فإذا وجدتَ الكلمة تُطفئ فتنةً، وتبعث أملا، وتحفظ أَمْنًا، وتُعَزِّز اطمئنانا، وتئد بلبلة وتسد باب فتنة، وتُغَلِّبُ مصلحة الوطن، وتقوِّي لُحْمَةَ الأُمَّةِ، وتحفظ لولاة الأمر حقوقَهم، فتلك كلمة طيبة، وإذا كانت الكلمة تؤجج فتنة وتُخِلُّ بالأمن، وتُثير بلبلةً، وتهز الثقة بولاة الأمر، وتخدش مقامَ العلماء، وتُصَدِّعُ البناءَ، وضدّ مصالح الوطن، فتلك كلمة خبيثة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الحي القيوم، أحمده -سبحانه- لا تأخذه سِنَةٌ ولا نومٌ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، العلي العظيم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، دلَّنا على صراط الله المستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، السائرين على النهج القويم.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله معكَ أعظمُ؟ قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم. قال: يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آيةٍ من كتاب الله معكَ أعظمُ؟ قال: قلتُ: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال: فضرب في صدري وقال: واللهِ لِيَهْنِكَ العلمُ أبا المنذر".
آية الكرسي أعظم آية؛ لأنها جمعت أصول الأسماء والصفات، وبيَّنت قدرة الله العظيمة، (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)[الْبَقَرَةِ: 255]، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شُعْبَةً، فأفضلها قول: لا إله إلا الله"، فهو -سبحانه- الحق، قوله الحق، ووعده الحق، ودينه حق، وكتابه حق، وما أخبر عنه حق، وما أمر به حق، الحق في ذاته وصفاته، كامل الصفات والنعوت، فهو الذي لم يزل ولا يزال بالجلال والجمال والكمال موصوفا، ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفا، الحي القيوم، فهو الحي الذي لا يموت ولا يَبِيدُ، له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له يُحَدُّ، ولا آخر له يُؤَمَّدُ، والقيوم متضمِّن كمال غناه، وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، وهو المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذانِ الاسمانِ صفاتِ الكمالِ، فكأنَّ المستغيثَ بهما مستغِيثٌ بكل اسم من أسماء الرب -تعالى-، وبكل صفة من صفاته.
كان صلى الله عليه وسلم كثير الدعاء بهما، وإذا كرَبَه أمرٌ قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث"، وإذا تدبر المسلم وأدرك أن ربه هو الحي القيوم اطمأنَّ قلبُه وسَكَنَ، فقد كفي هم التدبير، ووقي الشرور والآثام، (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)[الْبَقَرَةِ: 255]، فهو -جَلَّ في علاه- منزَّه عن كل نقص وعجز وعيب مما في عباده، يشهد بذلك انتظامُ الكون، وصيرورةُ الحياة ومعاش الخلائق، (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)[الْبَقَرَةِ: 255]، وإلَّا اضطرب هذا الكونُ وفَسَدَ سيرُه، واختلَّ نظامُه، (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ)[يس: 40]، ولا البحار تفيض مياهها والأنهار، وعندما تهدأ العيونُ وتغور النجومُ، فإن أُناسا من المؤمنين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يناجون مَنْ لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، فيستجيب لهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ينزل ربنا -جل وعلا- كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخِر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه".
(لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)[الْبَقَرَةِ: 255]، كل شيء فيهما تحت مُلْكِه، وقدرته، وتقديره، وفضله، وتفضيله، وحُكْمه وحِكْمَتِه، أفلاك وعوالم عظيمة، هو الخالق لها، ومالكها وإلهها، لا إله سواه ولا ربَّ غيره.
(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)[الْبَقَرَةِ: 255]، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أسعدُ الناسِ بشفاعتي يوم القيامة مَنْ قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه".
(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)[الْبَقَرَةِ: 255]، فهو -سبحانه- السميع البصير الخبير، يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء، ويرى نياط عروقها ومجاري القوت في أعضائها، قال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الْأَنْعَامِ: 59]، فلا يحيط بعلمه مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولا نبي مرسل؛ فكيف يحيط به العرَّافون والكهنة الذين يدعون معرفة المستقبل، قال الله -تعالى-: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)[النَّمْلِ: 65].
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)[الْبَقَرَةِ: 255]، ما أعظم الله، الإله الكبير المتعال، جلت قدرته -سبحانه-، هو -سبحانه- الواسع في علمه، الواسع في غناه، الواسع في فضله وإنعامه وجوده، الواسع في قُوَّتِه وعظمته، الواسع في قدرته، الواسع في حكمته، وهو الواسع في مغفرته ورحمته، فالمسلم يعبد رَبًّا عطاؤه وَسِعَ كلَّ شيء، وفضله جاوز كلَّ ما يتمنى، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسأل الداعي ربَّه ولا يستكثر شيئا عليه -سبحانه-، فقال: "إذا سأل أحدكم فليكثر؛ فإنما يسأل ربه"، وقال صلى الله عليه وسلم: "فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفَجَّرُ أنهارُ الجنةِ".
(وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا)[الْبَقَرَةِ: 255]، كل شيء في الكون في حفظ الله؛ فهو -سبحانه- الحافظ، الحفيظ، الذي يحفظ أعمال المكلَّفين، وهو الحفيظ لمن يشاء من الشر والأذى والبلاء، ومنه الدعاء الذي علَّمنا إياه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي".
الله -سبحانه- هو الذي يحفظ الإنسان، إن هو حفظ حدود الله، واجتنَبَ محارِمَه، قال الله -تعالى-: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)[النِّسَاءِ: 34].
آية الكرسي غنيمة للمسلمين، ونعمة من أعظم نِعَمِ اللهِ -تعالى- عليهم؛ فهي من آكَدِ أذكار الصباح والمساء التي يتحقق بها حفظ الله، وفيها قال صلى الله عليه وسلم: "من قرأ آية الكرسي في دُبُر كل صلاة لم يَحُلْ بينَه وبينَ دخول الجنة إلا الموت"، وإذا قرأتَها عند النوم لن يزال عليكَ من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، العلي الأعلى، وأشهد أن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
حين يَكثر الكلام ويمتلأ الفضاء بالقيل والقال فإن الواجب على المسلم أن يَزِنَ ما يُبصر وما يسمع وما يقال بميزان الشرع والعقل، فإذا وجدتَ الكلمة تطفئ فتنة، وتبعث أملا، وتحفظ أمنا، وتعزز اطمئنانا، وتئد بلبلة وتسد باب فتنة، وتُغَلِّبُ مصلحة الوطن، وتقوِّي لُحْمَةَ الأُمَّةِ، وتحفظ لولاة الأمر حقوقهم، فتلك كلمة طيبة، وإذا كانت الكلمة تؤجج فتنة وتُخِلُّ بالأمن، وتُثير بلبلةً، وتهز الثقة بولاة الأمر، وتخدش مقامَ العلماء، وتُصَدِّعُ البناءَ، وضدّ مصالح الوطن، فتلك كلمة خبيثة، وَأْدُهَا في مَهْدِها أَوْلَى، وهجرها هو المسلك الأسمى.
والمملكة العربية السعودية قوية البنيان، راسخة في الوجدان، النَّيْلُ من شموخها ذُلٌّ، ومَنْ عاداها هُزِمَ وذُلَّ، والعمل على حفظ أمنها وأمن الحرمين وصد السهام المغرضة، وتعزيز وحدتها واجب شرعي، ومطلب العقلاء، قال الله -تعالى-: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قُرَيْشٍ: 3-4].
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمِّر اللهم أعداءك أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أردانا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشلغه بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، يا سميع الدعاء، اللهم مَنْ أردانا وأراد الإسلام والمسلمين وبلادنا بسوء فأشلغه بنفسه واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم من أردانا وأراد الإسلام والمسلمين وبلادنا بسوء فأشلغه بنفسه واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول وعمل، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر يا رب العالمين، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أعلنا وما أسررنا وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، اللهم إنا نسألك حسن الختام والعفو عما سلف وكان، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضك ورزقك، اللهم بارك لنا في أعمالنا وأعمارنا وأزواجنا وذرياتنا وأهلنا وأموالنا وصحتنا، واجعلنا مباركين أينما كنا يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك حسن الختام، والعفو عما سلف وكان، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا أرحم الراحمين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وتولَّ أمرَنا يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك يا اللهُ أنتَ الغنيُّ ونحن الفقراء، أَنْزِلْ علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا غرق، اللهم تحيي به البلاد وتغيث به العباد، وتجعله بلاغا للحاضر والباد، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفِّق إمامنا وولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك يا رب العالمين، اللهم وفِّق ولي عهده لكل خير يا رب العالمين، وخذ بناصيته للبر والتقوى، يا أرحم الراحمين، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي