هل تعلمون ما أوجبه الله عليكم لأمهاتكم والآباء، إي والله تعلمون، ولكن قليلاً مَن يطبقون، إيتوني بمن يقول بجواز عقوق الوالدين، وأن الإساءة لهما ترضي رب العالمين، لن تجد من يقول بذلك حتى...
الحمد لله خلق البشر من أب وأم، أحمده –سبحانه- وأشكره على خير زاد وعم، وأستعينه وهو المعين على دفع الهمّ، وأستهديه وهو الهادي لمن عليه الطريق أظلم، وأستغفره وهو بنا من الآباء والأمهات أرحم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريم الأكرم، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله نصح الأمة وقوم، صلِّ اللهم وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ما غشى الليل وأظلم.
ثم أما بعد: فأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المقصِّرة بتقوى الله -عز وجل- وخشيته فعلاً وتكلم، فمن اتق الله سلم من الشيطان، ومنه الناس تسلم.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 13].
أيها المسلمون: اعلموا -رحمني الله وإياكم-، أن ربكم -جل وعلا-، إذا قرن أمرًا بعبادته، فهذا دليل على رفعة هذا الأمر وعظمته، وإن جعله في التحريم بعد الشرك به، فذاك دليل على إثم الوقوع به وشدة حرمته، فقال -عز من قائل كريمًا-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[الاسراء: 23]، وقال -سبحانه-: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الأنعام: 151].
وزاد على ذلك نبيكم -عليه صلاة وسلام ربكم- بقوله: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين"، ويقول بأبي هو وأمي وبني ونفسي -عليه صلاة وسلام ربي-: "خاب وخسر من أدرك والديه عند الكبر؛ أحدهما أو كلاهما ولم يدخل الجنة" وليس هذا فقط، عما جاء من الحق لهما، والأمر بالبر بهما، في الكتاب والسنة، بل هو أكثر بكثير، يعجزني وقت المقام من أن أسرد ذلك حتى أتمه.
الأم والأب، أو الأب والأم، بأيهما بدأت، فقد وقعت على حق وحب عظيم، والقلب والإحساس والمشاعر حرّكت، الأم، البطن الذي حملك تسعة أشهر، جسد، مما يدخل جوفه يطعمك ويسقيك، ومن دمه يجري الدم فيك يغذيك، ومن مخ عظمه يعطيك لينمّيك، ويتحمل مشقة حملك في جسده، ثم ألم المخاض والنفاس إذا جاء يلقيك، ثم يحتضنك ومن جسده مرة أخرى يطعمك ويسقيك، ويسهر عليك، وإذا مرضت يبكيك، وإذا بكيت يبذل كل ما في وسعه ليسليك، ويعيش عمره كله يخاف عليك، هذا بعض مما أمك تعطيك.
وأما الأب، فمن صلبه خرجت، وبمجرد أن حملت بك أمك، سعدت نفسه وفرحت، وإذا وضعتك، فكأنما الدنيا كلها له ملكت، فيكدّ ليوفر لك معيشتك، ويبذل قصارى جهده ليوصل لك لقمتك، يحرم نفسه ليعطيك، ويبخس ما عنده ليكملك، ويقدم كل ما عنده لك ليرضيك، تعجبه طلتك، وتدمع عينه إذا افتقدك، إذا خرجت انتظرك، وإذا عدت استقبلك، لا يتمنَّى أن يرى شخصًا أفضل منه غيرك، تبقى في عينه، ذاك الطفل المحتاج له، حتى وإن رأى بنيك خلفك وأمامك، هذا هو الأب، مصدر الأمان، وتلك هي الأم مصدر الحنان، يا رب ارحمهما كما ربونا صغارًا، وأدخلهما فسيح الجنان.
أيها الأبناء، هل تعلمون ما أوجبه الله عليكم لأمهاتكم والآباء، إي والله تعلمون، ولكن قليلاً مَن يطبقون، إيتوني بمن يقول بجواز عقوق الوالدين، وأن الإساءة لهما ترضي رب العالمين، لن تجد من يقول بذلك حتى من الكافرين، فكيف بنا نحن المسلمين، يقول المفسرون "لو أن عند العرب كلمة أخفّ، من أُف، لذكرها الله في كتابه، فسبحانه القائل، مربِّيًا ومهذِّبًا، وناهيًا أن يقولها لوالديه كل عبد من عباده (فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)[الإسراء: 23].
واليوم نسمع بل وقد سمعنا ونرى وقد رأينا، من يرفع على والديه الصوت ولا يخفضه، ويعلن العصيان ولا يكتمه، بل وأفظع من ذلك، من يسبّ أمه، وأباه يشتمه، ثم من يضرب أمه، وأما أبوه فقتلاً يقتله.
ألا أخرص الله ألسنتهم، ألا شُلَّت أيديهم، وأنزل الله بلاياه وطوامه عليهم، أهذا جزاء الرحمة والإحسان، والشفقة والحنان، وما أوصى به الرحمن وسيّد ولد عدنان، أتى رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي، قال "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أبوك".
فأخبر اليوم بني بذلك من يصاحبوك، بر الوالدين يدخل الجنة، بر الوالدين، دين ابنك غدًا يرده، بر الوالدين قربة زحزحت صخرة، بر الوالدين سبب لدوام النعمة، بر الوالدين فرج لكل كربة، فأين من يقيم البر، كما أراد الله وأتمه؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[لقمان: 14- 15].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وهب إبراهيم اسماعيل وأعطاه، ومنَّ على زكريا بيحيى بعد أن دعاه، أحمده سبحانه وأشكره، حمدًا وشكرًا لا يعرف سواه منتهاه، وأشهد أن الإله الحق هو الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، هو اصطفاه، فعليه صلى الله وعليه سلم الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
يا من جاء يبتغي رضى الله، اتق الله، فمن اتق الله أفلح والله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].
عباد الله: يحكى أنه كان لأمية الكناني ولد اسمه كلاب، وكان شابًّا صالحًا، وحين سمع أن الجهاد أفضل الأعمال في الإسلام وذروة سنامه، ذهب إلى عمر بن الخطاب، وقال له: أرسلني إلى الجهاد، قال عمر: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: فاستأذنهما، فاستأذنهما وبعد إلحاح شديد، وافقا على مَضَضٍ، فقد كان وحيدهما وكان شديد البر بهما، يؤنسهما ويساعدهما في كل شؤونهما. ذهب كلاب إلى الجهاد، ومرت الأيام على الأبوين بطيئة ثقيلة، وما لبِث أن اشتد الشوق بالوالد فصار البكاء رفيقه في ليله ونهاره.
وذات يوم جلس أمية تحت شجرة، فرأى حمامه تطعم فراخها فجعل ينظر، وينشد:
لمن شيخان قد نشدا كلابًا *** كتاب الله لو عقلا الكتابا
تركت أباك مرعشة يداه *** وأمك لا تسيغ لها شرابا
طويلا شوقه يبكيك فردًا *** على حزن ولا يرجو الإيابا
إذا هتفت حمامة بطن وَجّ *** على بيضاتها ذكرا كلابا
ثم اشتد حزن أمية على ولده كلاب، وطال بكاؤه حتى أصابه ما أصاب يعقوب -عليه السلام-، فابيضت عيناه من الحزن، وفقد بصره، وصار لا يفتر عن ذكر ولده، ومن شدة ما في قلبه أخذ يدعو على عمر بن الخطاب، ويقول شعراً:
أعاذل قد عذلت بغير علم *** وما تدري أعاذل ما ألاقي
إن الفاروق لم يردد كلابا *** على شيخين سامهما فراقِ
سأستعدي على الفاروق ربًّا *** له دفع الحجيج إلى بساقِ
وأدعوا الله مجتهداً عليه * ببطن الأخشبين إلى زقاقِ
فما كان من أحد أصحابه إلا أخذ بيده حتى أقبل به على حلقة عمر بن الخطاب وأجلسه فيها، وهو لا يدري، ثم قال له صاحبه: يا أبا كلاب، قال: نعم، قال: أنشدنا من أشعارك، ولشدة تعلقه بولده، فإن أول ما تبادر إلى ذهنه:
إن الفاروق لم يردد كلابا *** على شيخين سامهما فراقِ
سأستعدي على الفاروق ربًّا *** له دفع الحجيج إلى بساقِ
وأدعوا الله مجتهداً عليه * ببطن الأخشبين إلى زقاقِ
فقال عمر: من هذا؟ قالوا: هذا أميه الكناني قال عمر: فما خبره؟ قالوا: أرسلت ولده إلى الثغور، قال: ألم يأذن؟ قالوا: أذن على مضض. فوجَّه عمر من فوره أن ابعثوا إليّ كلاب بن أمية الكناني على وجه السرعة، فلما مَثُلَ كلاب بين يدي عمر، قال له: اجلس يا كلاب، فلما جلس قال له عمر: ما بلغ من برك بأبيك يا كلاب؟ قال: والله يا أمير المؤمنين، ما أعلم شيئا يحبه أبي إلا فعلته قبل أن يطلبه مني، ولا أعلم شيئًا يبغضه أبي إلا تركته قبل أن ينهاني عنه.
قال عمر: زدني .. قال: يا أمير المؤمنين والله إني لا آلوه جهدي برًّا وإحسانًا.
قال عمر: زدني، قال كلاب: كنت إذا أردت أن أحلب له آتى من الليل إلى أغزر ناقة في الإبل ثم أنيخها وأعقلها حتى لا تتحرك طوال الليل، ثم استيقظ قبيل الفجر فاستخرج من البئر ماء باردًا، فاغسل ضرع الناقة حتى يبرد اللبن، ثم احلبه وأعطيه أبى ليشرب.
قال عمر: عجباً لك، كل هذا لأجل شربة لبن، فقال عمر فافعل لي كما كنت تفعل لأبيك، قال كلاب: ولكني أود الذهاب إلى أهلي يا أمير المؤمنين، قال عمر: عزمت عليك يا كلاب، فمضى كلاب إلى الناقة فحلب وفعل كما كان يفعل لأبيه، ثم أعطى الإناء لعمر بن الخطاب، قال عمر لمن حوله: خذوا كلاب فأدخلوه في هذه الغرفة وأغلقوا عليه الباب، ثم أرسل عمر إلى الشيخ ليحضر، فأقبل يقاد لا يعلم ما يُراد به، فإذا شيخ واهن، قد عظم همه واشتد بكاؤه وطال شوقه، يجرّ خطاه جرًّا، حتى وقف على رأس أمير المؤمنين.
فسأله الفاروق يا أمية: ماذا بقي من لذاتك في الدنيا؟ قال: ما بقي لي من لذة يا أمير المؤمنين، قال عمر: فما تشتهي؟ قال أمية: أشتهي الموت، قال عمر: أقسمت عليك يا أمية إلا أخبرتني بأعظم لذة تتمناها الآن قال أمية: أما وقد أقسمت عليّ، فإني أتمنى لو أن ولدي كلابا بين يدي الآن أضمّه وأشمه وأقبّله قبل أن أموت.
قال عمر: فخذ هذا اللبن لتتقوى به، قال أمية: لا حاجة لي به يا أمير المؤمنين، قال عمر: أقسمت عليك يا أمية إلا شربت من هذا اللبن، فلما أخذ الإناء وقرَّبه من فمه، بكى بكاءً شديداً، وقال: والله إني لأشم رائحة يدي ولدي كلاب في هذا اللبن، فبكى عمر حتى جعل ينتفض من بكائه، ثم قال: افتحوا الباب، فأقبل الولد إلى أبيه فضمَّه أبوه ضمة شديدة طويلة، وجعل يقبله تارة، ويشمه تارة، وجعل عمر رضي الله عنه يبكي، ثم قال: إن كنت يا كلاب تريد الجنة، فتحت قدمي هذا.
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم بر الوالدين في حياتهما وبعد مماتهما، تم عندي المراد، ومن أراد الازدياد، فدونه أبواه، أو أحدهما، فالبر بهما أجره سوى الجهاد، ثم الصلاة والسلام يا عباد على شفيع الخلق في يوم التناد، ما هلّ قطر أو جرى سيل بواد؛ اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد …..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي