وكم فينا من يتحاكم إلى شيخ قبيلته أو رئيس عشيرته عند الاختلاف والتنازع، وهو يعلم أنه سيحكمه بما يسمى بالعادات والأعراف القبلية التي تعارفوا عليها، ولن يحكمه بشرع الله، ومع ذلك يتحاكم إليه، ويدع التحاكم إلى الله، ويتخذ حكماً غير الله، ويتغافل عن قول الله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا)...
الحمد لله أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، أنزل علينا كتابه المبين ليكون حكماً بين العالمين، القائل -سبحانه وتعالى-: (إنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)[الأنعام:57].
والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، نبينا محمد الداعي إلى ربه بأقوم برهان وأصدق دليل، الذي يقول الحق وهو يهدي السبيل، وعلى آله وأصحابه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
أيها المسلمون: يقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه العظيم: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)[الأنعام:114].
إن هذه آية عظيمة يشير الله -تبارك وتعالى- فيها إلى أمر عظيم، ألا وهو موضوع الحاكمية الذي ضاع اليوم في زماننا هذا، وصار الحكم فيه لغير الله، وأصبح الناس يحكمون فيه بغير منهج الله.
إنها آية تخاطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- والخطاب فيها لنا من باب الأولى، فتقول أتبتغون حَكماً يحكمكم غير الله؟ أترضون أن تتحاكموا إلى غير الله؟ أليس الله -جل جلاله- هو الحاكم وغيره هو المحكوم؟ أليس الله هو الآمر والناهي وغيره إنما هو عبد له منفذ لأوامره مستجيب لأحكامه؟ فكيف تتخذون غيره حكما؟!.
إن الذي يجب أن يتخذ حكماً هو الله -تبارك وتعالى- فهو أحكم الحاكمين، وهو رب كل شيء ومليكه، وهو الذي أنزل الأحكام مفصلة في كتابه، وما علينا إلا ننقاد لحكمه ونتخذه حكماً.
إن من الضلال العظيم والانحراف الكبير أن يتخذ الإنسان غير الله حكماً، ولهذا جاءت الآية على صيغة الاستفهام الاستنكاري (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا), ينكر عليهم طلبهم هذا أشد الإنكار، ويقول لهم كيف أطلب بيني وبينكم حكماً غير الله، وأجعل بيني وبينكم غيره حكماً فيما اختلفنا عليه؟ وهو الذي قد أنزل علي جميع الأحكام البيّنة الواضحة المستوفية لكل قضية.
عباد الله: لو نظرنا في أنفسنا، وتأملنا في واقعنا، ووقفنا في أحوالنا مع هذه الآية، لوجدنا أننا نعيش في بعد عنها، وابتعاد عظيم عن تطبيقها والالتزام بحكمها ومطلبها.
تطلب منا أن لا نتخذ غير الله حكماً ونحن نعاكس هذا الأمر!, ونطلب أن يكون الحَكم لنا غيرَ الله وغير منهجه وشرعه.
نخرج نطالب بمطالبات كثيرة وعديدة؛ فمرة نطالب بخفض الأسعار، ومرة نطالب الحكومات بزيادة الدعم للمواد الاستهلاكية والمشتقات النفطية، ومرة نطالب بكذا أو كذا، ولكن لم يخرج أحد منا يوماً من الأيام يطالب بتحكيم شرع الله وتطبيق منهج الله، وأن يكون الحَكم بيننا كتاب الله!!.
بل ربما نخرج -وهذا موجود في بعض بلدان المسلمين وخاصة بعض البلدان التي حدث فيها الربيع العربي- يخرج بعضهم ليثبت للغرب أنه ضد تحكيم الشريعة، وأنهم فقط يطالبون بمطالب إنسانية وحقوقية، وأنهم ضد تطبيق الدين وإقامة حكم الله، ونسوا قول الله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا)[الأنعام:114].
ولو نظرنا في واقعنا وحياتنا الاجتماعية التي نعيش في أوساطها لوجدنا أننا في كثير من قضايانا نطلب أحكاماً لتحكمنا؛ بعيدة كل البعد عن أحكام الله وشرعه المفصل المطهر.
فبعضنا يتحاكم إلى محاكم طاغوتية يعلم كل العلم أنها تحكم بالقوانين البشرية والدساتير الوضعية، وأنها لا تطبق منهج الله ولا تلتزم بتحكيم حدوده وأمره ونهيه، ومع ذلك نتزاحم على أبواب تلك المحاكم ونتسابق إليها!!.
مع أننا نعلم أن هناك علماء ربانيون وقضاة شرعيون بإمكاننا أن نذهب إليهم ونتحاكم بين أيديهم ليحكمونا بدين الله، ويفصلوا في قضايانا بشرع الله، ولكننا لا نفعل، ونتخذ غير الله وغير منهجه حكماً بيننا!.
وكم فينا من يتحاكم إلى شيخ قبيلته أو رئيس عشيرته عند الاختلاف والتنازع، وهو يعلم أنه سيحكمه بما يسمى بالعادات والأعراف القبلية التي تعارفوا عليها، ولن يحكمه بشرع الله، ومع ذلك يتحاكم إليه، ويدع التحاكم إلى الله، ويتخذ حكماً غير الله، ويتغافل عن قول الله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)[الأنعام:114].
إن الواجب علينا -يا عباد الله- إذا اختلفنا في مسألة أو تنازعنا في شيء أن نجعل الحكم لله، ونتخذ منهجه هو الحَكم بيننا والمرجع لنا، والفاصل في جميع قضايانا، لا أن نتخذ حكم غيره أو نجعل المرجع للفصل في أمورنا إلى سواه.
يقول الله -تبارك وتعالى-: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)[التين:8]، ويقول: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)[النساء:105]، وقال: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة:50]، ويقول (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[الزمر:46].
فهذه الآيات كلها تطالبنا بأن نجعل الله -تبارك وتعالى- هو الحَكم بيننا، وأن نرجع في كل قضايانا وأمورنا إلى حكمه، فنحكّم أحكامه، ونلتزم بشرائعه، ونطبق منهجه، فهو أحكم الحاكمين -سبحانه-، وهو الذي أنزل علينا كتابه لنُحكم به ويكون دستوراً لأحكامنا، وهو الحاكم لنا عند تنازعنا واختلافنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله، الذي أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.
وبعد:
عباد الله: يقول الله -تبارك وتعالى- عمن لا يرضى بحكم الله: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[النور:47-50].
يخبر -سبحانه وتعالى- في هذه الآيات عن حال الظالمين ممن في قلبه مرض وضعف إيمان، أو نفاق وريب وضعف علم، أنهم يقولون بألسنتهم، ويلتزمون الإيمان بالله والطاعة، ثم لا يقومون بما قالوا، ويتولى فريق منهم عن الطاعة تولياً عظيماً، بدليل قوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي: إذا صار بينهم وبين أحد حكومة، ودعوا إلى حكم الله ورسوله (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) يريدون أحكام الجاهلية، ويفضلون أحكام القوانين غير الشرعية على الأحكام الشرعية، ثم قال: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وعدم انقياد وإيمان؛ لأن العبد الحقيقي هو من يتّبع الحق فيما يحب ويكره، وفيما يسره ويحزنه، وأما الذي يتبع الشرع عند موافقة هواه، وينبذه عند مخالفته، ويقدم الهوى على الشرع فليس بعبد لله على الحقيقة، فجعلهم الله بمنزلة المريض، الذي يعرض عما ينفعه، ويقبل على ما يضره.
وقال: (أَمِ ارْتَابُوا) أي: شكوا وقلقت قلوبهم من حكم الله ورسوله، واتهموه أنه لا يحكم بالحق، (أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) هل يخافون أن يحكم عليهم حكماً ظالماً جائرا، ثم حكم عليهم حكماً عادلاً فقال: (بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
فحكم على كل من لم يقبل بحكم الله بنفي الإيمان عنه، وأن في قلبه مرض، كما حكم عليه بالتذبذب والشك والريب، والظلم.
وفي آية أخرى نفى الله الإيمان عمن لم يقبل بحكم الله أن يكون حَكماً بينه وبين خصومه فقال: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء:65]. "يُقْسِم تَعَالَى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَة الْمُقَدَّسَة أَنَّهُ لَا يُؤْمِن أَحَد حَتَّى يُحَكِّم الرَّسُول -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي جَمِيع الْأُمُور فَمَا حَكَمَ بِهِ فَهُوَ الْحَقّ الَّذِي يَجِب الِانْقِيَاد لَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَلِهَذَا قَالَ: (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسهمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)؛ أَيْ إِذَا حَكَّمُوك يُطِيعُونَك فِي بَوَاطِنهمْ فَلَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسهمْ حَرَجًا مِمَّا حَكَمْت بِهِ وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن فَيُسَلِّمُونَ لِذَلِكَ تَسْلِيمًا كُلِّيًّا"(تفسير ابن كثير).
وقد روي أنه "اِخْتَصَمَ رَجُلَانِ إِلَى رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَضَى بَيْنهمَا فَقَالَ الْمَقْضِيّ عَلَيْهِ: رُدَّنَا إِلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب فَقَالَ رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نَعَمْ اِنْطَلِقَا إِلَيْهِ" فَلَمَّا أَتَيَا إِلَيْهِ فَقَالَ الرَّجُل: يَا اِبْن الْخَطَّاب قَضَى لِي رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى هَذَا فَقَالَ: رُدَّنَا إِلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب فَرَدَّنَا إِلَيْك فَقَالَ أَكَذَاك؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ عُمَر: مَكَانكُمَا حَتَّى أَخْرُج إِلَيْكُمَا فَأَقْضِي بَيْنكُمَا فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا مُشْتَمِلًا عَلَى سَيْفه فَضَرَبَ الَّذِي قَالَ: رُدَّنَا إِلَى عُمَر فَقَتَلَهُ وَأَدْبَرَ الْآخَر فَأَتَى إِلَى رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه قَتَلَ عُمَر وَاَللَّه صَاحِبِي وَلَوْلَا أَنِّي أَعْجَزْته لَقَتَلَنِي فَقَالَ رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:"مَا كُنْت أَظُنّ أَنْ يَجْتَرِئ عُمَر عَلَى قَتْل مُؤْمِن" فَأَنْزَلَ اللَّه: (فَلَا وَرَبّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك) الْآيَة فَهَدَرَ دَم ذَلِكَ الرَّجُل وَبَرِئَ عُمَر مِنْ قَتْله"(مسند الفاروق لابن كثير).
فهذا حكم كل من لم يرضَ بتحكيم الله ولم يقبل بأن يكون الله حكماً بينه وبين غيره، فهل يفقه هذا من يتحاكمون إلى غير الله؟، وهل يعلم العلمانيون والمنافقون المعاندون لشرع الله المعارضون لتطبيق أحكامه في الأرض؛ أن هذا هو حكم كل من لم يرضى بحكم الله؟ "فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا مُشْتَمِلًا عَلَى سَيْفه فَضَرَبَ الَّذِي قَالَ رُدَّنَا إِلَى عُمَر فَقَتَلَهُ".
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال -عز من قائل كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
اللهم اجعلنا ممن يحكم شريعتك ويرضى بحكمك، ونعوذ بك اللهم من رد أمرك أو الاعتراض على أحكامك
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي