خديجة عنوان كل فضل وفضيلة، كانت لا ترد لزوجها طلبًا، بل تسارع إلى ما يرضيه قبل أن يعرضه، تخلت خديجة عن الترف والنعيم لتقف مع زوجها في أصعب الظروف التي مرت عليه حيث الأذية والعداوة والاضطهاد من قبل قومه، فهي حليلة صبورة، وشريكة لزوجها في...
أيها المسلمون: الزوجة الصالحة خير متاع الدنيا، فهي سكن النفس وبهجتها، وهي الباب الفطري للمودة والرحمة: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)[الروم: 21].
ولقد جعل الله الزواج سنة كونية وشرعية، اتفق عليها كل النبيين: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً)[الرعد: 38].
وهذه وقفة مباركة مع سيرة زوجة صالحة، حازت من الفضائل والكمالات ما لم تبلغه قامات الرجال، إنها تعد بحق أنموذجاً للزوجة الصالحة المؤمنة التي حازت قصب السبق في ميادين الطاعة والإيمان والإحسان، إنها خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية، أم المؤمنين، وزوج سيّد الأولين والآخرين.
خديجة الطاهرة كما كانت تدعى في الجاهلية امرأة ذات مال وشرف، لم تترك شرفها وعفافها من أجل مالها ولم تختلط بالرجال، بل كانت تستأجر الرجال في مالها ليتاجروا فيه، ولما بلغها عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صدقه وأمانته وكريم أخلاقه؛ بعثت إليه، وعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام متاجراً، فقبل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك منها.
خديجة بنت خويلد أول من أسلم، قال الإمام البيهقي في الدلائل: "إن أول من أسلم من هذه الأمة خديجة بنت خويلد"، وقال ابن الأثير: "خديجة أول خلق الله إسلامًا بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة".
خديجة الزوجة الصالحة الحصان الرزان، وقفت موقفاً مليئاً بالحكمة والعقل، والهدوء ورباطة الجأش، في الصحيحين لما جاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الوحي أول مرة في غار حراء، ورجع إلى بيته فدخل على خديجة يرجف فؤاده، يقول لها: "زملوني لقد خشيت على نفسي".
هنا يأتي موقف الزوجة الصالحة الشامخة بعقلها ويقينها وحبها لزوجها، لقد قالت له كلمات من ذهب وسجلها التاريخ بمداد من نور: "كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
أتظنون أن امرأة تهتدي في مثل هذا الموقف العصيب الغريب لمثل هذا الثبات والقوة والظن الحسن بالله العظيم؟
إنها خديجة الزوجة التي تخفف آلام زوجها، وتراعي خاطره ونفسيته، وتعرف له حقه، في كلمات معدودات، وفي لحظات فارقة في عمر التاريخ، ثم لا تكتفي بذلك حتى تنطلق رضي الله عنها مسرعة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، تنقل له خبر ما وقع لزوجها؛ لأنه كان امرأ تنصر في الجاهلية فطمأنها بأنه رسول هذه الأمة، وأن الوحي قد جاءه كما جاء لموسى.
وهكذا كانت خديجة في شرف احتضانها لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهكذا كان دأبها معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ماتت، قال ابن إسحاق: "وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه إلا فرّج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس".
خديجة الطاهرة اللبيبة العاقلة الشريفة تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد قيل: إنها في عمر الأربعين، وهو المشهور.
وفي بعض الروايات: أن عمرها كان خمساً وعشرين، وهو ما يرجحه بعض الباحثين؛ لأنها أنجبت منه صلى الله عليه وسلم ستة من الأولاد، وقد كان عمر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- خمسا وعشرين سنة.
ولم يكن فارق السن بين الزوجين إن صح مؤثراً في المودة والمحبة، بل لم يتزوج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليها ولم يتسرى بغيرها، حتى ماتت -رضي الله عنها وأرضاها-.
خديجة أم المؤمنين وأم أولاد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كلهم غير إبراهيم، فإنه كان من مارية القبطية، ولدت القاسم، وبه يكنى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وعبد الله، ويسمى: الطاهر، والطيب، وقد ماتا قبل البعثة.
وولدت له أربع بنات أكبرهن رقية، ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، وكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
خديجة ربة بيت ربت أولادها وأحسنت التربية، وهكذا كل زوجة صالحة ترى أنها راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها.
خديجة عنوان كل فضل وفضيلة، كانت لا ترد لزوجها طلبًا، بل تسارع إلى ما يرضيه قبل أن يعرضه، تخلت خديجة عن الترف والنعيم لتقف مع زوجها في أصعب الظروف التي مرت عليه حيث الأذية والعداوة والاضطهاد من قبل قومه، فهي حليلة صبورة، وشريكة لزوجها في فرحه وحزنه، أخرج البخاري ومسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد".
أمنا خديجة -رضي الله عنها- الزوجة المطمئنة في بيتها لم تتبرم من معاشرة زوجها، ولم لم تُسمعه يوماً ما يؤذيه من قبيح الكلام، وسوء الفعال، لذلك جاءت بشارتها من الله ببيت في الجنة، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: "أتى جبريل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "يا رسول الله هذه خديجة قد أتت مع إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب"، قال أهل العلم: "وإنما بشرها ببيت في الجنة من قصب؛ لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان.
"لا صخب فيه ولا نصب"؛ لأنها رضي الله عنها لم ترفع صوتها على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم تتعبه يوماً من الدهر، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها، وهكذا الزوجة الصالحة لا صخب في بيتها، ولا تعب لزوجها، فهي لا تكفر العشير، بل ترضى باليسير، وتقبل الموجود ولا تتكلف المفقود.
توفيت خديجة في رمضان سنة عشر من البعثة، ولما قضت خديجة نحبها ولحقت بربها، وجد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لفقدها وحزن حزنا لم يحزنه من قبل ولا من بعد حتى سمي ذلك العام بعام الحزن.
فرضي الله عن أمنا خديجة وأرضاها، وعن سائر أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين، وجمعنا بهم في دار النعيم، ورزقنا السير على صراطهم المستقيم.
أيها المسلمون: أيها الأزواج لئن كانت تلك سيرة تلك المؤمنة الصالحة أم المؤمنين خديجة مع زوجها صلى الله عليه وسلم؛ فإن رسولكم -صلى الله عليه وسلم- قد حفظ لخديجة ودها ورعايتها وحقها؛ فكان في حياته قريباً محباً لها، حتى أنه لم يتزوج ولم يتسرى عليها.
وأما بعد موتها فكان كثراً ما يذكرها ويبالغ في تعظيمها ويثني عليها، لا يمنعه من ذلك غيرة أزواجه، إنه الوفاء وحسن العهد من الزوج الصالح -صلوات الله وسلامه عليه- كان يمضي عهدها ويسير بسيرتها مع أهلها وجيرانها، في الحديث المتفق عليه عن عائشة قالت: "ما غرت على أحد من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فيقول: "إنها كانت وكانت وكانت، وكان لي منها ولد".
كان يفرح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بزيارة صديقات خديجة له حتى بعد موتها، فإذا رآهن تهلل وتحركت أشجانه عرفانا لفضلها وقدرها، خرج البخاري بسنده إلى عائشة قالت: "استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعرف استئذان خديجة (أي شبه صوتها بصوت أختها فتذكر خديجة بذلك) فارتاع (أي أصابه الروع أي الفزع والمراد أنه تغير سروراً بذلك"، فقال: "اللهم هالة" (يهش لها ويقدح بقدومها).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي