كانت أُمُّنَا عائشة صغيرة السن، لكنها ذكية ولمَّاحة؛ لأنها تعلم ماذا لقيه النبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم أُحُد؛ ففي أُحُد شُجَّ جبينه، وكُسِرَتْ رباعيته، وغاصت حلقتان من حلقات المِغْفَر في وجنتيه، وصُرِعَ سبعون من أصحابه حوله، وأهمهم عمه حمزة.. هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ كانت تسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكأنما تنكأ جراحًا غائرة في نفسه حين يقول: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ"..
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له. وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، أما بعد:
فلنرحل بقلوبنا ووجداننا، لنرحل إلى هناك مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دعوته؛ حيث الصبر، وطول الأمل واليقين والثبات.
فها هي أُمُّنَا تستنطق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتستروي خبره ومسيرته مع دعوته، تسترويه أحداثَ ما لم تحضره من أحواله، وإذ بها تسأله فتقول: "يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟"
كانت أُمُّنَا عائشة صغيرة السن، لكنها ذكية ولمَّاحة؛ لأنها تعلم ماذا لقيه النبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم أُحُد؛ ففي أُحُد شُجَّ جبينه، وكُسِرَتْ رباعيته، وغاصت حلقتان من حلقات المِغْفَر في وجنتيه، وصُرِعَ سبعون من أصحابه حوله، وأهمهم عمه حمزة، وقد وقف على جثمان عمه، وقد بُقِرَتْ بطنه، واستُخْرِجَتْ أحشاؤه، ومُثِّلَ به.
هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟
كانت تسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكأنما تنكأ جراحًا غائرة في نفسه حين يقول: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ".
فهل ثمة موقف مرَّ أشد من ذلك؟ نعم؛ أشد من ذلك ما سيرويه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يقول: "وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ".
فما خبر هذا العرض؟ نحتاج أن نتذكرَ ما لم يُذكر ونستظهرَ المضمرَ، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قضى أزيد من عشر سنين قبل الهجرة في دعوة وصبر على أذى أهل مكة، وازداد أذاهم حين مات عمه أبو طالب، فخرج عَلَّهُ أن يجد في الطائف آذانًا مصغية تستجيب لدعوته وتحمل هديه وهداه، خرج إلى الطائف ماشيًا طريقًا يزيد على مائة كيلو من الطريق المعروف بطريق السيل، وبقي هناك عشرةَ أيام يعرض فيها دينَ الله ويبلِّغ رسالتَه، ويغشاهم في مجتمعاتهم يقرأ عليهم القرآنَ.
عشرةُ أيام قضاها النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُوَاجَه إلا بالصدود والإعراض، فلما خشي ملأُ أهل الطائف من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يستميل الناس إليه أغروا به سفهاءهم، فردُّوا عليه أقبحَ الرد، حتى قال له بعضهم: "أَمَا وَجَدَ اللَّهُ أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرَكَ؟!" بل كانوا أخسَّ مما يُتوقع، حين طردوه ووقفوا له صَفَّيْنِ يرمونه بالحجارة. فأصيب -صلى الله عليه وسلم- في أقدامه، فسالت منها الدماء.
وإذا بنبيك -صلى الله عليه وسلم- يرجع إلى مكة وهو يواجه بهذا الصدود، يرجع حزينًا مكلوم الفؤاد مغموم النفس، لكن كيف سيدخلها وقد طُرِدَ منها؟ فيحزن أشد الحزن، وتتراكب الهموم على القلب الكريم الطيب، فلا يَتنفس ولا يُنفِّس عن ذلك إلا بدعوات يَصدع بها السماء قائلًا: "اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَوْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَنْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ أَوْ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ"(الدعاء للطبراني ص: 315. وقال ابن كثير في تفسيره: "إنه دُّعَاءٌ حَسَن. واختاره الضياء في الأحاديث المختارة".
إنه دعاء مكروب مغموم يصدع السماء. ولكنه دعاء فيَّاض بالرضى عن الله والثقة بنصره، وتأييده لعبده المؤمن مهما كانت شدَّة الكرب, ومهما بلغ ضغط المحنة. فالمؤمن الصادق لا يبالي بكل ما يصيبه ما دام الله راضيًا عنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
عاد -صلى الله عليه وسلم- مغمومًا فإلى أي درجة بلغ غمه؟ يصف ذلك فيقول: "فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ". وقرنُ الثعالب هو السيل الكبير يبعد عن الطائف ستةً وأربعين كيلو قطعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشيًا، ولكنه في حال شديدة من الاستغراق مع غمه وهمه.
وحين اشتد الهم وبلغ ليل الظلم ظلمته نزل جبريل ومعه ملك الجبال. قال: "فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"(صحيح مسلم: 1795).
ورجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الطائف إلى مكة ومر به وهو يصلي بالليل نفر من الجن من أهل نصيبين وسنه يومئذ خمسون سنة، فآمنوا وولوا إلى قومهم منذرين. ثم عاد إلى مكة، فلم يستطع دخولهَا إلا تحت جوار رجل مشرك، ألا وهو المطعم بن عدي.
وبعد سنة ونصف من حادثة الطائف تأتيه البشرى، والآيات الكبرى لقد بلغ السماء السابعة، حيث أُسْرِيَ به في اليقظة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وذلك قبل الهجرة التي كانت فرَجًا، قبلها بسنتين.
إِلهَنا وَجْهُكَ أَكْرمُ الوُجُوه وَجَاهُكَ أَعْظَمُ الجَاه. اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ بِنُوْرِ وَجْهِك الكَرِيم الذِي أشْرَقَتْ لَهُ السَّمَواتُ والأرْضِ وبِاسْمِك العَظِيْمِ أنْ تَقْبَلَنَا في هَذِهِ السَّاعَةِ وتَرْضَى عَنَّا رِضًا لا سَخَطَ بَعْدَهُ أبَدًا.
اللهم يا قَرِيْبًا مِمَّنْ دَعَاه، يا حَلِيْمًا على منْ عَصَاه. اللَّهُم ما عَصَيْنَاك جَهْلًا بعُقُوْبَتِكَ، ولا تَعَرُّضًا لِعَذَابِك، ولَكِنْ غَرَّنَا سَتْرُكَ عَليْنَا، فارْحَمْ عِبَادًا غَرَّهُمْ طُولُ إِمْهَالِك، وأطْمَعَهُمْ كَثْرَةُ إِفْضَالِك.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي