هذه النفس الإنسانية لها تعقيدات وتفاصيل لا يدركها إلا من خلقها وهو الخبير العليم، ولذلك جعل الله -سبحانه- لعباده طريقًا بيِّنًا واضحًا في تحصيل الطمأنينة والاستقرار النفسي، ومهما تطلَّب الناس من المسالك والوسائل والأساليب ليوجدوا هذه الطمأنينة التي...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فنسأل الله الكريم أن يُثبتنا على الإيمان، وأن يُحبب إلينا الإيمان، ويُزينه في قلوبنا، وأن يُكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا من الراشدين، ونسأله سبحانه أن يَملأ قلوبنا حبًّا له وطمأنينة، واستقامة على شرعه.
أيها الإخوة المؤمنون: إن من أعظم ما يصيب النفس الإنسانية ما يعتورها من الضيق وأنواع المضايق النفسية من مثل الهمِّ والغم، ومن مثل الكدر والاكتئاب، وغير ذلك مما هو أشد من الأمراض الجسدية.
وهذه النفس الإنسانية لها تعقيدات وتفاصيل لا يدركها إلا من خلقها وهو الخبير العليم، ولذلك جعل الله -سبحانه- لعباده طريقًا بيِّنًا واضحًا في تحصيل الطمأنينة والاستقرار النفسي، ومهما تطلَّب الناس من المسالك والوسائل والأساليب؛ ليوجدوا هذه الطمأنينة التي لا تطيب الحياة إلا بها، فإنهم لن يستطيعوا إلى ذلك سبيلًا إلا من سبيل الله والشرع الذي أنزله على نبيه محمد -عليه الصلاة والسلام-.
ولأجل هذا تتعدَّد هموم الناس وتوجُّهاتهم ومشاغلهم، وبخاصة فيما يتعلق بمعايش الدنيا، فأكثر الخلق بل جميعهم متوجهون في هذا الهمِّ الذي يحملهم على طَرْق العديد من الأبواب وسلوك العديد من السبل، وأكثرهم يغفلون عن السبيل الأعظم الذي يهيِّئ لهم هذا المطلب وأكثر.
وفي ضوء ذلك -أيها الإخوة الكرام- كان من المتعين على المؤمن أن يتطلب هذا السبيل الذي بيَّنه الله -جل وعلا- وبيَّنه نبي الهدى محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ حتى لا تتشعب الهموم، ولا تتفرق التوجهات، فيزداد الإنسان كدرًا إلى كدر، وتعبًا إلى تعب، وهمًّا إلى هم، ومما يوضح هذا نص كريم جاء بعدة روايات، وقاله النبي -عليه الصلاة والسلام- في أكثر من مناسبة؛ ليبين لأهل الإيمان ما ينبغي عليهم من الثقة بالرحمن، والتوكل على الملك المنان، فمن سلك هذا السبيل نال السعادة من أطرافها، وحاز الطمأنينة بكل شمولها، ومن أخطأ هذا الطريق ناله من الضرر والهمِّ والغم ما الله به عليم.
وأسوق في هذا المقام هذه الروايات كما أوردها الإمام الحافظ المنذري -رحمه الله- في كتابه: "الترغيب والترهيب"، فقد روى الإمام ابن ماجه -رحمه الله- عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: "من كانت الدنيا همَّه، فرَّق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِب له، ومن كانت الآخرة نيَّته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة"، وجاء في رواية عند ابن ماجه أيضًا أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إنه من تكن الدنيا نيته، يجعل الله فقره بين عينيه، ويشتت عليه ضيعته، ولا يؤتيه منها إلا ما كتب له، ومن تكن الآخرة نيته، يجعل الله غناه في قلبه، ويكفيه ضيعته، وتأتيه الدنيا وهي راغمة".
وجاء الحديث أيضًا من رواية أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "من كانت الآخرة همَّه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له"(رواه الترمذي)، ورواه البزار أيضًا ولفظه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "من كانت نيته الآخرة جعل الله -تبارك وتعالى- الغنى في قلبه، وجمع له شمله، ونزع الفقر من بين عينيه، وأتته الدنيا وهي راغمة، فلا يصبح إلا غنيًّا، ولا يُمسي إلا غنيًّا، ومن كانت نيته الدنيا، جعل الله الفقر بين عينيه، فلا يُصبح إلا فقيرًا، ولا يُمسي إلا فقيرًا"، ورواه ابن عمر أيضًا -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من جعل الهم همًّا واحدًا كفاه الله همَّ دنياه، ومَن تشعَّبته الهموم لم يبال الله في أيِّ أودية الدنيا هلك"(رواه الحاكم والبيهقي).
ورواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود قال: سمعت نبيكم -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: "من جعل الهموم همًّا واحدًا (همَّ المعاد) كفاه لله همَّ دنياه، ومَن تشعبت به الهموم وأحوال الدنيا، لم يبال الله -عز وجل- في أيِّ أَوْدِيتها هلك".
فتأملوا -رحمكم الله- هذه الكلمات البليغة والجمل العظيمة، وقد أُوتي نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- جوامع الكلم، وأُؤيدَ بالوحي من الله، فهذه قواعد في الدنيا مَن فقهها وسار عليها، وجد من الطمأنينة ما لا يمكن وصفه، ولا يُستطاع حصره.
تأملوا هذه الأسس، ومدارها على أن يكون الإنسان همُّه الآخرة، وأن يبلغ الجنة، فإنه إن كان كذلك فإن الدنيا ستكون هيِّنة في ناظريه، وسيؤتيه الله هذه الدنيا بما جعل في قلبه من التوكل عليه؛ لأن مقاليد الأمور وخزائن السموات والأرض بيد الملك العلام، بيد ربنا الرحمن، فمن توكل عليه واستعان به، آتاه الله منها ومِن الغنى في قلبه ما يجعله أغنى الخلق، وإنما كان كذلك؛ لأنه غني بربه، فمن وجد الله ووجد رزق الله، ووجد تأييد الله، ماذا يفوته؟! ومن فاته الله وفاته توكُّلُه على الله، وفاته استعانته بالله، فماذا سيحصل؟!
"من كانت الآخرة همَّه"، والمعنى أن يكون مخططًا لها قاصدًا إياها، إنما يريد رضا ربه ودخول جنة عرضها السموات والأرض، ومن أراد الجنة فلا بد أن يسعى لها سعيها، فهي سلعة الله الغالية، لا يمكن أن تنال بالأمنيات، ولا بالإسفاف، ولا بما حرم الله.
"من كانت الآخرة همه" سوف يحاسب نفسه على كل خطراته وأقواله وأفعاله.
"من كانت الآخرة همه" سينظر ما الذي أمر الله به حتى يبلغ هذه الدرجة، ويصل إلى هذه المرحلة، ويفوز بمقعد الصدق عند المليك المقتدر.
فإذا كانت الآخرة همَّ الإنسان، فإنه بعد ذلك لن يبالي بهذه الدنيا، لن يهمه ما فيها من مُتَع ومن مُلك، ومن رُتب ومراتب، وإنما همه أن يصل إلى هذه الدار دار القرار، دار الفوز بجوار العزيز الغفار، وهذا لا يعني أن يكون الإنسان مضيِّعًا لما يجب عليه في هذه الحياة الدنيا، فإن من مقتضى إرادة الآخرة أن يقوم الإنسان بما أوجب الله عليه في هذه الحياة الدنيا، فهو يتعبد الله -جل وعلا- بالعبادات التي افترضها، وكذلك يتعبده جل وعلا بطلب المعاش وطلب الرزق، ولكن بالطريق التي أمر الله -جل وعلا- سلوكها.
ذُكر أن التابعي الجليل ثابت البناني -رحمه الله تعالى- "خرج إلى بغداد فرأى فيها بساتين جميلة وثماراً يانعة، ووروداً ملونة، وأشجاراً باسقة، ورياضاً خضراء، فقيل له: يا ثابت ما الذي أعجبك في هذه البساتين؟ فقال: أعجبني في بستان كذا... عجوزٌ رأيتها تصلي الضحى".
هكذا تكون مقاييس من تهمهم الآخرة، تعجبهم الطاعات وتتعلق نفوسهم بالأعمال الصالحات، ولا تستميلهم زخارف الحياة.
"من كانت الآخرة همه" لا بد أن يحاسب نفسه، فلا يأتي ولا يذر إلا في ضوء ما أمر الله -جل وعلا- وما نهى، ويكون الجزاء على ذلك.
"جعل الله غناه في قلبه" والمعنى أن هذا الإنسان يرفع الله -جل وعلا- درجة أُمنياته، فهو لا يرى هذه الدنيا شيئًا أمام الملك العظيم في جنة عرضها السموات والأرض، ولذلك فهو لا يرى أن هذه الدنيا تستحق أن يُتقاتل على حطامها، فهو لا يحسد ولا يبغي ولا يظلم؛ لأنه يعلم أن هذه الدنيا كلها زائلة، فليس ثمة شيء مما يستحق أن يضيِّع دارًا وجنة عرضها السموات والأرض لأجله في هذه الحياة الدنيا، حتى ولو كان من مشتهيات النفوس ومن مستلذاتها من شهوات البطن والفرج والنفس، ولذلك إنما غناه في هذا القلب بعبادة ربه، فهو يجد من الطمأنينة واللذة في العبادة أعظم مما يجده أهل اللذات في لذائذهم.
ومن مقتضى هذا الوعد الكريم: "جعل الله غناه في قلبه" أن يجعل الله في قلبه من القناعة والكفاف والكفاية، ما يجعله يعرض عن إتعاب نفسه في طلب الزيادة من مُتَع هذه الحياة الدنيا، فهو على نهج النبي الكريم: "ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب استظل بظل شجرة، ثم راح وترَكها".
المسافر حينما يتوقف (في وقت الحر وضوء الشمس الشديد وحرِّها) تحت ظل الشجرة، لا يفكر أن يكون مقامه طويلًا، فهو لا يشتغل بأن يجعل له في هذا المكان ما ينشغل به، فهو لا يشغل نفسه بالقرار في هذا المكان؛ لأنه استقرار مؤقت، وهكذا نظر المؤمن في هذه الحياة الدنيا، لا يصلح أن يكون تخطيطه على أن يكون مقيمًا فيها إقامة دائمة، وإنما هي كما أخبر الله، وكما هو الواقع، وكما هو مستقر في نفوس الناس كافة، أن الإقامة فيها مؤقتة محدودة، ومهما طالت فهي قصيرة.
ولذلك فإن هذا المؤمن يجعل الله غناه في قلبه، ثقةً بموعود ربه، وما عند الله -جل وعلا- من الملك العظيم: "من جعل الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله"، والمعنى أن الله سبحانه يجزيه جزاء أوفى، فكما أنه أراد ما عند الله، فلم يُفرق همَّه في الدنيا؛ لأن الهموم فيها متعددة متنوعة متعبة، ولذلك جعل مجموع خاطره متهيئًا في تحصيل الأسباب التي ينال بها رضا الله -جل وعلا-، ويكافئه فوق ذلك: "وأتته الدنيا وهي راغمة"، والمعنى أن الله يسوق له من الرزق ما لا تعب معه، وإنما هو ببركة توكُّله على الله -جل وعلا-، كما دل عليه الحديث الصحيح: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا، وتعود بطانًا"، فما استُجلِبت الأرزاق، وما استُنزِلت النعم، وما استُكثِرت الخيرات، بمثل التوكل على الله.
نعم، إن التوكل له سرٌّ عجيب وأثر عظيم في غنى النفس وحصول متطلبات الحياة.
وما بَعُدَ عن إنسان خير ورزق وفير بمثل ما جعل من توكُّله على نفسه وثقته في أسبابه واستغنائه عن ربه، فما أشقى مثل هذا الإنسان؛ لأنه يتطلب من الرحمن ما يبارزه به، فالملك لله والرزق من عند الله، فكيف يستنزل الرزق بمعصية الله -جل وعلا-؟ بل كيف يستنزل الرزق بمثل إظهار العبد غناه عن ربه -جل وعلا-؟
ولذلك فإن هذا المؤمن الذي يُعطى هذا الخير ويُجعل في قلبه يجد من السعادة والطمأنينة ما لا يمكن وصفه، وتأملوا -رحمكم الله- في قوله عليه الصلاة والسلام: "أتته الدنيا وهي راغمة".
نعم، إن الدنيا بيد الله، والملك لله، فلا غرو أن يكون كذلك، تأتيه ذليلة حقيرة تابعة له لا يحتاج إلى طلبها إلى سعي كثير، بل تأتيه هيِّنة ليِّنة على رغم أنفها وأنف أربابها، فلو اجتمع أهل السموات والأرض على أن يمنعوه رزقًا كتَبه الله له، لم يستطيعوا ذلك، ولم يقدروا عليه، فما أرغد عيش هذا الإنسان الذي اطمأنت نفسه وارتاح قلبه من أن يكون ساعيًا في أَوْدِية الدنيا ومسالكها، واستغنى عن كل ذلك بطلبها ممن هي بيده.
وتأملوا ما يكون على الضد من ذلك مما هو حال أكثر الناس، قال: "ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه"، والمعنى أنه قد أشغل نفسه كل الإشغال الذي أدى إلى أن ينصرف عن طاعة ربه، فهو يرى أن تحصيل المال وبلوغ الرتب والمراتب، واستكثار الممتلكات: أن هذا هو النجاح وهو الفلاح، وهو الفوز وهو التميز، وما علم أن من هذا المال ما قد يكون شقاءً عليه بصُورٍ متعددة، أعظمها الحساب بين يدي الله، إن هو لم يقم فيه بواجبه، ومن جملة ما يشقى به ذلك الهم الذي ابتدأ فيه بتحصيل هذا المال، ثم بالحفاظ عليه وتَنميته، ثم بحيازته، وألا ينقص، فهو طيلة حياته كلها مسخر لهذا المال وخدمته، فبدلاً من أن يخدمه المال، صار خادمًا له، وبدلاً من أن تكون الرتبة والمراتب خادمة له، صار خادمًا لها، وحسبُك بذلك شقاءً!
ولذا قال عليه الصلاة والسلام مبينًا هذه الحالة النفسية التي يكون عليها هذا الإنسان: "جعل الله فقره بين عينيه"، والمعنى أن هذا الإنسان يناله الهلع الشديد من خوف ضياع المال، فالفقر بين عينيه وإن ملك الأموال المتطاولة، لكنه مشغول نفسه، معتمد على قوته، لم يلتفت إلى توكله على ربه، فإن تغيرت الأسعار وتفاوتت مؤشرات الأسواق، وغير ذلك مما يكون من اختلاف قيم المتداولات من أسهم وعقارات، ومن بضائع وسلع وغيرها، فهو في همٍّ من تقلُّب هذه الأمور، وهو إنما يشغل نفسه؛ لأنه بعد عمن بيده الأمر كله، ولم يستقر في قلبه أن المعطي والمانع هو رب العزة -سبحانه- الذي بيده ملكوت كل شيء، ولذلك وكله الله إلى نفسه، فلن يحصل إلا ما كتب الله له، فما أعظمها من عقوبة: "جعل الله فقره بين عينيه"، وفوق ذلك "فرق الله شمله"، والمعنى أنه لا يجتمع أمره ولا يحصل له طمأنينة النفس، وإنما هو مصبح وممسٍ مُشقيًا نفسه، إن كان قد حصل المال، فهو على الشقاء في حفظه، وإن لم يحصله فهو ساعٍ في طلبه، فقد أشقى نفسه بهذا الطلب، فيمضي حياته كلها على هذا النكد الشديد الذي أحاط بقلبه -عياذًا بالله من مثل هذه الحال-.
وفوق هذا أيضًا: "ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له"، فهو إن سعى وتعب، فإن الذي يأتيه لا يكون بسبب سعيه وكده، وإنما هو بحسب ما قسم له، وما قدره الله -جل وعلا- في الأزل، وليس ذلك راجع إلى ما عنده من حذق وحصافة، وفهم وسعي، ولكنه القدر المقدر، وما أشبه حال هذا بحال قارون؛ إذ قال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)[القصص: 78]، فمثل هذا التصور من أعظم ما يخسف بالإنسان في ذاته، وإن لم يخسف به في جسده، خسف به في حاله وفي طمأنينته القلبية: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)[القصص: 78]، ينظر إلى كده وكسبه، وإلى كدحه وسعيه، ومثل هذا استغناء بالنفس على خالقها -جل وعلا-، وحينئذٍ فلا غرو أن تكون حال هذا الإنسان حال نكد، حال نصب؛ وذلك لأنه فاته ما لأجله خلق، وما به تُحصَّل الطمأنينة، وهو الركون إلى الله -جل وعلا-، والتوكل عليه.
وبعد -أيها الإخوة المؤمنون- فإن هذا الحديث العظيم وما في معناه يعلم المسلم خطورة الانهماك في الدنيا، والانشغال بها على حساب آخرته، ولذلك من علائم ضَعف العقل وضعف الإيمان: أن تكون بين الناس مقارنات بحسب ما هم فيه من أحوال الدنيا، وبخاصة إذا كان ذلك على سبيل التنافس والتكاثر والحسد.
أما إذا كان على سبيل تنافس شريف أن يتنافس الناس في نيل العلم وبلوغ الدرجات العالية، ونيل الشهادات فيما حصَّلوا من العلم، فهو تنافس شريف محمود، ولكن المذموم هو التنافس الذي معه التكاثر في الأموال والأولاد؛ كما عابه الله -جل وعلا-: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)[التكاثر: 1 - 2].
ولذلك فإن الإنسان إذا كان ساعيًا كادًّا في هذه الدنيا لتحصيلها لذاتها، ونسِي آخرته، فإنه على هذه الحال التي أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وينبغي أن يُدرك في هذا المقام أن اهتمام الإنسان وانشغاله بالآخرة من أقوى أسباب سعادته في الدارين معًا؛ لأنه سيتخلق بالأخلاق الكريمة، ويقوم بما أوجب الله عليه في هذه الحياة الدنيا سعيًا كريمًا، ووفاءً بالحقوق ومنعًا من الظلم.
فليتق الله -تعالى- كل امرئ، وليثق بما عند الله -جل وعلا-، وليتوكل عليه مع الأخذ بالأسباب، وقد روى حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- دعا الناس فقال: "هلمُّوا إليَّ" فأقبلوا إليه، فجلسوا عنده عليه الصلاة والسلام، أقول: إن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فدعا الناس، فقال: "هلمُّوا إليَّ"، فأقبلوا إليه، فجلسوا، فقال عليه الصلاة والسلام: "هذا رسول رب العالمين جبرائيل -عليه السلام- نفث في روحي"(يعني: أوحى إليَّ) "أنه لن تموت نفسًا حتى تستكمل رزقها، وإن أبطأ عليها، فاتقوا الله وأجْمِلوا في الطلب، ولا يحملنَّكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله، فإن الله -جل وعلا- لا يُنال ما عنده إلا بطاعته"(رواه البزار وغيره).
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه -أيها الإخوة المؤمنون- طبيعة الإنسان التي قرَّرها القرآن: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)[الفجر: 20]، فحب المال وحب تملُّكه غريزة فطرية، هي من فطرة الإنسان، ولهذا حِكَمٌ عظيمة حتى تكون معايش الناس، وتنمو هذه الأرض، ويكون ما يكون فيها من عمارتها، وجاءت الشريعة لتهذب هذه الغريزة (غريزة التملك) وتجعلها في إطارها الصحيح، وهذا النص العظيم الذي سقته في صدر هذه الخطبة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره في قلبه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قسم له" هذا النص النبوي قاعدة عظيمة ينبغي أن يستحضرها الواحد منا صباحَ مساءَ حتى يوطِّن نفسَه على هذا المنهج العظيم، وينبغي أيضًا أن يتدارس هذه القاعدة وهذه السنة الإلهية مع أهله وأولاده، فإنه يعلم الإنسان ويُبين له الطريق الصحيح في نيل مكارم هذه الدنيا والفوز بالدار الآخرة، ورضا الرحمن -جل وعلا-.
وما أجمل ما قاله العلامة ابن القيم -رحمه الله- في استنباطه وبيانه لدلالة هذا الحديث العظيم قال: "إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمَّل الله -سبحانه- حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمَّه، وفرَّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه، حمله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم".
فاختر لنفسك -يا عبد الله- مسلك الطمأنينة، مسلك الغنى العظيم، وهو التوكل على الرحمن الرحيم، فما استُجلِب الخير والطمأنينة القلبية والراحة النفسية بمثل التوكل على الله، ولذلك لَمَّا سُئِل النبي -صلى الله عليه وسلم- من قِبَل رجل، قال له: دُلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ تأملوا في هذا المطلب الشريف، الإنسان يحب في هذه الدنيا الإنسان العاقل الراشد الحكيم، يحب أن يجمع بين هذين الأمرين أن يكون محبوبًا عند ربه، ومحبوبًا عند الناس، فقال له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس، يحبك الناس"، وهذان الأصلان العظيمان لو عمل بهما الإنسان نال خيرًا كثيرًا، "ازهد في الدنيا"، والمعنى ألا تنهمك فيها، وإنما يكون مرادك رضا الله، وأن يكون مرادك الفوز بالجنة، وهذه الدنيا ستأتي تبعًا.
ثم أيضًا بالنسبة للناس لا تزاحمهم على معايشهم، ولا تصنع المشكلات في أمور هذه الحياة في علاقاتك معهم، كن سمحًا لينًا، كن لطيفًا متقربًا إليهم بما يحبون، حتى ولو ترتَّب على ذلك في بعض الأحيان غضُّ الطرف عن أخطائهم، وعما يكون من أحوالهم، فمن سار هذا المسار وسلك هذا المسلك، أدرك هذا المطلب العظيم، وهو حُب الله وحُب الناس.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا ربنا بذلك، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم وارضَ عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء والأموات.
اللهم أصلح أحوالنا وأحسِن منقلبنا، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها.
اللهم بمنِّك وفضلك، لا تدَع لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرَّجته، ولا كربًا إلا نفَّسته، ولا دَينًا إلا قضيته، ولا مريضًا إلا شفيته، ولا مذنبًا إلا إليك رَددته برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ألِّف بين المؤمنين والمؤمنات، وأعِذْنا وإياهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا.
اللهم هَبْ لنا من أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أعينٍ، واجعلنا للمتقين إمامًا.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم اغفر لنا في مقامنا هذا أجمعين يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان.
اللهم مَن أراد بهم شرًّا، فكِدْ له يا قوي يا عزيز.
اللهم ألِّف بين قلوبهم، واجمعهم على الحق يا رحمن يا رحيم.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام، فرِّج همَّ المهمومين، ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم واجعل بلدنا هذا آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، وأصلح أئمتنا يا رب العالمين.
اللهم اجعل عملهم في رضاك، ودُلَّهم على الخير والرشاد، وأعِذهم من الزَّيغ، وكل فساد يا رب العالمين.
اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وأبعد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين.
سبحان ربنا ربِّ العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي