بعض آفات اللسان

عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان
عناصر الخطبة
  1. اللسان أداة خير أو أداة شر .
  2. أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم .
  3. بعض آفات اللسان وحبائله .
  4. اجتناب المحرمات والمحظورات مقدم على فعل الطاعات .

اقتباس

إن الله قد حرَّم أعراضَ المسلمين كما حرَّم دماءهم وأموالهم، بل وشرع الدفاع عن العِرْض بالنفس والمال، وإن تدنيس أعراض المسلمين بصناعة الإشاعات ونشرها في الآفاق وترويجها بالشكوك والظنون والاختلاق، والكذب والافتراء، والزور والبهتان والاستهزاء، وبثِّ السموم والفتنة، عبر وسائل الاتصال ومواقع التواصل، كل ذلك من انتهاك العرض المصون...

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد لله الذي خلَق الإنسانَ وفضَّلَه، ومنَحَه العقلَ آلةَ الإدراك ومناطَ التكليف وأدَّبَه، ووهبَه اللسانَ أداةَ التعبير والبيان وعلَّمَه، فسبحان مَنْ سَوَّاه وعدَلَه، وتبارك الله أحسن الخالقين، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق شاهدًا ومُبَشِّرًا ونذيرًا، فجاء بالحق وصدق، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النِّسَاءِ: 131].

معاشر المسلمين: إن جراح الجوارح غائرة، وفي النفوس لها آثار قائمة بالغة.

جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامٌ *** وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ

اللسان أداة التعبير والبيان، وترجمان الجنان، صغير حجمه وجِرْمُه، عظيم طاعته وجُرْمُه، به يُستبان الكفر والإيمان، وهما غاية الطاعة والعصيان، له في الخير مجال رحب، وله في الشر ذيل سحب، به تُشاع الاتهامات، وتُقذف المحصناتُ الغافلاتُ المؤمناتُ، وتقوم الفتنُ والصراعاتُ، وتكشف مخبآت الخدور، وتُستباح الحُرَمُ والدُّورُ، وتُزرع والفتنةُ والضغينةُ والهمومُ والحسراتُ في الصدور، به السبُّ والهمزُ، والنميمةُ واللمزُ، والإشاعةُ واللعنُ والغيبةُ والقذفُ والفحشُ والبذاءةُ والطعنُ، مِنَ الحركة لا يتعب، ومن الكلام لا ينضب، لكن كل ذلك محفوظ مسجَّل، وسيحاسب عليه في يوم الوعيد، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18].

أخَذ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يومًا بلسانه وقال: "يا معاذ، كُفَّ عليكَ هذا، فقال معاذ: وإنَّا لَمؤاخذون بما نتكلمُ به يا رسولَ اللهِ؟، فقال: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا معاذُ، وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم"، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسوله الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن العبد لَيتكلم بالكلمة ينزل بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب"، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "استُشهد غلامٌ منا يومَ أُحُدٍ، فوُجِدَ على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، فمَسَحَتْ أُمُّه الترابَ عن وجهه وقالَتْ: هنيئًا لكَ يا بُنَيَّ الجنةُ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما يدريك، لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه"، وصعد ابن مسعود -رضي الله عنه- يوما الصفا فأخذ بلسانه فقال: "يا لسانُ، قُلْ خيرًا تَغْنَمْ، واسكُتْ عن الشر تَسْلَمْ، من قبل أن تندم"، ثم قال: "سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أكثر خطايا ابن آدم من لسانه".

عباد الله: بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه، إن ذِكْر المسلم لأخيه المسلم بما يكره في حضوره سَبٌّ وشتم، وفي غَيْبَتِه سواء كان في بدنه أو دِينه أو دنياه أو في خَلْقه أو خُلُقه أو ماله أو ولده، أو زوجه أو ثوبه أو حركته، سواء بلفظ أو إشارة، أو رمز أو كتابة أو حكاية، كل ذلك غِيبة إن كان فيه، فإن لم يكن فيه فغيبة وظلم وكذب وبهتان.

عباد الله: الربا اثنان وسبعون بابا، وأدنى الربا مثل إتيانِ الرَّجُلِ أُمَّه، ودرهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم بغير حق.

معاشر المسلمين: إن من أعظم آفات اللسان وغوائله ومصائده وحبائله نشر الإشاعات المزيفة، وإذاعة الأراجيف المختلقة، ونَسْج الأكاذيب المفتَعَلة، ونزع الثقة بين المسلمين حتى يسوء الظن بينهم، ويتكدر صفو الأُخُوَّة فتتفكك وحدتُهم ويتخلخل تماسُكهم، ويتزعزع أمنهم، فكم أقلقت الإشاعة من أبرياء، وكم حطمت من عظماء، وكم هدمت من وشائج، وكم تسببت في جرائم، وكم فككت من علاقات وصداقات، وكم دمَّرت من مجتمعات، وكم هدمت من أُسَر، وفرَّقت بين أحبة، وكم أهدرت من أموال، وضيَّعت من أوقات، وكم أحزنت من قلوب، وأولعت من أفئدة، وأورثت من حسرة، وكم أخرت في سير أقوام، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)[الْحُجُرَاتِ: 12]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الْحُجُرَاتِ: 6].

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال"، وهي عصارة أهل النار، وعن سهل بن معاذ عن أبيه -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ رمى مسلما بشيء يريد شَيْنه حَبَسَه اللهُ على جسر جهنم حتى يخرج مما قال".

معاشر المسلمين: إن الله قد حرَّم أعراضَ المسلمين كما حرَّم دماءهم وأموالهم، بل وشرع الدفاع عن العِرْض بالنفس والمال، وإن تدنيس أعراض المسلمين بصناعة الإشاعات ونشرها في الآفاق وترويجها بالشكوك والظنون والاختلاق، والكذب والافتراء، والزور والبهتان والاستهزاء، وبثِّ السموم والفتنة، عبر وسائل الاتصال ومواقع التواصل، كل ذلك من انتهاك العرض المصون، ومن الجرائم الموبقة والفتن المضللة، فعلى كل مسلم الحذر من ذلك؛ فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- يرفعه قال: "من أشاع على امرئ مسلم كلمة باطل ليشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه بها من النار حتى يأتي بنفاذها"(رواه الطبراني).

ألا وإن مَنْ أشاع إشاعة فهو كباديها، وعليه وزرها ووزر من نقلها عن إلى منتهاها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كفي بالمرء كذبا أن يُحَدِّث بكل ما سَمِعَ" (رواه مسلم).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)[النُّورِ: 15].

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي صان بدِينه الدماءَ والأعراضَ والأموالَ، وتوعَّد المعتديَ عليها بالأفعال والأقوال، وجعَل المؤمنين إخوةً، وزرَع بينَهم مودةً ورحمةً.

معاشر المسلمين: إن الاستطالة على الحرمات وتتبع العورات من أعظم المصائب والابتلاءات، ومن أشد الفتن وأكبر المنكرات، ومن نتائجه ضَعْف الإيمان في النفوس، فعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته"(رواه أحمد).

فصُونوا أعراضَكم، واحفظوا ألسنتكم.

عباد الله: إن للمسلم حرمة عظيمة، قد حماها الشرع وصانها، وتوعَّد من تعدى عليها فلا ينبغي للمسلم أن يتطاول عليها، ولا أن يسعى في هتكها، نَظَرَ عبدُ الله بن عمر -رضي الله عنهما- يوما إلى الكعبة فقال: "ما أعظمَكِ وأعظمَ حرمتَكِ، ولَلمؤمنُ أعظمُ عند اللهِ حرمةً منكِ"، وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: "خَطَبَنا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يومَ النحرِ فقال: "أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذو الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغتُ، قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهدُ الغائبَ؛ فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض"(رواه البخاري).

عباد الله: إن اجتناب المحرَّمات والمحظورات مقدَّم على فعل الطاعات والحسنات والأعمال الصالحات، وإن الْمُفْلِس هو الذي يكد ويعمل ويجمع ولكنه سفيه يبذر ما جمع، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا مَنْ لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقْضى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طرح في النار".

معاشر المسلمين: إن المملكة العربية السعودية؛ بلاد الحرمين الشريفين مهبط الوحي وقِبْلة المسلمين، ومهوى أفئدتهم اختارها الله منطلقا لدينه، ومنبرا للدعوة إليه، ومأوى للموحدين، فانتشر منها شعاع الإسلام، وأرست مبادئ الوسطية والسلام، والعلم والإيمان، وضمت -ضمةَ الأُمِّ وبكلِّ حنانٍ- كلَّ مَنْ وَفَدَ إليها من المسلمين، فجزى اللهُ ولاةَ أمرها خير الجزاء، ألا وإن الإرجاف والإشاعات والبلابل التي يضرمها الحاسدون ويشيعها الحاقدون على هذه البلاد المباركة، إنما هي فتن وحرب ضروس يشنها أعداء ديننا المتربصون بأُمَّتِنا، فنضرع إلى الله وندرأ به في نحورهم.

اللهم احفظ هذه البلاد بحفظك، واكلأها برعايتك، اللهم اجعلها آمنة مطمئنة، وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللهم من أراد بها سوءا فأشغله في نفسه، ورد كيده في نحره يا قوي يا عزيز.

اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه وولي عهده لما تحب وترضى، يا سميع الدعاء، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.

اللهم لك الحمد ربنا على ما أنزلت من خير عميم، اللهم فاجعله قوة لنا وبلاغا إلى حين.

عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي