مضى معنا في الجمعة الماضية الفضائل المقررة من خواتيم سورة البقرة، وسبق فيها فضلهما، ونزولهما، ومناسبتهما، ومعنا في هذه الحلقة الثانية فوائدهما، فلنسمع لما فيهما من الفوائد، وجميل الأوافد...
الحمد لله، الحمد لله الذي فاضل بين الآيات، وجعَل فيها عِبرًا وعِظات، وأشهد أن لا إله إلا الله ختم سورة البقرة بآيتين عظيمتين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله عظَّم خواتيم البقرة، وجعلهما كفايةً وحمايةً للثقلين؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وكل من عمِل بالوحيين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله؛ فالتقوى خير زاد وشرفٌ في الدنيا ويوم المعاد.
أيها الإخوة: مضى معنا في الجمعة الماضية الفضائل المقررة من خواتيم سورة البقرة، وسبق فيها فضلهما، ونزولهما، ومناسبتهما، ومعنا في هذه الحلقة الثانية فوائدهما، فلنسمع لما فيهما من الفوائد، وجميل الأوافد:
الفائدة الأولى -رضي عنكم المولى- أعظمها وأساسها: وهو الإيمان بالله وملائكته، وكُتبه ورسله واليوم الآخر (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)[البقرة:285]؛ وهذه أركان الإيمان الستة ما عدا الإيمان بالقدر لم يُذكر هنا.
وقد ذُكِرت هذه الأصول الخمسة في ثلاثة مواطن من القرآن؛ أولها هنا: (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ)[البقرة:285]، وثانيها في سورة البقرة: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ)[البقرة:177]، وثالثها في سورة النساء: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ)[النساء:136]، وقد جاءت في الصحيحين في سؤال جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن الفوائد: ثناؤه -سبحانه- على أهل الإيمان والإشادة بهم (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ)[البقرة:285]؛ فهم يحملون أفضل نعمة، وأكبر منَّة، وربنا تارةً يُناديهم بإيمانهم، وتارةً يُشيد بذكرهم، وتارةً يُثني عليهم.
ومنها: هذا الدعاء العظيم ختَم الله به هذه السورة العظيمة، وبعد ذِكر الأحكام المتضمن وضع الآصار والأغلال والعفو والمغفرة والرحمة من ذي الجلال؛ ولهذا ينبغي أن يُلازمه الإنسان ويدعو به في كل زمانٍ ومكان.
ومن ذلك: أن الإيمان بالرسل جميعًا من أولهم إلى آخرهم لا نؤمن بالبعض ونكفر بالبعض كما تفعله اليهود والنصارى، بل نؤمن بهم لا نُفرِّق بينهم من حيث الإيمان، وأما التفاضل والمراتب فهم متفاوتون في منازلهم ودرجاتهم، فأفضلهم وأشرفهم نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-:
وأفضل الأمة باتفاقِ *** محمدٌ فمِل عن الشقاقِ
ومن الفوائد الجميلة: أنه يجوز للإنسان أن يدعو بما علِم أنه حاصلٌ له قبل الدعاء من فضل الله وعطائه؛ لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه، وذلك أن المرء يدعو بألا يؤاخذه الله بالخطأ والنسيان، وهما واقعان من الإنسان.
ومن الفوائد: ما قاله الزَّجاج لما ذكر ما تشتمل عليه هذه السورة من القصص والأحكام ختمها بتصديق نبيه والمؤمنين.
ومن فوائدهما: أن النفس لها ما كسبت من فعل الخير، وعليها ما اكتسبت من فعل الشر، فكسب الخير غُنم، وكسب الشر غُرم؛ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس:9-10]، "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا".
ومن فوائدهما: تعليم الله لخلقه أن يدعوا وأن يقولوا هذا الدعاء العظيم الذي هم في حاجةٍ ماسةٍ إليه لا ينفكون عنه إذا من طبيعة البشر الخطأ والنسيان.
وفيها: أن من صفات المؤمنين: السمع والطاعة والقبول والاستجابة لشرع الله وأحكامه، والاستثناء من المطلق التام ولو خالف النفس والهوى (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)[البقرة:285]، وكما قال -جلَّ وعلا-: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[النور:51].
وقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[الأنفال:24]؛ فالمؤمن الصادق هو المتبع الموافق.
وفيهما: قوة إيمان الصحابة وانقيادهم، واستجابتهم؛ وذلك أن هذه الآية فرجٌ ومخرجٌ في قوله: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)[البقرة:284]، فلما نزلت اشتد ذلك على أصحاب رسول الله، فأتوه وبركوا الرُّكب وسالت دموعهم، واشتد خوفهم، وعلا نشيجهم، وقالوا: كُلِّفنا من الأعمال ما نُطيق؛ الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أُنزِلت عليك هذه الآية، ولا نُطيقها، فما كان منه -عليه الصلاة والسلام- إلا البلاغ فيما أوحي إليه، والاستجابة لأمر ربه، فقال لهم: "أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ اليهود والنصارى: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[البقرة:285]".
استجيبوا لربكم واعملوا بما جاء في كتاب ربكم، فلما ذلَّت به ألسنتهم واقترأها القوم وانقادوا وأسلموا، وخضعوا واستسلموا؛ أنزل الله فرجًا ومخرجًا في إثرها (آمَنَ الرَّسُولُ)[البقرة:285]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله وأنزل (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة:286]، فاستجاب لهم ربهم، وقال عقب كل دعوة: "قد فعلت"، وفي روايةٍ: "نعم"؛ فالصحابة لا كان ولا يكون مثلهم في الاستجابة؛ رضي الله عن جميع الصحابة.
وليس في الأمة كالصحابة *** في الفضل والمعروف والإصابة
فإنّهم قد شاهدوا الْمُخْتَارَ *** وعايَنُوا الأسرارَ والأنوارَ
وجاهدوا في الله حَتّى بانا *** سُبل الهدى وقد سما الأديانَ
ومن فوائدهما: أن العبد ضعيفٌ عاجزٌ مقصرٌ، فهو بحاجةٍ إلى عفو ربه، ومغفرته، ورحمته ومدده وعونه مهما فعل وامتثل، فالتقصير وارد، والخطأ حاصل، والنسيان ملازم.
وفيها: أن المرء يسأل الله السلامة والعافية، وألا يحمله ما لا طاقة له به "لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ"؛ فلا يدري المرء ما يعرض له.
وفيهما: أن المرء كلما كان أقوى إيمانًا بالرسول كان أشد اتباعًا له، فالمؤمنون آمنوا بما أُنزِل إليه من ربه، فكلما قوي إيمانك قوي اتباعك، وكلما نقص إيمانك نقص اتباعك.
الحادية عشرة: في ذكر السمع والطاعة، وتقدم ذلك على طلب المغفرة والرحمة، وذلك فيها تقديم الوسيلة على المسئول، فهو أدعى للقبول والإجابة.
ومنها: أن للإنسان طاقةً محدودة لا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها؛ ولهذا جعل الله الطاعة بحسب الطاقة (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج:78]، وفي الصحيحين: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"؛ فالإنسان له طاقةٌ محدودة يجب عليه فعل المأمور واجتناب المحظور، والعمل بالمقدور.
وفيها: نهاية الذل والخضوع، والاعتراف والخشوع (أَنْتَ مَوْلانَا)[البقرة:286]؛ فأنت المستجيب يا ربنا، وأنت المعطي يا مولانا (فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)[الحج:78]، (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا)[التوبة:51]؛ فمن عرف مولاه هانت عليه دنياه، ومن عرف مولاه عرفه ربه وهداه، وحفظه وحماه.
الرابعة عشرة-أيها المعشر-: أن الرجوع إلى الله والمصير إليه، ومن عرف أنه إلى ربه راجع تاب وأناب قبل غلق الباب (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[البقرة:245]، (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[المائدة:18]، (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[المؤمنون:79]؛ فيعمل في زمن الإمكان ما دام في فسحةٍ من الزمان، فسوف نُحاسب على أعمالنا ونقف بين يدي ربنا يوم قيامنا.
الخامسة عشرة –بوَّأكم الله أعلى الجنة-: سماحة الدين ويسره في أحكامه ومأموراته، ومراعاة أحوال المكلفين، وأنواع المخاطبين فلا يُوجب على المريض ما يُوجبه على الصحيح، ولا يوجب على المسافر ما يُوجبه على المقيم، ولا يُوجب على العاجز ما يُوجبه على القادر، فلا واجب مع العجز، ويسقط الواجب مع العجز، فديننا دين السماحة والسهولة، واليسر والرحمة، بَيْدَ أنه دين الامتثال للمأمور، واجتناب المحظور، والتقوى على حسب المقدور.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي لكم ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله المصطفى.
السادسة عشرة من الفوائد الجمَّة: عدم المؤاخذة والمعاقبة في الخطأ والنسيان والجهل، لكن إن كان الخطأ والنسيان والجهل في ارتكاب المحظور فلا عقوبة عليه ولا تَبِعَة، وإن كان الخطأ والنسيان والجهل في ترك واجب فلا عقوبة عليه وعليه فعل ما قدر عليه، وإن كان الخطأ والنسيان والجهل في حق المخلوق فلا تسقط بذلك حفظًا للحقوق وصيانةً للمخلوق.
وفيهما: البعد عن الكافرين، وبيان شدة عداوتهم للمؤمنين، وأن عداءهم متوغلٌ في الدنيا والدين؛ ولهذا نسأل رب العالمين أن ينصرنا على القوم الكافرين.
ومن فوائدهما: أن منفعة التكليف وثمرته للمكلفين رحمةً بهم وإحسانًا وهو غنيٌّ عنهم وعن أعمالهم وكسبهم وقرباتهم لها ما كسبت، بل العباد هم بحاجةٍ إلى خالقهم ورازقهم، ومالكهم لا يستغنون عنه طرفة عين، فهو الغني بذاته -سبحانه جلَّ ثناؤه وتعالى شأنه-، وكل شيءٍ رزقه عليه وكلنا مفتقرٌ إليه.
ومنها: أن كل نفسٍ لها ثوابها وجزاؤها لا ينقص منه شيء، فلها ما كسبت حتى وإن دعا وعلَّم فله ما عمل وزاد أجره وثوابه بما دعا وعلَّم؛ فـ"مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ من غير أن ينْقُصُ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا".
والعشرون –يا مؤمنون-: أن على كل نفسٍ ما عملت من سوءٍ وشرّ، ولا تحمل وزر غيرها وجُرم غيرها (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[الأنعام:164].
ومنها: كمال عدله -سبحانه- وأنه لا يظلم العباد شيئًا، فيُحاسب كل نفسٍ بما كسبت لا يُنقصه حقه (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف:49].
وفيهما: الترغيب في فعل الحسنات، والزيادة في الطاعات (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ)[فصلت:46]، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا)[آل عمران:30]؛ فمن تزود وعمل فإنما هو لنفسه يدخر ويعمل.
ومنها: كما أن فيها الترهيب من فعل السيئات، وأن من أساء فإنما يُسيء لنفسه (وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)[فصلت:46]، (وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)[البقرة:286]؛ فمن عصى وطغى، وتمرد وبغى؛ فإنما يضر نفسه، وسوف يُحاسبه ربه (وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)[آل عمران:30].
الرابعة والعشرون –أيها المؤمنون-: التوسل إلى الله بربوبيته؛ ولهذا توسل المؤمنون بقولهم: ربنا، ربنا، ربنا، وجُلّ أدعية الرسل بالربوبية؛ لما فيها من الاعتراف بأن الله هو المالك الخالق القادر، القاهر الولي الناصر، المتصرف الرازق، الأول الآخر.
الخامسة والعشرون –وهي آخرها يا مسلمون-: فضل هذه الأمة المحمدية برفع الآصار والأغلال عنها، وعدم تحميلها ما لا تُطيق رحمةً وإحسانًا، عفوًّا وامتنانًا، فخصها بالتيسير والتخفيف والتسهيل، والعفو والمغفرة والرحمة.
فهذا ما تيسر ذكره على خاتمة سورة البقرة، وهناك فوائد جمة ليس هذا موطن نشرها، فتدبروا وتأملوا وتفكروا، واعملوا تُفلحوا وتفوزوا، تنجحوا وتحوزوا.
نسأل الله أن يفتح علينا من بركات السماء وخيرات الأرض، هذا وصلوا وسلِّموا على نبيكم وأتموا.
وَافَى كَبَدْرِ التّمِّ شَعَّ بِنُوْرِهِ *** فَأَحَالَ لَيْلَ الحَائِرِيْنَ ضِيَاءَ
يَا رَبّ صَلِّ عَلَيْهِ مِلْءَ قُلُوْبِنَا *** وَاكْتُبْ لَنَا فِي الخَالِدِيْنَ لِقَاءَ
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي