التعاطي مع الأحداث وأخذُ العِبَر ودروس الاعتبار يكون بعقلٍ حصيفٍ، وهدوءٍ حَذِر، وبُعدٍ عن مواطن الفتن، ومع الأحداثِ المُتسارعة والتقلُّبات المتتابعة تكون الحكمةُ ضالَّةَ المؤمن، والحرص على لُحْمَة البلاد وجَمْع الكلمة ونَبْذ كلِّ ما يُؤدي للتفكك والتحمُّل في سبيل ذلك؛ فليس التزلُّف حاميًا للدول، ولا التذمُّر مُصلحًا للأمم، والنقدُ وحده لا يُقدِّمُ مشروعًا، وردودُ الأفعال غير المدروسة لا تبني رؤيةً راشِدة.
الحمد لله وحده تفرَّد بالوحدانية والإيجاد، وتنزَّه عن الشركاء والأنداد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله هدى إلى طريق الرشاد، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الصدق والجهاد، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم المعاد، أما بعد:
فاتقوا الله -رحمكم الله- عرفتم ربكم فأدُّوا حقَّه، وأفاض عليكم نِعَمه فاشكروا له، أحببتم رسولكم محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فالزموا سنَّته، وقرأتم كتابَ ربكم فاعملوا به، من يرجُ الجنة يُعِدُّ لها، ومن يخاف النار يهرب منها، مَن اتخذ الشيطانَ عدوًّا اجتنَبَ سبيلَه، ومن علِمَ الموتَ حقًّا استعدَّ له، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره.
يقول الحسن-رحمه الله-: "عجبًا لقومٍ أُمِروا بالزاد، ونُودِي فيهم بالرحيل، حُبِسَ أولهم على آخرهم وهم قعودٌ يلعبون في غمرةٍ ساهون، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)[المؤمنون: 115].
أيها المسلمون: التعاطي مع الأحداث وأخذُ العِبَر ودروس الاعتبار يكون بعقلٍ حصيفٍ، وهدوءٍ حَذِر، وبُعدٍ عن مواطن الفتن، ومع الأحداثِ المُتسارعة والتقلُّبات المتتابعة تكون الحكمةُ ضالَّةَ المؤمن، والحرص على لُحْمَة البلاد وجَمْع الكلمة ونَبْذ كلِّ ما يُؤدي للتفكك والتحمُّل في سبيل ذلك؛ فليس التزلُّف حاميًا للدول، ولا التذمُّر مُصلحًا للأمم، والنقدُ وحده لا يُقدِّمُ مشروعًا، وردودُ الأفعال غير المدروسة لا تبني رؤيةً راشِدة.
وبلاد الحرمين الشريفين تمتدُّ على أرضٍ مباركةٍ، فيها أولُ بيتٍ وُضِعَ للناس، وخُتِمَتْ الرسالات بنبيّها، وتنزَّلَ آخرُ كتابٍ في ديارها، خصوصِّيتُنا في موقعنا، وفيما اختار الله لنا من مُتنزَّل وحيه، ومولدِ رسولهِ، ومَبْعَثِه ومُهاجَره، ومماته -عليه الصلاة والسلام-.
بلادُنا قبلةُ المسلمين، تحتضِنُ شعائرَهم ومَشاعرهم، بلدُنا ليس مُرتبطًا بنا وحدَنا؛ بل مرتبطٌ به كل مسلم، فأمنُنا أمنُهم، واستقرارُنا استقرارُهم (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ)[المائدة: 97].
أرضُنا -بإذن الله- صنَعَتْ التاريخ؛ وأهمَّ حدثٍ في الدنيا، تغيَّرتْ به وجوهُ الأممِ والممالك، ونحن امتدادٌ لتاريخٍ عظيمٍ، والتزامٌ برسالةٍ خالدة، وقيامٌ على شريعةٍ مُطهَّرةٍ، وأتباعٌ لسيدنا ونبيِّنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وتاريخُ مملكتنا دينٌ ومبادئُ يجتمعُ عليها الجميع، ويقبَلُها، ويتمسَّكُ بها الجميع تحت رايةٍ للتوحيد ليست مبنيَّةً على عصبية ولا إقليمية ولا مذهبية ولا تصنيفٍ ولا حزبيّة.. الرجال الذين أقاموا هذا الكِيان لا يَعتصِمون بقبيلة، وإنما طاعةٌ لولاةِ أمرٍ وتَبعية ولا يتعصَّبون لفئة، وإنما يقيمون دولة.
إنه تاريخُ دينٍ ودولةٍ ومجتمعٍ وأسرةٍ ووطنٍ يجمعُ بين الأصالة والمعاصَرة، مع التزامٍ بالثوابتِ والتحديث وذلك، من أصولِ الإسلام فواجبٌ التوافق مع بلاد المسلمين والحذر من التآمرين الكافرين.
أيها الإخوة: غايتنا في رايتنا لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ رفع شِعارِ توحيد الله، والحكمِ للهِ، والأمةِ الواحدة، والأُخوَّة الإيمانية، واجتماع الكلمة على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإسلامُ نهجُها، والكتابُ والسنةُ دستورُها.
دولة تأسَّست على الدين وتعتزُّ وتتقوى به مع سياسة واقتصادٍ وتنميةٍ وعملٍ اجتماعي ينتظم كلَّه في سياسة الدين والدنيا دولة ارتفعت برفع راية الدين والتوحيد والوحدة، فحفِظَ الله -بفضله ومنَّته- علينا دينَنا، وجمع فُرقتنا، وأغنانا من بعد عَيْلة، وآمَنَنا من بعد خوف، وجمع كلمتنا، وبعد جهلٍ علَّمَنا، وألبَسَنا لباسَ الصحة والعافية، ومن كل خيرٍ وفضلٍ أمدَّنا وأعطانا.
فالدول تعتز وتنتصر وبمخالفته تذلُّ وتندحر.. وبلادُنا طاهرةٌ عزيزة -بإذن الله- رغم هجماتٍ شرسة إعلاماً وتشويهاً تكالبت علينا واستطاعت -بعون الله وتوفيقه- الاستمرار التاريخي خلاف توقُّعات الخُصومِ وتمنِّياتهم.
وأهمُّ خصائصِ بلادِنا دينٌ قامت عليه وحكمت به فواجبٌ حمايته وعدم مخالفته.. فيها علماء ورجال شرعٍ ومثقفون ملتزمون، فلهم مكانتهم، رجالُ علمٍ ودعوة واحتساب، وكذلك نساءٌ ملتزماتٌ بالحجابِ عبرَ تاريخِنا الطويل؛ فالحاكمُ يطلبُ النصيحة ويستقبِلُها ويقبلُها، والعالمُ ورجلُ الشرع يبذُلُها.
وتطبيقُ الإسلام عندنا ليس وظيفة، وليس مجرد نشاطاتٍ وهوايات؛ بل هو روح وحياة وغاية مجسِّدٌ للهوية ومُحققٌ للولاء والانتماء، وشرعٍ كامل سنةً واتباعاً تطبيقاً لقول الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ)[الأنعام: 162- 163]، والإيمان ورفع المظالم والعدل سببٌ للأمن والسلامة (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام: 82].
فالأمنُ والوحدةُ الوطنية، وتماسُك المجتمع، وحماية المُقدَّسات أعلى وأغلى ما نملك بعد عزِّ الإسلام وحفظ الدين، ومن هنا فلا نريد –أحبتي- التصنيف ولا نرغبه، ولا نريد من يتّهم ويصنّف كما شاء ويُشَوِّه مَن يشاء ويتعصّب لقبيلة ومناطقيَّة، ويصفي ويقتل من يشاء ويزايد على وطنيّةِ الناس؛ فهذا الأمن -بفضل الله وعونه- شارك في صُنعه آباؤنا وأجدادُنا قادةً وشعباً، ويسهرُ عليه رجالُ أمنٍ وعسكر، ومن كل أبناء الوطن، يحفَظون -بفضل الله- أمنَنا ومُقدَّساتنا وسعادتنا وأحوالنا وأموالَنا وأنفسنا وأهلينا..
وأيُّ غفلةٍ عن مُقوِّمات هويتنا، أو إخلالٍ بها، أو تهاونٍ في المحافظة عليها هو هدمٌ يتحقَّقُ أثره بقدر حجمه، دولةٌ ودين، ومواطنٌ ومقيم ومع كل الخير الذي نعيشُه، والفضل الذي نرفُلُ فيه، والرضا الذي ننعَمُ به؛ فنعلمُ أن الكمالَ عزيزٌ، وأن النقصَ والقصور والتقصير والخطأ من شأن البشر ومن شأن العاملين، والطريقُ طويلةٌ وشاقّة؛ ولن نسلم أبداً من المؤامرة.
ومسارُ الأممِ وتعاقُبُ الأجيالِ يتطلَّبُ عقلاً وحكمةً وأناةً وسيراً بخُطًى ثابتة مُتأنِّية غير مُتوقِّفة، يتطلَّبُ حكمةً ووعيَاً يميّزُ بين الثابتِ والمُتغيِّرِ في قوةٍ راشدة، وعدلٍ باسط، وعسكرٍ ضابط، وقضاءٍ عادل، وسياسات حكيمة، ومالٍ رشيد، وتنميةٍ مُخطَّطة، ورحمةٍ تُحيطُ بذلك كله وإحسان!!
من الحكمة والنظر البصير: إدراكُ أن ما يحدُث في بلدٍ أو منطقة ليس باللازم أن يكون مُلائمًا لبلدٍ آخر أو منطقةٍ أخرى؛ فالبُلدان تختلفُ في طبائعها ومُكوِّناتها وظروفها وأحوالها لهذا فإن مصائر الشعوب -حفظكم الله- لا تجوز أن تكون رهينةً مغامرات وأخطأ أفراد سيلقون جزاءهم أو تقليد تجارب لا تُعرف نتائجُها ولا تُحسَبُ عواقبها، فذلك إلقاءٌ للبلاد بالتهلكة بين براثن التطرف وغلوِّ الانحراف.
بلادنا –إخوتي- تقدم لعالم عروبةً مُلتحمةً بالإسلام، وإسلاماً مُحتفٍ بالعروبة، دينُنا دينُ دعوةٍ وحوار وتفاهم وتفاعُل إيجابي مع التجارب الإنسانية، وأخذِ العبرةِ ودروس التاريخ.
أيها الإخوة المسلمون: إن بلاد الحرمين الشريفين بلادُنا ودارُنا وبيتُنا ومُستقرُّنا، الولاءُ لها بعد ولاء الدين، وأمنُه واستقرارُه مُقدَّمٌ على كل تطلُّعات وفوق كل مُطالَبات، سواء في ذلك حاكم ومحكوم، وعند التقلُّبات والشدائد هذا هو أول وأولَى ما يجب النظرُ فيه والتطلُّع إليه، والمحافظةُ عليه، والاستمساكُ به، فمهما اختلفنا وتعدَّدت مطالبُنا وتنوَّعَت رغباتُنا المشروعة فيجبُ أن نكون على يقظةٍ تامة من أمرنا.
فكم من مُتربِّصٍ يريدُ تفتيتَ بلادِنا وتمزيقَ شملِنا وهدمَ كِياننا، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره فكل فتنة.. أو مسلكٍ أو دعوةٍ تُهدِّد الوطن ووحدته والمجتمعَ وعيشَه واجبٌ أن يقفَ أمامَها الجميعُ بالمرصاد صفًّا واحدًا في كتيبةٍ واحدةٍ مُتراصَّة في وجه كلِّ مُتربِّصٍ، ومُواجهةِ كلِّ صائل، ودحْر كل عادٍ كائنًا من كان!!
والمطلوب أن تظلَّ بلادُنا مُتمسِّكةً بمبادئها، مُلتزمةً بمنهجها، مُحافظةً على أُسسٍ قامتْ عليها، يستوي في ذلك حُكَّامُها وشعبُها، وعلى ذلك مُؤسَّسات الدولة، وسياسات الحكم، ومناهجُ التعليم، والتراتيبُ الإدارية والاجتماعية. (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[الحج: 41].
يا رب أدِمْ علينا نعمة الدين والأمن والإيمان، وامنُنْ علينا بالاجتماع على الحق والدين واكفنا الفساد والمفسدين والمتآمرين يا رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعدُ:
لقد وفَّق الله هذه البلادَ ومنذ أن قامَت في دورِها الأوّل بلزوم جماعَة المسلمين والتمسُّكِ بالإسلامِ الذي جاءَ به نبيُّنا محمَّد -صلى الله عليه وسلم- عن ربِّ العالمين؛ مما جعل للإسلام في هذه الديار بقاءً بنَقاء وهَيمنةً بصفاء، وستبقى قائمةً ما أقامتِ التوحيد، منصورةً ما نصرَت السُّنَّة، عاليةً ما أعلنَت العَدل، ولن نخافَ عليها من نقصٍ إلا إذا نقَضَت مِن عُرَى الدين، ولن نخشَى إلا ذنوبَنا وتقصيرنا مع ربِّنا..
وإن كان هناك من قد يجهل أو يُستَغلُّ؛ فإنَّها ظروفٌ تستدعي الحزمَ والعزمَ والتصريحَ دون التلميح فجنابُ الدينِ والأمنِ والوطن والاجتماع ووحدَةِ الصفِّ ليست مجالاً للمُساومة..
وقد منَّ الله علينا برَغَد العيش والأمن في الأوطان والسلامة في الأديان، وفجَّر كنوزَ الأرض، وأسبغ علينا نِعَمَه الظاهرةَ والباطنة بما لا يكاد يُشبِهُه شيءٌ على وجهِ الأرض، مما نحمد الله عليه ونشكره ولا نبدّلُه بالإسراف والبطر والمخالفة (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[البقرة: 211].
هذه بلاد الحرمين نحفظها بتصرفاتنا ونحافظ عليها بديننا.. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)(أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[القصص: 57].
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ إمامنا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَاجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي