أن يكون الحاكم من أهل العبادة والقرب من الله -تعالى-؛ حتى يسدده الله في حكمه، ويعمل لدينه كما يعمل لدنيا الناس ودينهم، وقد عمل داود -عليه السلام- بذلك فكان كثير العبادة والتوبة والأعمال الصالحة كما مرّ معنا في الخطبة الماضية.

أيها الأحباب الكرام: وفي سيرة هذا النبي الكريم عِبرٌ ودروس قضائية، منها: أهمية القضاء والفصل في الخصومات في حياة الناس، وفي استقرار الدول, فإن الحياة الجماعية التي يعيشها الناس يشوبها الاختلاف والتنازع، والظلم والاعتداء على الحقوق، ولابد لهذا الافتراق من قضاء يفصل التنازع، ويعيد الحقوق إلى أهلها؛ حتى تستمر سفينة الوئام في مخر عباب الحياة بعيدةً عن هيجان أمواج الاعتداءات.

والقضاة يحكمون في قضايا الناس بناء على أمرين: معرفة الأدلة والقرائن في القضية المرفوعة إليهم، وإصدار الحكم الشرعي في تلك القضية حسب ما تبين لهم من تلك البراهين، وهم مختلفون في إصابة الحق، فمنهم من يصيب السداد، ومنهم من يقاربه، ومنهم من يبعد عنه، ونبي الله داود -عليه السلام- أعطاه الله -تعالى- قوة الفصل والمعرفة في الحكم في القضايا، وكذلك أعطى ابنه سليمان -عليها السلام-، فقال -تعالى-: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)[ص: 20].

ومن الدروس القضائية: جواز نقض الحكم بالحكم إذا تبين خطأُ الحكم الأول، أو كان الثاني أرفقَ بالخصوم، فالقضاة حكمهم لا يبنى على معرفة الغيب حتى لا يعدلوا عن الصواب، ولكنه مبني على ما ترجح لديهم من القرائن، فقد يصيبون وقد يخطئون؛ ولذلك قد يحكم القاضي لأحد الخصمين بالحق من خصمه وهو ليس له، فيستحق ذلك الخصم الحق المحكوم به قضاءً، ولكنه لا يجوز له أن يأخذه ديانة, يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، وأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذ؛ فإنما أقطع له قطعة من النار"(متفق عليه).

وفي قصة داود -عليه السلام- نقض حكمه في قضية الزرع، وقضية المرأتين، قال -تعالى-: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ)[الأنبياء: 78], (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ)[الأنبياء: 79].

وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنتِ، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود -عليهما السلام- فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا -يرحمك الله- هو ابنها، فقضى به للصغرى".

والقضاة لا يستوون في معرفة الصواب، فداود -عليه السلام- كان حكمه في القضيتين صحيحًا بناء على الأدلة، لكن تبين لسليمان -عليه السلام- حكمٌ هو أرفق بالخصمين من حكم أبيه فحكم به وأقره أبوه عليه، وفي الثانية لاحظ سليمان مخايل الاستحقاق للولد في المرأة الصغرى فاحتال حيلة قضائية صحيحة حتى وصل إلى الحق فحكم به للصغرى، وأمضى أبوه حكمه في هذه كذلك.

ومن الدروس القضائية: أهمية تحلي القاضي بالفطنة والذكاء، والإحاطة بالطرق المشروعة في استبيان الحق، مثل الحيل الصحيحة، وقد ضرب القاضي إياس بن معاوية أروع الأمثلة في الفراسة واستخراج الحقوق من الخصوم، وقد ذكر المؤرخون عن فطنة إياس وذكائه في القضاء أخباراً عجيبة كثيرة، فمن ذلك:

أن رجلاً استودع رجلاً مالاً، ثم طلبه فجحده، فخاصمه إلى إياس بن معاوية، فقال الطالب: إني دفعت المال إليه، قال: ومن حضرك؟ قال: دفعته إليه في مكان كذا وكذا ولم يحضرنا أحد، قال: فأي شيء كان في ذلك الموضع؟ قال: شجرة، قال: فانطلق إلى ذلك الموضع وانظر إلى الشجرة؛ فلعل الله -تعالى- يوضح لك هناك ما يبين لك حقك، لعلك دفنت مالك عند الشجرة ونسيت فتذكر إذا رأيت الشجرة، فمضى الرجل وقال إياس للمطلوب: اجلس، حتى يرجع خصمك.

فجلس وإياس يقضي وينظر إليه ساعة ثم قال له: يا هذا، أترى صاحبك بلغ موضع الشجرة التي ذكر؟ قال: لا، قال: يا عدو الله! إنك لخائن، قال: أقلني أقالك الله، فأمر من يحتفظ به حتى جاء الطالب فقال له إياس: قد أقر لك بحقك فخذه به.

ورد رجل جارية اشتراها من رجل غلبه فخاصمه إلى إياس بن معاوية فقال له: لمَ تردها؟ قال: أردها بالحمق، قال إياس لها: أيُّ رجليك أطول؟ قالت: هذه، قال: تذكرين أيَّ ليلة ولدت؟ قالت: نعم، فقال له إياس: رُدّ رُدّ. وهنا سليمان -عليه السلام- استعمل حيلة السكين حتى عرف أم الغلام الحقيقية.

ومن الدروس القضائية: أن رجوع القاضي إلى الحق والحكم الأرفق من حكمه يعدّ فضيلة ومنقبة له، وقد روي رجوع بعض الصحابة كعمر وعثمان وأبي موسى -رضي الله عنهم- في بعض الأحكام القضائية, وهنا ظهر رجوع داود إلى حكم ابنه سليمان -عليهما السلام-.

ومن الدروس القضائية: أن خطأ القاضي أو مخالفته للأفضل في الحكم -بعد الاجتهاد في تحري الصواب- لا ينقص من قدره, ولهذا فإن الله -تعالى- لم يلُمْ داود على قضائه، بل أثنى عليه فقال: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)[الأنبياء: 79]، وقال: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)[ص: 20].

ومن الدروس القضائية: عدم مشروعية إغلاق الأبواب أمام المتقاضين، ووجوبُ تسهيل سبل وصول الخصومات إلى القضاء بالطرق المنظمة، من غير إشقاق على المتقاضين, فعن ابن مريم عمرو بن مرة الجهني -رضي الله عنه- أنه قال لمعاوية: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من ولاّه الله شيئًا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم؛ احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة"(رواه أبو داود والترمذي)، فجعل معاوية رجلاً على حوائج المسلمين, فداود -عليه السلام- لو كان بينه وبين الناس حواجز وفواصل لما وصل إليه الخصمان وحصل ما حصل.

ومن الدروس القضائية: جواز قول المستقضي للقاضي: احكم بيننا بالحق، أو اقضِ بيننا بكتاب الله، أو لا تجُرْ في حكمك، ولا يُعدّ ذلك تهمة للقاضي، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني -رضي الله عنهما- أنهما قالا: إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر: وهو أفقه منه: نعم؛ فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي". وفي قصة داود -عليه السلام- قال -تعالى-: (فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ)[ص: 22].

ومن الدروس القضائية: أن على القاضي الانتباه إلى أن فصاحة اللسان والغلبة في الكلام وإيراد الحجج لا تجعل صاحبها صاحب الحق لديه، فكم من حق عيَّ اللسانُ عن إظهاره، وكم من باطل أظهره حسنُ الكلام وفصاحته.

ومن الدروس القضائية: إرجاع الرعية ما اختلفوا فيه من الحقوق إلى القضاء؛ حتى تفصْل القضايا ولا تتطور إلى سوء أكبر، ولكي يعود الحق إلى صاحبه، ويعم الأمن والاتفاق بين الناس.

أيها المسلمون: وفي سيرة نبي الله داود -عليه السلام- جانب آخر في حياته المختلفة فيه عظات ودروس، هذا الجانب هو الجانب العسكري، فمن الدروس العسكرية في هذه السيرة النضرة: المشاركة في الخروج في الجهاد في سبيل الله -تعالى- ضد الكفار الذين يفسدون في الأرض، كما خرج داود -عليه السلام- مع طالوت لقتال جالوت وجنوده.

ومن الدروس العسكرية: أهمية قتلِ قائد العدو في حسم المعركة، وأن الرجل العسكري الخافت قد يُبرِز شأنَه موقفٌ عسكري واحد له أهميته؛ فتعرف بذلك منزلته ومكانته، كما حصل لداود -عليه السلام- في قتله لجالوت، قال -تعالى-: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)[البقرة: 251].

ومن الدروس العسكرية: أن مدافعة أهل الباطل ورد باطلهم من أسباب صلاح الأرض وأهلها؛ إذ لو تُركوا لفسدت الأرض، قال -تعالى-: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[البقرة: 251].

عباد الله: هناك مجال حياتي مهم كان لداود -عليه السلام- اعتناءٌ به، وصار في بعض جوانبه قدوة يقتدى به فيه، هذا المجال هو المجال الاقتصادي، ففي حياة داود -عليه السلام- دروس اقتصادية متعددة، فمنها: الحرص على الاهتمام بالصناعات التي تصلح حياة المسلمين وتدفع عنهم السوء، ومن ذلك الصناعات العسكرية، والاهتمام بالإتقان والدقة في الصناعة، وشكر الله -تعالى- على تعليمه العبدَ صناعة من الصناعات، قال -تعالى-: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ)[الأنبياء: 80]، وقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)[سبأ: 10] (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[سبأ: 11].

ومن الدروس الاقتصادية: الحرص على العمل والكسب الحلال، والأكل من عمل اليد، دون الانتظار لكسب الآخرين, والسعيُ لطلب الرزق وكفِّ النفس عن الناس يصلح النفس، ويقوّي عودَ الدِّين، ويبني المجتمع وينبذ عنه الكسل والكسالى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده"(رواه البخاري).

ومن الدروس الاقتصادية: وجوب تسخير نعمة معرفة الصناعات النافعة في نفع الناس وإصلاح عيشهم، ودفع الضرر عنهم قال -تعالى-: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ)[الأنبياء: 80].

ومن الدروس الاقتصادية: تفاوت الناس في الأرزاق، وهذا راجع إلى علم الله -تعالى- وحكمته، فليس الخير دائماً في الغنى، وليس الشر في الفقر، بل الخير في الرضا بقسم الله -تعالى- واختياره، قال -تعالى-: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا)[الإسراء: 30]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس"(رواه أحمد والترمذي والبيهقي), وفي هذه القصة ظهر هذا التفاوت بين الخصمين اللذين تخاصما إلى داود -عليه السلام-، قال -تعالى-: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ)[ص: 23].

ومن الدروس الاقتصادية: أن الغنى الطاغي صاحبُه قد يسوقه إلى الطمع وعدم القناعة، وإلى ظلم الآخرين! والواجب على المسلم إذا أعطاه الله -تعالى- الغنى أن يشكر الله -تعالى- ويقنع بما أُعطي، ويتقي ظلم الناس والتعدي على أموالهم وحقوقهم، فأحد الخصمين اللذين احتكما إلى داود ملك تسعًا وتسعين نعجة ومع ذلك لم يقنع، بل أراد أخذ نعجة أخيه التي لا يملك غيرها!, قال -تعالى-: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ)[ص: 23].

ومن الدروس الاقتصادية: أن الشركة في الأموال مظنة الظلم، إلا إذا كان الشركاء يراقبون الله -تعالى-، وبُنيت الشراكة بينهم على أسس شرعية ومالية وإدارية صحيحة، وهنا قال داود -عليه السلام- للخصمين: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)[ص: 24].

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها المسلمون: ومازالت هذه السيرة العطرة لهذا النبي الكريم تفيض بالعبر والعظات والدروس، ومن دروسها العامة: أن الفضل ليس بتقدم السن، ولا بالأبوة؛ إذ لا يلزم أن يكون الكبير أفضل من الصغير، ولا الأب أفضل من الابن، فالفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ففي هذا القصة ظهر فضل فهم سليمان على أبيه بتفهيم الله إياه، ولكن ذلك لا ينقص من قدر داود -عليه السلام-، قال -تعالى-: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ)[الأنبياء: 79].

وفي القصة: بيان فضل القوة النافعة أيًا كانت: قوة دينية أم قوة دنيوية.

وفي القصة: فضل غيرة الرجل على نسائه، والعمل على إبعاد كل سبيل تشينهن، وأن ذلك من كمال الرجولة، فعند الإمام أحمد في مسنده بسند جيد, عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان داود النبي فيه غيرة شديدة، وكان إذا خرج أُغلقت الأبواب فلم يدخل على أهله أحد، حتى يرجع".

وفي القصة: بيان فضل حسن الصوت وأنه نعمة من نعم الله -تعالى- إذا استعمل في الخير، فقد كان داود -عليه السلام- نديَّ الصوت حسنَه، فاستغل ذلك في طاعة الله -تعالى-.

فيا عباد الله: هذه قصة نبي الله داود -عليه السلام- التي تبين من خلالها حرص أعداء الأنبياء من اليهود وغيرهم على تشويه صورة الرسل والنبيين عبر الأجيال، وقد رأينا ما فيها من العظات والدروس، وهكذا لو تأمل المسلم في قصص الرسل والأنبياء بعين متأملة سيجد خيراً كثيراً بتدبره لتلك القصص الصادقة، نسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا.

هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين, إمام المتقين, وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي