إنَّ الأمة إذا أرادت أن تسلك سبيل النصر والعزة والتمكين، فلا بد لها أن تحقق أسباب النصر، فإن لله في الكون سننًا لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي ولا تجامل أحدًا أبدًا.. ومن أسباب النصر بعد كلمة التوحيد، هو توحيد الكلمة ولَمّ شتات الأمة، وتأليف...
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 71- 72].
أما بعد: فإن أحسن الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إنَّ الأمة إذا أرادت أن تسلك سبيل النصر والعزة والتمكين، فلا بد لها أن تحقق أسباب النصر، فإن لله في الكون سننًا لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي ولا تجامل أحدًا أبدًا.
وأعظم أسباب النصر هو تحقيق العبودية لله -جل في علاه-، والتمسك بكلمة التوحيد؛ لا إله إلا الله، وذلك برجوع الأمة إلى ربها وهدي نبيها؛ قال -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [سورة النور: 55].
ومن أسباب النصر بعد كلمة التوحيد، هو توحيد الكلمة ولَمّ شتات الأمة، وتأليف قلوب أبنائها، وترك الخصومات في الدين، ونبذ الفُرقة والخلاف، وذلك بالاعتصام بالله العظيم وبحبل الله المتين؛ قال –تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [سورة آل عمران 103].
ولكي يكون الكلام واضحًا ودقيقًا، فلا بد لنا من أن نقف على أنواع الخلاف وأسبابه، حتى نفهم فقه الخلاف وآدابه.
فالخلاف نوعان؛ الأول: خلاف في أصول الدين والثوابت والمصادر الأصلية. والثاني: خلاف في الفروع الفقهية ومسائل الاحكام الجزئية.
أما النوع الأول وهو الخلاف في الأصول الكلية والثوابت الدينية؛ فسببه شيطان الهوى ومخالفة الحق؛ كالقول بتحريف القرآن، والطعن في السنة النبوية، وسب الصحابة الكرام، وتكفير وقتل المسلمين.
وهذا الخلاف ذمّه الله –تعالى- بقوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [سورة هود: 118 - 119]؛ فالذين -رحمهم الله تبارك وتعالى- هم الذين استثناهم من هذا النوع من الخلاف.
وأما الحديث الذي اشتهر على الألسنة ويتداوله الناس: "اختلاف أمتي رحمة"؛ فهذا الحديث لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فلقد حذَّر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من هذا النوع المذموم من الخلاف، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم".
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ".
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة"، قالوا: من هي يا رسول الله؟ فقال: "ما عليه أنا وأصحابي".
فكان نتاج هذا الخلاف السيء ظهور فرق البدع والضلال؛ كالخوارج والروافض والمعتزلة والقاديانية والمرجئة وغيرها من الفِرَق التي ابتعدت عن سُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أما النوع الثاني من أنواع الخلاف، فهو الاختلاف في الفروع الفقهية ومسائل الأحكام، وهذا النوع من الخلاف مستساغ ومقبول، وسببه تفاوت الناس في العلم والفهم.
ولا يترتب عليه ذمٌّ ولا قدحٌ ولا تبديع ولا تفسيق ولا تكفير. فهذا الخلاف لا يفرق الصف ولا يضعف الأمة، ومثل هذا الخلاف وقع بين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضَهم العصرُ في الطريق، فقال: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نُصلِّي لم يُرِدْ منا ذلك؛ فذُكِرَ ذلك للنبي، -صلى الله عليه وسلم-، فلم يُعَنِّف واحدًا منهم" (متفقٌ عليه، واللفظ للبخاري).
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "قال السُّهيلي وغيرُه: "في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية ولا على من استنبط من النَّص معنى يخصِّصُه" (الفتح 7/473)
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-في كثير من الأحكام ولم يُعنِّفهم، كما أمرهم يوم الأحزاب أن يُصَلُّوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق، وقال: لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلاً، نظروا إلى اللفظ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وهؤلاء سلف أصحاب المعاني والقياس" (إعلام الموقعين 1/203).
بل وقع مثل هذا الخلاف بين نبيين كريمين، قال تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) [سورة الأنبياء: 78 - 79].
وهذا يقودنا إلى التأدب بآداب الخلاف.
فمن آداب الخلاف:
1- الاخلاص لله –تعالى- والتجرُّد من الهوى.
قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [سورة الجاثية 23].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ , وَمِيكَائِيلَ , وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ , عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ , إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (رواه مسلم).
وكان الشافعي -رحمه الله- يقول: "وددت أن الخلق يتعلمون هذا العلم ولا يُنْسَب إليَّ منه شيء".
وكان -رحمه الله- يقول: "والله ما أبالي أن يظهر الحق على لساني أو على لسان خصمي".
2- ترك التعصب للأشخاص والمذاهب وترك التشدد في الرأي.
فالعبرة بالدليل من الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
قال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [سورة الشورى 10].
قال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله-: "إذا صح الحديث فهو مذهبي".
وقال الإمام مالك -رحمه الله-: "ما من أحد إلا ويُؤخَذ من قوله ويُتْرَك إلا صاحب هذا القبر- يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم-".
وقال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "أجمع المسلمون على أنه مَن استبانت له سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس".
وقال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا".
فها هم الأئمَّة الأربعة العظماء، كحال غيرهم من العلماء، يعظمون الدليل ويتجردون للحق، ولا يدعون التلاميذ والناس لتقليدهم والتعصب إليهم، أو الطعن في غيرهم، بل كانوا يُجِلّون بعضهم بعضًا، ويعرفون لكل عالِم قَدْرَه مع وجود الاختلاف بينهم.
لذا يقول ابن القيم -رحمه الله-: "إنْ سألوك عن شيخك، فقل: شيخي رسولُ الله، وإن سألوك عن جماعتك، فقل: هو سمَّاكم المسلمين".
3- الانصاف والتواضع.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [سورة المائدة 8].
كان الامام مالك -رحمه الله- يقول: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب".
وكان الشافعي يقول: "كل مسألة تكلمت فيها بخلاف الكتاب والسنة فإني راجع عن كلامي في حياتي وبعد مماتي".
وقال -رحمه الله-: "مالكٌ معلمي، وعنه أخذت العلم".
وقال -رحمه الله-: "خرجت من بغداد، وما خلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم من أحمد بن حنبل".
وكان الإمام أحمد يكثر من الدعاء للشافعي، فسأله ابنه عبد الله فقال: "يا أبي! أي رجل كان الشافعي؟ فإني سمعتك تكثر من الدعاء له! فقال: يا بُنَي، كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس".
4- الرحمة بالمخالف.
قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [سورة آل عمران 110].
فكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: "كنتم خير الناس للناس".
ولأن الخلاف في الفروع والمسائل الفقهية قائم وجائز وليس مذمومًا، فلا بد أن يخالطه خُلُق اللين والرحمة بالمخالف، والبُعْد عن العنف والتشدد والتهميش وسوء الظن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَتَّبِعُونَ الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَلَا يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهِ، بَلْ هُمْ أَعْلَمُ بِالْحَقِّ وَأَرْحَمُ بِالْخَلْقِ، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)".
وقال -رحمه الله-: "وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي "الْأَحْكَامِ" فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَنْضَبِطَ، وَلَوْ كَانَ كُلَّمَا اخْتَلَفَ مُسْلِمَانِ فِي شَيْءٍ تَهَاجَرَا لَمْ يَبْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عِصْمَةٌ وَلَا أُخُوَّةٌ".
فنسأل الله –تعالى- أن يُعِزَّنَا بالإسلام، وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين، وأن يجمع كلمة الأمة على الكتاب والسنة.
والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي