واقع الحال يقول: إنّ استقبال المسلمين اليوم لرمضان ليسوا فيه سواءً؛ فمنهم الرافع رأسه والفاتح يديه، ومنهم المنكّس رأسه والنافض يديه، نعم -أيها المسلمون-، واقع الحال يقول: هناك من يستقبل رمضان استقبال الجاهلين، وهناك من يستقبل رمضان استقبال المستهترين، وهناك من يستقبل رمضان استقبال الربّانين. ولا بد من وقفة مع كل ذلك ..
إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أما بعد:
يا من إليه جميع الخلق يبتهـلُ *** وكل حيّ على رحماه يتكّـلُ
أنت المنادى به في كلّ حادثة *** أنت الإله وأنت الذخر والأملُ
أنت الرجاء لمن سدّت مذاهبه *** أنت الدليل لمن ضلت به السبلُ
إنا قصدناك والآمال واقعـة *** عليك والكل ملهوف ومبتهـلُ
الكلّ من عباد الله ملهوف إلى الله، مبتهل إلى الله، ملهوف إلى رحمة الله في رمضان، مبتهل إلى الله أنْ يعتقه في رمضان، ملهوف إلى نفحات الله في رمضان، مبتهل إلى الله أن يعفو عنه في رمضان.
أيها المسلمون: ها هو شهر رمضان قد جاء زمانَكم، وقد حل ديارَكم، وقد نزل منازلكم، فما أنتم قائلون؟! وما أنت فاعلون؟! فشهر رمضان عند الله تعالى وعند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهر عظيم، معظم، مبجّل، ممجّد، مقدَّر.
أيها المسلمون: واقع الحال يقول: إنّ استقبال المسلمين اليوم لرمضان ليسوا فيه سواءً؛ فمنهم الرافع رأسه والفاتح يديه، ومنهم المنكّس رأسه والنافض يديه، نعم -أيها المسلمون-، واقع الحال يقول: هناك من يستقبل رمضان استقبال الجاهلين، وهناك من يستقبل رمضان استقبال المستهترين، وهناك من يستقبل رمضان استقبال الربّانين. ولا بد من وقفة مع كل ذلك.
أيها العبد المؤمن: لا تجعل استقبالك لرمضان، لشهر الله العظيم، استقبالاً جاهليًّا، كما كانت قريش تستقبل مواسم الدين والعبادة، حيث بدلت وحرّفت، ووجد اليوم فينا من بدل ومن حرّف، استمع إلى ربك سبحانه وهو يذم استقبال جاهلية قريش لدينها واحتفائها بمواسمها الدينية؛ حيث يقول سبحانه: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال: 35]، أي: إلا تصفيقًا وتصفيرًا؛ يقول العلامة السعدي: "وأما هؤلاء المشركون الذين يصدون عنه، فما كان صلاتهم فيه التي هي أكبر أنواع العبادات (إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً)، أي: صفيرًا وتصفيقًا، فعل الجهلة الأغبياء، الذين ليس في قلوبهم تعظيم لربهم، ولا معرفة بحقوقه، ولا احترام لأفضل البقاع وأشرفها، فإذا كانت هذه صلاتهم فيه، فكيف ببقية العبادات؟!".
وهذا حال بعض الجاهلين من أبناء هذه الأمة في زماننا، المميّعين لمواسم الله العظيمة، ولشعائره الجليلة، ومنها هذا الشهر المقدّر المبجّل؛ حيث يستقبلون رمضان استقبالاً جاهليًا، بل أدهى وأمرّ مما فعلته قريش حيث اقتصرت على التصفير والتصفيق، ولكن هؤلاء المميّعون لهذا الشهر الفضيل يسخّرون أقوى آلات الإعلام، وأغلى إمكانات الاتصال والكمبيوتر، وأثمن أماكن الرفاهية؛ ليجعلوا منها سلّمًا ينشرون من فوقه الدخان على بياض رمضان، ويجمعون الأموال بالباطل والزور والبهتان؛ حيث يوظفون إمكاناتهم لملء ليل رمضان ونهاره بكلّ ما يشغل المسلمين ويقتل أوقاتهم، ويضيع أجر صيامهم، ويزيد من خطيئاتهم، ويقسي قلوبهم ويستنزف أموالهم، فيبثون المسلسلات الماجنة، والبرامج الهابطة، والمسابقات المنكرة، والفكاهات والمسليات المختلطة والفاسدة، وكل هذا يفعل باسم رمضان، فهي تقدم للناس على أنها مسلسلات وبرامج ومسابقات ومفاكهات رمضانية، والسباق والتنافس بين الإعلام والفضائيات محموم محموم، ليسوقوا الناس إلى الحميم.
ويزداد عجبك، وتزداد سوءة الجاهلية حينما تسمع وتقرأ المئات من الإعلانات في بعض مدننا العربية عن السهرات الرمضانية، والحفلات الرمضانية، والإفطارات الرمضانية، ولكن على وقع الموسيقى والطرب والرقص والاختلاط، فأيّ جاهلية قريش تلك التي ستلحق بهؤلاء؟! إنهم لم يبقوا لرمضان بريقه، وصفاءه وطهره، فهلاّ تركوا لنا رمضان بحاله، أما كفاهم ما يفعلونه قبل رمضان وبعد رمضان؟! إنهم يقتلون روح رمضان، وينفثون النار والسّموم على موائد الرحمن، ليصدق حالة قريش بأبشع صورها: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال: 35]، إنها جاهلية قريش، وجاهلية القروش والكروش، ولكن هنا تفعل باسم رمضان.
أيها الإخوة: هؤلاء الذين يستقبلون رمضان هذا الاستقبال الجاهلي، يستقبلونه بالمسلسلات المنكرة، وبالسهرات المختلطة، وبالموائد المتخمة والمسرفة، ألا يتذكرون أنهم مسلمون مؤمنون؟! وهناك إخوان لهم مسلمون مؤمنون في شتى بقاع الدنيا، منهم من يستقبل رمضان ودمه ينزف، ومنهم من يستقبل رمضان ولا يقر له قرار في بيته، بل هو على الثغور يحمي الديار ويجاهد الكفار، ومنهم من يستقبل رمضان وهو سجين بعيد لا يرى أهلاً ولا أحدًا، ومنهم من يستقبل رمضان والهم يعتصره: أنَّى يطعم أهله وصغاره؟! ومنهم من يستقبل رمضان وهو يصارع المرض والألم والابتلاءات والمحن، وهناك من يستقبله وقد هدم بيته وفقد ولده وشلّت ابنته، فيا الله: أين نحن؟! ويا الله: ما أقسانا!! ويا الله: ما أشدّ غفلتنا!! وما أكبر حوبتنا!! وما أقل شكرنا!! وما أعظم جرمنا حينما نكون من هؤلاء ومع المستقبلين الجاهليين لشهر الله العظيم!!
أيها العبد المؤمن: لا تجعل استقبالك لشهر الله العظيم استقبالاً مستهترًا؛ تنتهك حرمة هذا الشهر العظيم، فتفطر في أيامه العظيمة، فبعض المسلمين اليوم وبعض المسلمات يفطرون في نهار رمضان عامدين متعمدين، معاندين مصرين، لا يرعون لرمضان عظمة، ولا للمسلمين حرمة، ولا لأنفسهم آخرة، فلا تفعل ذلك يا عبد الله، لا تكن من هذه الفئة المستهترة، العاصية الخاطئة، فأنت إن فعلت فإنك من الظالمين، فالإفطار في رمضان كبيرة من الكبائر العظيمة، الإفطار في رمضان ذنب من الذنوب الكبيرة، استمع إلى نبيك -صلى الله عليه وسلم- وهو يصف لك شيئًا من عذاب المفطرين في نهار رمضان، حيث يقول كما في الحديث الصحيح: "بينما أنا نائم أتاني رجلان، فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلاً وعرًا، فقالا: اصعد، فقلت: إني لا أطيقه، فقالا: إنا سنسهله لك، فصعدت، حتى إذا كنت في سواء الجبل، إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟! قالوا: هذا عواء أهل النار. ثم انطلقا بي، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشقّقة أشداقهم، تسيل أشداقهم دمًا، فقلت: من هؤلاء؟! قالا: الذين يفطرون قبل تحلّه صومهم".
فيا ويلك من الله، تفطر في شهره العظيم، تعاند أمر ربك العزيز الجبار الذي أمرك فقال لك: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185]، تفطر لأجل شربة ماء، تخاف العطش، ألا تذكر قول ربك؟! ألا تخاف أن تكون من أهل: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) [الكهف: 29]، يا ويلك من الله، تفطر لأجل لقيمات تزجها في جوفك، ألا تذكر قول ربك، ألا تخاف أن تكون من أهل: (وَطَعَامًا ذَا غُصَّة) [المزمل: 13]، والمصيبة والداهية أن بعض المسلمين يفطر في رمضان، لماذا؟! لأجل أن يدخن، لأجل سيجارة، إنه لا يصبر على مفارقة الدخان لساعات، فينتهك حرمة رمضان، ويرتكب محرمًا بالحرام ولأجل الحرام، يا ويل هذا من الله، نسي قول ربه العظيم: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) [الأعراف: ].
فيا عبد الله: لا تفطر في رمضان، تحمّل الجوع، تحمل العطش، تحمل الصبر على الشهوات، كل ذلك تحمله واصبر عليه لأجل الله، لأجل الأجر العظيم، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين والمحسنات، اصبر -أيها الشاب-، أيها الرجل، أيتها الفتاة، اصبروا على الأقل كما يصبر الآلاف من أطفال وطفلات المسلمين الصائمين الصائمات، وتشبهوا بهم واستحيوا منهم.
إن هؤلاء المفطرين في رمضان لا يرى الواحد منهم شهر رمضان إلا بمنظور ضيق، لا يراه إلا شهرًا سيحرمه في نهاره من الأكل، سيمنعه من الشرب، سيوقفه عن التدخين، إنه منظور تعيس وشقي، إنه منظور أهل الدنيا، الذين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا ولكنهم عن الآخرة غافلون.
أيها المؤمن: كُنْ عبد الله الرباني، كن المؤمن بالله العظيم، الذي يستقبل شهر الله استقبال المؤمنين الربانيين الخاشعين، الذين يعظمون شعائر الله وما يكون لله وما يختاره الله وما يأمر به الله، وشهر رمضان هو من اختيار الله، فالله خلق الأزمنة واختار من أيامها يوم عرفة، ويوم الجمعة، واختار من شهورها شهر رمضان، فشهر رمضان عظيم؛ لأنّ الذي اختاره هو الله العظيم، وأراده أن يكون عندنا عظيمًا، فهل نحن راضون وقابلون باختيار الله لنا؟!
فيا عباد الله: هذا الشهر هو اختيار الله لكم فاقبلوه، وأقبلوا على ما اختاره الله لكم. إنّ التفكّر في هذا الأمر، في أنّ شهر رمضان هو اختيار الله لنا يجعلنا نعظم هذا الشهر، ونقدّر هذه الخيرة من الله، ونجلها؛ (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]، فرمضان خيرة الله وشعيرة من شعائر الله، وهذا ما يجعل العبد المؤمن الصادق يعظم هذا الشهر ويحتفي به ويستقبله استقبال عباد الله الربانيين.
أيها المؤمن: كُنْ عبد الله الرباني، المؤمن بلقاء الله، الذي يستقبل شهر الله العظيم استقبال الفرحين، ألم تسمع إلى قول ربنا -جل ثناؤه-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]، ورمضان هو من فضل الله ورحمته التي يفرح بها العبد المؤمن، وللصائم فرحتان، وهو خير من متاع الدنيا الزائل، ومما يجمعه الزائلون من هذه الدنيا الزائلة.
أيها المؤمن: كن عبد الله الرباني، المؤمن بلقاء الله، الراجي لشفاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باتباع سنته وهديه، الذي يستقبل شهر رمضان بصيام نهاره احتسابًا لله: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه"، ولأجل الله: "يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي"، نعم، من أجل الله -عزّ في علاه-، خالقنا وراحمنا وإليه مصيرنا، سنصوم شهر رمضان، من أجل الله سنتحمل عناء صيام رمضان، من أجل الله سنصبر على العطش في نهار رمضان، رجاء أن يسقينا من حوض نبيه شربة لا نظمأ بعدها أبدًا، من أجل الله سنصبر على الجوع في نهار رمضان، سنصبر على التعب والحرّ في نهار رمضان، رجاء أن يجعلنا ربنا من الذين يظلهم في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه.
أيها المؤمن: اجعل همّك همًّا ربانيًّا في رمضان، همّ من يستقبل رمضان استقبالاً ربانيًا، يستقبله وهمّه: ماذا سأصنع في رمضان؟! ماذا سأقدم في رمضان؟! كيف سأستغل نهاره وليلة؟! كيف سأضاعف أعمالي الصالحات وسجلات الحسنات؟! كيف سأتميز في رمضان هذا عن رمضان السابق؟! كيف أجدد حياتي وإيماني؟! كيف أقوِّي علاقتي بالله؟! كيف أرضي الله؟!
أيها المؤمن: استشعر أنك لست وحدك من يستقبل رمضان في هذه الأرض، بل هناك من يستقبل رمضان في السماء، نعم، كما يستقبل أهلُ الأرض رمضان، كذلك يستقبل أهل السماء رمضان، ألم تسمع ماذا قال نبيك -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، قال كما في الصحيح: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار"، الله أكبر.. إنه يُحتفل في السماء بقدوم رمضان، إنه يُستقبل في السماء استقبالاً ربانيًّا، أفلا نستقبله نحن في الأرض استقبالاً ربانيًّا كذلك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين..
وبعد:
أيها الإخوة: الاستقبال الرباني لرمضان لا بد أن يكون فيه تجديد التوبة وتأكيد الاستغفار.
عباد الله: إنه قد مرّ علينا أحد عشر شهرًا، الله أعلم ما أسلفنا فيها -وكلنا ذو خطأ-، والله وحده أعلم بالذنوب التي تراكمت على أظهرنا، وبالخطايا التي سوّدت صحائفنا، وبالتقصير والإهمال الذي انتاب أيامنا وليالينا، وهذا شهر عظيم مبارك قد أظلنا، شهر البركة وشهر التوبة، فلنكن من عباد الله الربانيين التائبين المستغفرين، فلنستقبل شهر الله المعظم هذا بالتوبة إلى الله العظيم؛ استجابة لنداء الله لنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم: 8].
ولنقبل على الاستغفار إقبال العطشى والحائرين، يقول التواب الرحيم، واسع المغفرة والإحسان، في الحديث القدسي الصحيح: "يا ابن آدم: إنّك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثمّ استغفرتني غفرت لك ولا أبالي"، وتذكر قول أحد الصالحين وهو يزيد الرقاشي حينما كان يخاطب نفسه قائلاً: ويحك -يا يزيد- من ذا يصلي عنك بعد الموت؟! من ذا يصوم عنك بعد الموت؟! من ذا يترضى عنك ربك بعد الموت؟!
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي