حقيقة الصيام

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
عناصر الخطبة
  1. تصفيد الشياطين في رمضان .
  2. من يسر الإسلام في أمر الصيام .
  3. الصيام جنة عن الشهوات والأخلاق السيئة .
  4. حقيقة الصوم .

اقتباس

فقد هلّ عليكم هلال شهر كريم، وموسم مبارك، كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا أقبل هذا الشهر بشَّر أصحابه، فابشروا -أيها المؤمنون- بشهر رمضان، شهر شرع الله فيه الصيام، وأنزل فيه القرآن، وجعله موسمًا للعبادة والمجاهدة والخير والبركة، وجعله من أفضل الأوقات للعمل والجهاد، فهذه السمات الأربعة: الصيام والقرآن والعبادة والعمل والجهاد هي أبرز عطايا هذا الشهر الكريم وخصائصه ..

 

 

 

 

أما بعد:

فقد هلّ عليكم هلال شهر كريم، وموسم مبارك، كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا أقبل هذا الشهر بشَّر أصحابه، فابشروا -أيها المؤمنون- بشهر رمضان، شهر شرع الله فيه الصيام، وأنزل فيه القرآن، وجعله موسمًا للعبادة والمجاهدة والخير والبركة، وجعله من أفضل الأوقات للعمل والجهاد، فهذه السمات الأربعة: الصيام والقرآن والعبادة والعمل والجهاد هي أبرز عطايا هذا الشهر الكريم وخصائصه.

في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء -وفي لفظ في الصحيحين: فتحت أبواب الجنة- وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين". وفي رواية في السنن: "إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن".

وهذا الكلام معناه أن إغراءهم للناس يقل في هذا الشهر الكريم، وتقل فيه الشرور والمعاصي؛ فإن أسباب المعاصي ودواعيها كثيرة، وأعظمها شرًا وأخبثها الشياطين، ولكن ليس كل جنود إبليس يصفدون في هذا الشهر، بل دلت الرواية الأخرى على أن الذي يسلسل هم مردة الجن؛ ولذلك فإن المعاصي والشرور -وإن كانت تقل في هذا الشهر- إلا أنها لا تنقطع، فهناك من أسباب العصيان والفساد يبقى شيء كثير، هناك النفس الخبيثة الأمارة بالسوء التي تصحبك -أيها الإنسان- دائمًا بين جنبيك، وهناك شياطين الإنس، وهناك الغرائز البشرية، وهناك باقي جنود إبليس الذين لم يسلسلوا، ولكن كل هذه الدوافع والأسباب ينقص أثرها على الصائمين، ويخف خطرها على الصائمين؛ فإن للصيام بركة على نفس الصائم.

أيها المسلمون: هذا شهر رمضان، شهر الصيام، فقد فرض الله فيه الصيام على المسلمين، يمتنعون في نهاره عن الطعام والشراب وعن النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فإذا غربت الشمس حل للصائم الأكل والشرب ووطء النساء، وقد كان ذلك محظورًا على من قبلنا، فلم يكن يحل لهم أيام الصيام أن يقربوا النساء حتى في الليل، وإذا نام أحدهم قبل أن يأكل أو يشرب ثم استيقظ في الليل لم يحل له الأكل والشرب، بل يواصل صومه إلى اليوم الثاني، لكن هذه الأمة رحمها الله سبحانه، فمن كرمه ومنه عليها أحل لها ذلك، ورفع عنها الإصر والأغلال التي كانت على من قبلها، فإذا غربت الشمس حل للصائم من هذه الأمة الأكل والشرب ووطء النساء؛ قال سبحانه وتعالى بعد أن ذكر فريضة الصيام: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185]، وقال في موضع آخر -ممتنًا على هذه الأمة-: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة: 187]. أي إن ذلك لم يكن حلالاً لمن قبلكم فأحل لكم -يا أمة محمد-.

ومن يسر هذا الدين ورحمة هذا الدين الذي جاء به سيدنا محمد –صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين، من يسر هذا الدين أن المريض والمسافر يفطران في رمضان ويقضيان العدة أيامًا أخر بعد رمضان، والشيخ العاجز الطاعن في السن الذي لا يستطيع احتمال الصوم، ومثله المريض الذي لا يرجى برؤه؛ يفطران في رمضان ويطعمان عن كل يوم مسكينًا ولا يقضيان، وليس من البر أن يصوم المسافر في السفر، وليس من الأفضل للمريض أن يصوم في المرض، إذا كان الصيام يشق عليه؛ فإن الله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.

ثم اعلموا -أيها المسلمون- أن الصيام جنة كجنة القتال، أي إن الصيام وقاية بينك -أيها المسلم- وبين المعاصي، فهذا الشهر الكريم فرصة لك -أيها المسلم- لتزكي نفسك وتخلصها من آثار الآثام والمعاصي، وفرصة لك -أيها المسلم- فاغتنمها، فإن رمضان فرصة للمسلم ليتخفف من أعباء الشهوات ومن الإسراف في الطيبات، من مستلزمات الصوم أن تتخلص من عادات الإسراف، الإسراف حتى فيما أحل لك من الشهوات؛ شهوة الفرج وشهوة الطعام وشهوة الكلام، عليك أن تتخلص من عادة الإسراف في هذه الشهوات.

بعض الناس لم يفهم حقيقة الصوم، يمتنع في نهار رمضان عن الطعام والشراب، لكنه لا يتوب عن المعاصي، لا يقلع عن الظلم إن كان ظالمًا، ولا يكف عن معصية من المعاصي التي كان يقترفها، أو إذا كف عن المعاصي في نهار رمضان أفطر على المعاصي في ليل رمضان، فنهاره جوع وعطش، وليله عكوف على المعاصي، تراه هو وأهله وأولاده عاكفين على شاشة التليفزيون يشتغلون بما فيها من الموبقات طول الليل، وبعض الناس لم يفهم حقيقة الصوم؛ يمتنع في النهار عن الطعام، حتى إذا أقبل الليل انقض على الطعام بنهم، فالتهم نصيب الليل والنهار معًا، لم يصنع له صومه إلا أنه نقل وقت شهوته، بدل أن تكون في النهار صارت في الليل، نقل له وقت الإسراف في هذه الشهوة وإن كانت مباحة لكن الإسراف فيها غير مباح، نقل له صومه من النهار إلى الليل، فإذا أقبل الليل صففت أمامه أنواع الأطعمة، لا يكتفي بنوع واحد، تُصَفُّ أمامه أنواع الأطعمة ليحشرها جميعًا في بطنه.

هذا الصائم لو سمع قول النبي –صلى الله عليه وسلم- في الصحيح: "إن المؤمن يأكل في معىً واحد، وإن الكافر أو المنافق يأكل في سبعة أمعاء". وفي رواية عند الطبراني بسند جيد ذكر فيها قصة هذا الحديث أن رجلاً اسمه أبو غزوان حلَّ ضيفًا على النبي –صلى الله عليه وسلم-، والنبي أكرم الكرماء، حلب له سبع شياه فشرب لبنها كله، فقال له النبي –صلى الله عليه وسلم-: "هل لك يا أبا غزوان أن تسلم؟!"، فقال: نعم. فأسلم، فمسح النبي على صدره حتى إذا أصبح حلب له النبي شاة واحدة، فلم يتم أبو غزوان لبنها، فقال له النبي –صلى الله عليه وسلم-: "ما لك يا أبا غزوان؟!"، فقال: والذي بعثك نبيًّا لقد رويت. فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "إنك كنت أمس لك سبعة أمعاء عندما كنت كافرًا، وأنت اليوم ليس لك إلا معىً واحد".

هذا الكلام النبوي معناه أن من شأن المؤمن المسلم التقلل من الطعام والزهد في الدنيا والإعراض عن الشهوات، فالمؤمن لا يأكل ليتمتع بشهوة الأكل، إنما يأكل ليبتلع وليسد رمقه وليتقوى على العبادة، بينما الكافر الذي لا يؤمن باليوم الآخر يقبل على الطعام بنهم من شدة حرصه على الدنيا وشدة حرصه على إشباع شهواته ونهمه، يأكل كما تأكل البهائم، كما وصفه الله في قرآنه حيث قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد: 12].

أيها المسلم: اكتف بنوع واحد من الأكل، لا تكن مثل بني إسرائيل لا يصبرون على طعام واحد، أيها الصائم: إذا صُفَّت أنواع الأطعمة أمامك، وحشرت على المائدة حشرًا، فتذكر -قبل أن تهجم عليها وتسرف فيها- أن سيد الخلق وإمام المرسلين وخاتم النبيين محمدًا كان يمر عليه الشهر والشهران ما يوقد في بيته نار، إنما طعامه وطعام أهل بيته الأسودان: التمر والماء. الشهر والشهران!! لا تظنن ذلك كان عجزًا منه، فلو قدر على التمتع بأطايب الطعام وأصنافها لفعل؟! كلا، كان ذلك زهدًا منه وإعراضًا من الدنيا وتقربًا لله الخالق المعبود، وإلا فإن ربه سبحانه عرض عليه أن يفتح عليه خزائن الأرض وكنوزها ليعيش كما تعيش الأباطرة والأكاسرة والقياصرة، في رفاهية وترف، فاختار أن يعيش مسكينًا يأكل كما يأكل العبد، ويجلس كما يجلس العبد، وكان يقول: "اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين".

أيها المسلمون، أيها الصائمون: ليكن هذا الشهر الكريم فرصة لنا نغتنمها لنتخلق بتلك العادات والأخلاق النبوية السامية، ولنتخلص من عادات السرف الحيوانية، ليكن هذا الشهر الكريم فرصة لكل واحد منا ليزكي نفسه ويسمو بها عن سفاسف الدنيا والشهوات، ويرتفع بها إلى سماوات الإيمان، يرتفع بها عن ضيق العيش، من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.

في صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "الصيام جنة؛ فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، وإن قاتله أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم. والذي نفسي بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، إنه ترك طعامه وشرابه وشهواته من أجلي". يقول الله تعالى: "الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها".

اللهم بارك لنا في هذا الشهر الكريم، اللهم بارك لنا في هذا الشهر الكريم، واجعله عتقًا لنا من النار، وطريقًا لنا إلى الجنة، وأعنا على صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك عنا يا كريم، يا أرحم الراحمين.

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئًا.

أما بعد:

فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم -أيها المسلمون- بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70-71]. وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال -جل من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وذي النورين عثمان، وأبي السبطين عليّ، وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
 

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي