سلامة القلب للمؤمنين، عطية ربانية، ومنحة إلهية، يهبها من يشاء من عباده. سلامة القلب معينة على الخيرات والطاعات، قاطعة سلاسل العيوب، وأسباب الذنوب، من سلم صدره عن الإرادات الفاسدة، وطهر قلبه عن الظنون السيئة عف لسانه عن...
أمّا بعد:
فيا أيّها المسلمون: أوصيكم ونفسِي بتقوَى الله فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم.
أيها المسمون: القلب موضع نظر الربِّ، فالله -سبحانه- لا ينظر إلى الصور والهيئات، ولا إلى الأجساد والثروات، ولكنه ينظر إلى القلوب والطاعات، قال رسول الله -صلى الله وعليه وسلم-: "إن الله -تعالى- لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"(رواه مسلم).
القلب للأعضاء كالملك المتصرف في الجنود تصدر كلها عن أمره، فتكتسب منه الاستقامة أو الزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله.
وإذَا القلوب استرسلت في غيها *** كانت بليّتها على الأجسام
وقول نبينا -صلى الله وعليه وسلم- أبلغ وأجمع يقول صلى الله وعليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"(رواه البخاري).
عباد الله: لما علم إبليس عدوّ الله مكانة القلب أجلب عليه بخيله ورجله، وأقبل عليه بالوساوس وبالشهوات والشبهات، فبسببه -لعنه الله- تغيرت القلوب وتبدّلت، وانصرفت عن الله وتحولت، يحرّش بين عباد الله، ويوغر الصدور، ويمرض القلوب ويقسيها، فأصبح بعض أهل الإسلام صاحب قلب مريض يصارع نفسه وشيطانه، وصدق على بعض القلوب قول الشاعر:
إذا قسا القلب لم تنفعه موعظة *** كالأرض إن سبخت لم ينفع المطر
أيها المسلمون: سلامة القلب هي النعمة التي ما وجدت نعمة على الأرض أجل وأعظم منها، وما نفع يوم الدين مثلها: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 87 - 89].
هي نعمة توهب لأهل الجنة حين يدخلونها: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)[الحجر: 47].
سلامة القلب للمؤمنين، عطية ربانية، ومنحة إلهية، يهبها من يشاء من عباده.
سلامة القلب معينة على الخيرات والطاعات، قاطعة سلاسل العيوب، وأسباب الذنوب، من سلم صدره عن الإرادات الفاسدة، وطهر قلبه عن الظنون السيئة عف لسانه عن الغيبة والنميمة والكذب والبهتان وقالة السوء.
سليم القلب قلبه مستريح، أبيض مشرق، معمور بالإيمان والتوحيد، منّ الله عليه بدوام البهجة والصفاء، سالم من نزغات الحقد الأعمى، لا غش فيه ولا بغي ولا غلّ ولا حسد، سئل صلى الله وعليه وسلم: أي الناس أفضل؟ فقال: "كل مخموم القلب، صدوق اللسان" قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال صلى الله وعليه وسلم: "هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد"(رواه ابن ماجه بسند لا بأس به).
صاحب القلب السليم شعاره الذي لا يتغير قول النبي -صلى الله وعليه وسلم-: "لا يؤمِن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه"(متفق عليه).
كيف يكون القلب سليماً لمن جعل بأسه على إخوانه شديد، يكيل السب والشتم للآخرين؟ كيف يكون القلب سليماً وصاحبه يفرح بعيوب العباد، ويتلهى بسرد الفضائح وكشف الستور، وإبداء العورات، إنه قلب مريض فقير إلى رحمة الله؟
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب *** ولا ينال العلا من طبعه الغضب
سلامة القلب خصلة من خصال البر غابت رسومها، واندثرت معالمها، حتى غدت اليوم عزيزة المنال، عسيرة الحصول، خاصة مع تسارُع إيقاع الحياة وشدَّة تنافس الناس في أمور الدنيا، حتى تكدرت المعايش وساءت العلاقات.
سلامة القلب ليست سذاجة وضعفاً.
والقلب السليم ليس القلب الذي يسهل غشه وخداعه ولا يعرف الخير من الشر، إنما القلب السليم المحمود هو الذي يعرف الخير والشر، لكنه يريد الخير ويحبه للمسلمين.
سلامة القلب ليست تلوّناً كاذباً ومظهراً زائفا، وليست فقط بشاشة اللقاء، وابتسامة الملتقى، أو فسحة المجلس، ولين الكلام، ولكنها مع كل ذلك صفاء في القلب وصلاح في الضمير وحب صادق خالص لله -تعالى-.
سلامة القلب فيها صدق الاقتداء بالنبي -صلى الله وعليه وسلم- فإنه صلى الله وعليه وسلم أسلم الناس صدرًا، وأطيبهم قلبًا، وأصفاهم سريرة.
وشواهد هذا في سيرته كثيرة ليس أعظمها أن قومه أدموا وجهه صلى الله وعليه وسلم يوم أحد، وشجوا رأسه، وكسروا رباعيته، فكان يمسح الدم عن وجهه الشريف، ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"(رواه مسلم).
وحين دخل عليه الصلاة والسلام مكةَ فاتحًا لها وصارت تحت قبضته عليه الصلاة والسلام قال لأهلها الذين ناصبوه العداء واتهموه في عقله وفي عدالته وطردوه وشردوه وآذوه قال لهم لما عاد منتصرا: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
ولقد فقه الصحابةُ هذا الأمرَ العظيم، فإذا بهم يحرصون على تنقية قلوبهم وسلامتها، هذا أبو دجانة -رضي الله عنه- لما حضرته الوفاة وتذكّر شيئًا من أرجى أعماله قال: "كنتُ لا أتكلّم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليمًا. لم يتذكر رضي الله عنه موقفه العظيم في يوم أحد حينَ أخذ السيف بحقِّه، فجالد به المشركين، لكنه تذكّر سلامة قلبه وطهارتَه لإخوانه المسلمين".
أيها المؤمنون: إنّ لسلامة القلب أسبابًا وسبلاً:
أولها: الإيمان بالله، والإخلاص له، والنظر والتدبر في كتاب الله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24].
هو القرآن الذي حوّل قلوب الصحابة من الظلمة إلى الإشراق، ومن الغلظة والفضاضة إلى الرقة والصفاء والطهارة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57].
ومن أسباب سلامة القلب: أن يتذكر الإنسان أنه إلى الله صائر، وأنه ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.
ومن أسباب سلامة القلب: دعاء الله -تعالى-: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر: 10].
وقد كان من دعائه صلى الله وعليه وسلم: "واسْلُل سخيمةَ قلبي".
فاللهم إنا نسألك قلوبًا سليمة طاهرة نقية، اللهم طهر قلوبنا من الشرك والشك والنفاق وسائر الآفات وسيء الأخلاق.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
أَمَّا بَعْدُ:
لقد مَنَّ الله -تعالى- على هذه الأمة بدين الإسلام، وأكرمها بنور الإيمان، أخرجها به من الظلام، وألف بين القلوب طلبًا للوئام، فاجتمعت الكلمة، وقويت الشوكة، وارتبطت برباط المودة والألفة، وانحسرت دواعي الشتات والفرقة، والاختلاف والنفرة: (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 62 - 63].
ما أجمل صورة المجتمع المسلم حين يبقى مجتمعًا قويًا متماسكًا، تسود أفراده روح المودة والسماحة، تآلف وتراحم وتقارب وتلاحم، وهل يشك عاقل بأن فشل الأمة وهوانها وضعفها سببه التفرق والتنازع: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال: 46].
إن الأمة اليوم بحاجة ماسة إلى اتحاد الصف، وجمع الكلمة، ونبذ العداوات والشقاق.
وإذا كان الشيطان قد عجز عن أهل الإسلام أن يجعلهم من عباد الأصنام فإنه لن يعجز عن إيقاد نيران العداوة في قلوب أهل الإسلام فإذا اشتعلت استمتع بها الشيطان وهي تحرق حاضر الناس ومستقبلهم وتلتهم علائقهم وفضائلهم، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكنه لم ييأس في التحريش بينهم"(رواه مسلم).
نسأله جل وعلا أن يجمع شتات الأمة، ويصلح قلوبنا، ويطهرها من الشرك والنفاق والرياء والشقاق وسوء الأخلاق.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي