عبودية الدعاء

عبدالله البرح - عضو الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. منزلة عبودية الدعاء ومكانتها .
  2. أمر الله لعباده بالدعاء ووعده لهم بالاستجابة .
  3. تصورات خاطئة وأفهام مغلوطة في الدعاء .
  4. اليقين بالإجابة أعظم آداب الدعاء .
  5. الحكمة من تأخر استجابة الدعاء .

اقتباس

من التصورات الخاطئة في باب الدعاء: ظن بعض الناس أن كل ما يدعون الله ويطلبون تحقيقه هو خير لهم؛ فقد يطلبون من الله أن يصرف عنهم شيئا ثم يتبدى لهم أنه كان خيرا لهم، أو أنهم يسألون الله -تعالى- يعطيهم مسألة ثم يكتشفون أنه لو أعطوا إياها لكانت...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الكريم المتعال المعطي بلا سؤال والواهب في كل حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر عباده بالدعاء والعبادة بإقبال ووعدهم بالقبول وتحقيق الآمال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أعبد الخلق لربه في سائر الأحوال وأدومهم على التبتل إليه في الغدو والأصال -صلى الله عليه وسلم- وعلى الصحب والآل صلاة دائمة إلى يوم المآل.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:

معاشر المسلمين: عبادة عظيمة بها تزول الكروب ومعها تلين الخطوب وتستنير بشعاعها الدروب وتمحى بفعلها الذنوب ويرضى بلزومها علام الغيوب؛ إنها عبادة الدعاء ومناجاة رب الأرض والسماء؛ فكم صدحت بالتذكير بها المنابر وكم ذرفت لأجل قطف ثمارها عيون الأحرار والحرائر.

أيها المسلمون: إن شأن الدعاء عظيم ومنزلته سامية؛ فهو لروح الداع غذاء، ولنفسه دواء، وبه يقوى البنيان ويزيد الإيمان وبه يزول اليأس والأحزان، وهو استعانة الضعيف بالقوي واستغاثة الملهوف بالكريم الرؤوف، قال تَعَالَى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[البقرة: 186].

ولا غنى للعباد -أيها الأخيار- عن دعاء الواحد القهار، وخصوصا في هذا الزمن المملوء بالفتن والرزايا والمحن، وصدق الشاعر الذي قال:

فتناً كقطْع الليل أصبحَ حالُنا *** فبكى لها الأحبابُ والغرباء

فالطفْ بنا يا مَنْ عوائدُه مضتْ *** وارحمْ قلوبًا ما لها رُحَماءُ

ولم يأمرنا ربنا -سبحانه- بعبودية الدعاء ويحثنا عليها إلا لعلمه بعظيم حاجتنا إليه وافتقارنا للانطراح بين يديه؛ فهو القائل جل في عليائه، (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غافر:60]؛ فالله -تعالى- هو الذي يسمع دعاء عبده دون سواه، (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)[إبراهيم: 39].

أيها المؤمنون: لقد ملأ الحديث عن الدعاء الأسماع وما أكثر ما قيل في المنابر والمواعظ عن مكانة الدعاء وشروطه وآدابه وسائر المتعلقات بهذه العبادة من الأحكام والمسائل ولا نحسب أن مسلما يجهل أكثرها؛ لكننا محتاجون إلى الإضاءات التي تصحح الأفهام والتصورات المغلوطة عن الدعاء، وهذا أهم ما نريد أن نوضحه ونتحدث عنه؛ فمن ذلك؛ تصور أن الدعاء وسيلة لتحقيق رغبات العبد ومطالبه، ونسيان حقيقة الدعاء والحكمة من مشروعيته المتضمنة أن الدعاء عبادة في حد ذاتها؛ وسواء كان دعاءنا تمجيدا لله وتعظيما له، أو كان سؤاله لحاجاتنا؛ فنحن بذلك نعلن إيماننا الكامل بالله وحده وتعظيمنا له، ونكون بذلك قد عبدنا الله -تعالى- بعبودية الدعاء، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وصححه الألباني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدعاء هو العبادة"(رواه أحمد).

ومن التصورات الخاطئة في باب الدعاء: ظن بعض الناس أن كل ما يدعون الله ويطلبون تحقيقه هو خير لهم؛ فقد يطلبون من الله أن يصرف عنهم شيئا ثم يتبدى لهم أنه كان خيرا لهم، أو أنهم يسألون الله -تعالى- أن يعطيهم مسألة ثم يكتشفون أنه لو أُعطوها لكانت شرا عليهم؛ فكم من الأمثلة والمواقف على هذه الأشياء في أنفسنا وفي من حولنا؛ نراها في العمل والسفر والزواج وغيرها؛ لنعلم أننا عاجزون عن الإحاطة بحكمة الله -تعالى- وعلمه، قال سبحانه: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 216].

قال ابن كثير في التفسير: "وَهَذَا عَامٌّ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، قَدْ يُحِبّ المرءُ شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ خِيَرَةٌ وَلَا مَصْلَحَةٌ، والله أَعْلَمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ مِنْكُمْ، وأخبَرُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَأُخْرَاكُمْ؛ فَاسْتَجِيبُوا لَهُ، وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ، لَعَلَّكُمْ تَرْشُدُونَ".

كما أن من المفاهيم والتصورات المغلوطة: تصور البعض أن وعد الله لعباده باستجابة الدعاء؛ هو وعد مشتمل على كل ما ندعو به ونطلبه؛ والحقيقة أن هذا فهم مغلوط لقول الله -تعالى-: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غافر: 60]؛ ولكن المتأمل بعين البصيرة يجد أن أول استثناء منطقي مثلا دعاء العبد على نفسه بما فيه شر عليه وهو لا يعلم، أو دعاءه على نفسه في لحظة غضب أو على زوجه أو صحته أو ماله،  وكذلك حسرته على فوات خير كما يتصوره وجهله بخفاياه، وفي ذلك يقول الله: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)[الإسراء: 11]، وهنا يتجلى أن عدم إجابة ربنا لبعض ما ندعوه رحمة لنا ولطف بنا.

ومن ذلك -أيضا-: انغلاق المسلم على نفسه، وكأنه لا يدعو ربه سواه، وإليكم مثالا على ذلك: شاب مسلم علم بوجود شابة مسلمة متدينة عابدة؛ فسأل ربه أن تكون له، ولكنه جهل أنه قد يكون هناك مسلم آخر يدعو بدعائه! فهل يقسمها الله -سبحانه- بينهما وحاشاه؟! بل نسي أن هذه الفتاة لها دعاؤها الخاص بها، وقد لا يكون ما تدعو الله به متحقق فيهما، وقد تتقدم -يا عبدالله- لوظيفة وتدعو الله أن يجعلها من نصيبك؛ بالمقابل هناك العشرات غيرك يتقدمون للوظيفة ويطلبون من الله ذات الطلب الذي طلبته!

ومن الأفهام الخاطئة في باب الدعاء -أيها المؤمنون- انتهى دون حصول لمقصود، وهذا جهل بكرم الله -تعالى- إذ أنه لا يضيع دعاء من دعاه وطلبه ورجاه، وقد جاء في الحديث الذي رواه أحمد، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها".

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)[الأعراف:55].

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي فتح لعباده باب الرجاء وشرع له المناجاة والدعاء والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وإمام الأتقياء وعلى آله وصحبه الأنقياء، أما بعد:

عباد الله: فإن من أهم ما يجب على المسلم وهو يدعو ربه ويناجيه أن يستيقن بأن الله سيجيب دعاءه ويحقق رجاه، ورضي الله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ القائل: "إني لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء؛ فإذا ألهمت الدعاء؛ فإن الإجابة معه".

وقد يتساءل متسائل ما الحكمة من تأخر استجابة الدعاء؟

والجواب: أن في ذلك فرصة لصاحبها للقرب من الله بالدعاء وتعلق قلبه به بعدما كان بعيداً عنه غافلاً، وكم من ابتلاء طال؛ فكان حسنات تصب لصاحبها بصبره واحتسابه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَوَدُّ أهلُ العافية يوم القيامة حين يُعطَى أهلُ البلاء الثواب، لو أنَّ جلودَهم كانت قرضت بالمقاريض"(رواه الترمذي وصححه الألباني).

وروى أبو داود في أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: "إنَّ العَبْدَ إذا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللهِ مَنْـزِلَةٌ لم يبلغْهَا بعَمَلِهِ: ابتْلَاهُ اللهُ في جَسَدِهِ أَوْ في مَالِهِ أوْ في وَلَدِهِ، ثُمَّ صبّره على ذلك، حتى يبلغه المَنْـزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللهِ -تعَالَى-".

أيها المسلمون: ادعوا ربكم واعبدوه ولا تقنطوا من استجابته لدعائكم فتغضبوه، ولله در الشاعر:

لا تسألن بني آدم حاجة *** وسلِ الذي أبوابُـــــه لا تحجـــبُ

الله يغضب إن تركت سؤاله *** وبني آدم حين يسأل يغضبُ

فاللهم استجب دعاءنا وحقق رجاءنا وأصلح لنا كل شأننا.

اللهم اجعلنا ممن دعاك فأجبته واستهداك فهديته، واستنصرك فنصرته، وتوكل عليك فكفيته، وتاب اليك فقبلته.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين وأصلح بفضلك أحوال عبادك المؤمنين.

وصلوا وسلموا على الرسول الأمين وخاتم النبيين حيث أمركم ربكم في الكتاب المبين؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي