إنَّ التنويرَ الحقيقيَّ للعقلِ البشريِّ، إنَّما يكونُ بسقيِه بمفاهيمِ القرآنِ والسنة، تلكَ المفاهيمُ التي نقلتِ العربَ منْ هامشِ الكون، إلى صناعةِ الأحداث، ومنَ التبعيَّةِ إلى السيادة، هذه المفاهيمُ العظيمة، التي فتحوا بها العقولَ قبلَ المدائن، والأرواحَ قبلَ الحصونِ المشيدة.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله...
أمَّا بعد:
في لحظاتِ الاحتضارِ العصيبة، حينَ تلتفُ ساقُ الدنيا بساقِ الآخرة، كان -رضي الله عنه- على فراشِ الموت، التفَ أهلُه حولَه، تقولُ زوجتُه: واحزناه، واحزناه، فيقول مواسيًا لنفسِه ومصححًا لها: "وافرحاه، غدًا نلقى الأحبة، محمدًا وحزبَه".
إنَّه التصحيحُ الحقيقيُّ للحبِّ الصادق، والنهايةِ المفرحة، كيفَ لا، وهوَ المؤذنُ الأولُ في الإسلام، ورافعُ نداءِ التوحيدِ في أرجاءِ طيبة.
وها هو إمامٌ آخر، حين اختلطتِ المفاهيمُ في عصرِه، وماجَ الناسُ في الفتن، قالَ له أحدُ أصحابِه: أولَا ترى الحقَ كيفَ ظهرَ عليه الباطل؟ قال: "كلا! إنَّ ظهورَ الباطلِ على الحقِّ، أنْ تنتقلَ القلوبُ من الهدى إلى الضلالة، وقلوبُنا بعدُ لازمةٌ للحق!".
ما أعظمَ "العلم" من ترياقٍ في زمنِ اختلاطِ المفاهيم، وانتكاسِ المصطلحات، فرحمَ اللهُ الإمامَ أحمد، ورحمَ كلَّ معلمٍ يصوبُ الأخطاء، وينشرُ الخير، ويسددُ الناس.
أيها الكرام:
إذا كانَ الإنسانُ هوَ المجموعُ المركبُ منَ البدنِ والعقل، فحظُّ المفاهيمِ هو حظُّ العقل، ولهذا كانَ لها الاهتمامُ الكبيرُ في أصولِ الشريعة ومقاصدِها.
وأممُ الأرضِ قاطبة، إنما تتفاضلُ بتفاضلِ مفاهيمها؛ إذ إن هذه المفاهيم، تُشكِّلُ قيمَ الأمم، ونسيجَ حضارتِها، ومعركةُ المفاهيم جزءٌ منْ سنةِ التدافعِ في الأرض، فالأمم القويةُ تفرضُ مفاهيمها وهيبتها؛ لأنها تُدركُ أنَّ بناءَ الإنسانِ وتشييدَ الحضارة يكونُ من خلالِ هيمنةِ المفاهيم، وتغييرِ العقول، وتصديرِ المصطلحات.
معاشرَ المسلمين:
وإذا كانَ القرآنُ هوَ المعجزةُ الكبرى لنبيِّنا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، فإنَّ من مرتكزاتِه المهمة، صناعةُ المفاهيمِ الصحيحة؛ ليكون المسلمُ صالحًا مُصلحًا، فهي مفاهيمُ تنقلُ الإنسانَ منْ ضيقِ الأديان، إلى سَعةِ الإسلام، ومنَ العبوديةِ لغيرِ الله، إلى خالص العبوديةِ لله، التي بَها التحرُّرُ الحقيقيُّ للإنسانِ فلا يَنْثَنِي لغيرِ الله، ولا يسجدُ لغيرِ الله، ولا يعبدُ غيرَ الله.
ولهذا نجدُ أنَّ مفهومَ كلمةِ التوحيد؛ "لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله" المفتاحُ الحقيقيُّ للدخولِ في عالمِ الحياة؛ حياةِ الروحِ والعقل: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ)[فاطر: 22].
إنها اليقظةُ الكبرى للإنسان، ونقطةُ التحولِ الكبرى في حياتِه؛ حيثُ يجدُ نفسَه منفكًّا عنِ التعلقِ بالأوهام ِوالخُرافة، إلى التعلُّقِ باللهِ وحدِه، وإفرادِه بالعبادةِ -سبحانه وتعالى-.
تأملوا مثلاً -حفظكم الله- مفهومَ الحياة، فهوَ مفهومٌ عظيم، يتجاوزُ هذه الدنيا إلى رحيلِ الإنسانِ عنها، وهو من أعظمِ المفاهيمِ التي عُنِيَ الإسلامُ بتحريرِها في أذهانِ البشر.
ومن جمالِ شريعتِنا: أن الموتَ في ظلِ الإسلام إنَّما هوَ رحيلٌ من دارٍ إلى دار، وهنَا كانتْ عبقريةُ الشريعة، بحثِّ المؤمنِ على مشاريعِ الخلود: مشاريعِ العُمرِ الثاني، وهي التي أوصى بها رسولُنا -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ"(رواه الترمذيُّ بإسناد صحيح).
ومن المفاهيمِ التي ينبغي تصحيحُها: الفِصَام النكدُ بين الدينِ والخُلق؛ حيثُ أصبحَ التدينُ عندَ بعضِهم، عباداتٍ جوفاء، لا تمتُّ للخُلقِ الحسنِ بصلة، وهذا مفهومٌ مغلوطٌ للدين، إذِ الدينُ خُلُقٌ فمنْ زادَ عليكَ في خُلقِك فقدْ زادَ عليكَ في دينِك؛ كما يقوله الإمامُ ابن القيم.
ولقدْ جعلَ اللهُ مقصودَ الأمرِ بإقامةِ الصلاة هوَ النهيُ عنِ الفحشاءِ والمنكر: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)[العنكبوت: 45]، فما بالنا اليومَ نجدُ عندَ بعضِهم فصامًا نكدًا بينَ الخُلقِ والدين؟! لا تظهرُ عليه إلا علامات التكشيرِ والشدةِ والفظاظة! ولقد قالَ اللهُ لنبيِّه: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آل عمران: 159].
وبعدُ -أيها الإخوةُ في الله-، فإنَّ التنويرَ الحقيقيَّ للعقلِ البشريِّ، إنَّما يكونُ بسقيِه بمفاهيمِ القرآنِ والسنة، تلكَ المفاهيمُ التي نقلتِ العربَ منْ هامشِ الكون، إلى صناعةِ الأحداث، ومنَ التبعيَّةِ إلى السيادة، هذه المفاهيمُ العظيمة، التي فتحوا بها العقولَ قبلَ المدائن، والأرواحَ قبلَ الحصونِ المشيدة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)[آل عمران: 81- 83].
الخُطبة الثانية:
أمَّا بعد: عباد الله!
ومنَ المفاهيمِ التي ينبغي أنْ تُصحح: مفهومُ "الفتوَّةِ والرجولة"؛ فقدْ أُلبستِ اليومَ ثوبَ زور، ومقولةَ فجور، ولقدْ كانتْ عندَ سلفِكم ذروةَ المروءة، ومنتهى الشهامة، فقدْ سئلَ الجنيدُ عنِ الفتوة؟ فقال: "لا تنافرْ فقيرًا، ولا تعارضْ غنيًّا". وقالَ الفضيلُ بن عياض: "الفتوة: الصفحُ عن عثراتِ الإخوة".
فليتَ شعري من يحُيي مفاهيمَ الفتوةِ بينَ جيلِ اليوم، ويربيهم على المفاهيمِ الصحيحة، والآدابِ الرفيعة.
ومن المفاهيمِ التي ينبغي تصحيحُها: تلكَ المفاهيمُ المتعلقةِ بالمرأة، فإنْ كانَ للجاهليةِ وأدٌ؛ فوأدُ بعضِ أهلِ زمانِنا إلغاءُ شخصيةِ المرأة، ومصادرةُ حقوقِها، كمثل إجبارِها الزواج على من تكره، وما علموا أن هذا قطعُ رحمٍ وظلم، كما قال الشعبي -رحمه الله-: "منْ زوَّجَ كريمتَه من فاسقٍ فقدْ قطعَ رحمَها"!
وهذا المفهومُ يشهدُ له الواقع، فالعذابُ الذي تعيشُه المرأةُ معَ منْ لا ترضاه يعادلُ قطع رحمها، فتذبلُ في زهرةِ شبابِها، وتموتُ في ريعانِ نضارتهِا.
ومنَ المفاهيمِ التي ينبغي تصحيحُها: مفهومُ الشهرة، آفةُ العصرِ وداؤُها العضال، وغدتْ للناسِ مُنىً ومطلبًا، ورحمَ اللهُ الرَّوْيَاني حين قال: "الشُّهْرَةُ آفَةٌ، وكلٌ يتحرَّاها، والخمولُ رَاحَةٌ وكلٌ يتوقاها".
وإذا كانتِ النفوسُ جُبِلتْ على حبِّ الشهرة، وكانت الرئاسةُ آخرَ مَا يخرجُ منْ قلوبِ الصالحين؛ كمَا أُثِرَ عنْ بعضِ السلف، فإنَّ المفهومَ الحقيقي للشهرةِ أنْ تكونَ معروفًا عندَ أهلِ السماء، أنْ تكونَ مشهورًا في الملأ الأعلى، وأنْ يُنادي اللهُ باسمِك في السماء؛ "يا جبريلُ إني أحبُّ فلانًا فأحبَّه"، فكمْ منْ مغمورٍ في الأرضِ مشهورٍ في السماء!، والله المستعان.
ومن المفاهيمِ الفرعيةِ التي يجبُ أن تصححَ وهي تكثرُ في مواسمِ السفرِ، والنزهاتِ البريةِ مفهوم "بدايةُ الترخصِ برُخَصِ السفر"؛ فبعضُهم مَا إنْ يعزم على السفر، وهوَ في بيتِه يجمعُ الظهرَ معَ العصر، أوِ المغربَ مع العشاءِ وهوَ مَا زالَ في بيتِه أو مسجدِ حيِّه، وهذا تصرفٌ غيرُ راجح، بل حكى الإجماعَ ابنُ المنذرِ في الأوسطِ فقال: "أجمعَ كلُّ منْ نحفظُ عنهُ منْ أهلِ العلمِ على أنَّ للذي يريدُ السفرَ أنْ يقصرَ الصلاةَ إذَا خرجَ عنْ جميعِ بيوتِ القريةِ التي منهَا يخرج"، وتَعلُّمُ أحكامِ القصرِ والجمع، وآدابِ الرحلاتِ والنزهات، مهمٌ في هذه الأيام، وما أكثرَ المفاهيم الخاطئة في هذا الميدان، التي تستوجبُ النصحَ والتسديد.
عباد الله:
وهناكَ مفاهيمُ كثيرة، تحتاجُ منَ المسلمِ الواعي أنْ يتأملَها، ويراجعَ فيهَا أهل العلمِ والمعرفة، وانتشارُها ليسَ حُجةً في صوابِها، فالعلمُ نور، والوعيُ بصيرة، والحكمةُ فلاح.
وهنا دعاءٌ وثناءٌ لأولئكَ القومِ من علماء وولاة أمور، ومربينَ وأساتذة، الذين بذلُوا أنفسَهم وأوقاتِهم، ينفونَ عنْ الدين تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين، سددَ اللهُ الخُطى، وباركَ اللهُ في الجهود.
اللهمَّ إِنَّا نَسْأَلُك عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وشِفَاءً منْ كلِّ داءٍ يَا ربَّ العَالمين، اللَّهُمَّ لَا تُعِيق عنَّا العلمَ بعائقٍ ولَا تمنعه عنَّا بمانعٍ يَا ذَا الجَلَالِ واَلإكْرام.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي