ومن شرف هذه العشر -عباد الله- أن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر في وتر منها، قيل: في ليلة إحدى وعشرين، وقيل: في خمس وعشرين، وقيل: في سبع وعشرين، وهو أصحها وأشهرها دليلاً، وقيل: لا يبعد أن تكون ليلة القدر دائرة بين أوتار العشرة وليست في ليلة منها ولا تخرج عنها.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: هذا شهر رمضان قد انتصف، فمن منكم حاسب نفسه لله وانتصف، من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني له فيها غرفًا من فوقها غرف.
ألا إن شهركم قد أخذ في النقصان، فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف، فكل شهر فعسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف؟!
تنصّف الشهر والهفاه وانهدما *** واختص بالفوز بالجنات من خدما
وأصبح الغافل المسكين منكسرًا *** مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما
من فاته الزرع في وقت البذار فما *** تراه يحـصد إلا الهمّ والندما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته *** في شهـره وبحبل الله معتصمًا
في الصحيح عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: "كان رسول الله إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله".
ولمسلم عنها قالت: "كان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره".
وقد تضمن حديث عائشة -رضي الله عنها- ثلاثة أشياء، كان يخص بها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- العشر الأواخر:
أولها: شد المئزر. واختلفوا في تفسيره؛ فمنهم من قال: هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة، وقيل: المراد اعتزاله للنساء. وبذلك فسّره السلف والأئمة المتقدمون.
وقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- غالبًا يعتكف العشر الأواخر، والمعتكف ممنوع من قربان النساء بالنص والإجماع؛ قال الله -عز وجل-: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) [البقرة: 186]، وقد قالت طائفة من السلف في تفسير قوله تعالى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) [البقرة:168]: إنه طلب ليلة القدر.
والمعنى في ذلك أن الله تعالى لما أباح المباشرة في ليالي الصيام، أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر، لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح، فيفوتهم طلب ليلة القدر.
وقول عائشة -رضي الله عنها-: "أحيا ليله": يحتمل إحياء الليل كله، ويحتمل أن المراد إحياء غالب الليل، ويؤيده ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت: "ما أعلمه قام ليله حتى الصباح".
وقولها -رضي الله عنها-: "وأيقظ أهله"، يدل على أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيرها من الليالي.
وخرج الطبراني من حديث عليّ أن النبي –صلى الله عليه وسلم- "كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان، وكل صغير وكبير يطيق الصلاة".
قال سفيان الثوري: أحبّ إليّ إذا دخل العشر الأواخر، أن يتهجد بالليل، ويتهجد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك.
وقد صح عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يطرق فاطمة وعليًّا ليلاً فيقول لهما: "ألا تقومان فتصليان".
ومما كان يخص به رسول الله العشر الأواخر من رمضان تأخير الفطور إلى السحور، وهو المواصلة إلى السحر؛ ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر". قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله، قال: "إني لست كهيئتكم؛ إني أبيت لي مطعم يطعمني وساقٍ يسقيني".
وزعم ابن جرير -رحمه الله- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يكن يواصل إلا إلى السحر خاصة، وأن ذلك يجوز لمن قوي عليه ويكره لغيره.
ومما كان يخص به رسول الله العشر الأواخر: الاعتكاف؛ ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى.
وإنما كان يعتكف النبي –صلى الله عليه وسلم- في العشر التي يُطلب فيها ليلة القدر، قطعًا لأشغاله، وتفريغًا لباله، وتخليًا لمناجاة ربه، وذكره ودعائه، وكان يحتجر حصيرًا يتخلى فيها عن الناس، فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم، ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن، بل الأفضل له الانفراد بنفسه والتخلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه، وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية، وإنما يكون في المساجد لئلا يترك به الجمع والجماعات، فإن الخلوة القاطعة عن الجمع والجماعات ينهى عنها.
فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق، للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال.
روى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي –صلى الله عليه وسلم- قالت: "وإن كان رسول الله ليدخل رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل إلا لحاجة إذا كان معتكفًا".
وفسَّره الزهري بالبول والغائط، وقد اتفق العلماء على استثنائهما واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب، والجمهور على أنه لا يكره في المسجد، وعن مالك تكره فيه الصنائع والحرف حتى طلب العلم.
ومن شرف هذه العشر -عباد الله- أن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر في وتر منها، قيل: في ليلة إحدى وعشرين، وقيل: في خمس وعشرين، وقيل: في سبع وعشرين، وهو أصحها وأشهرها دليلاً، وقيل: لا يبعد أن تكون ليلة القدر دائرة بين أوتار العشرة وليست في ليلة منها ولا تخرج عنها.
وحكى ابن كثير هذا الوجه عن مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وقال: وهو الأشبه، قال الله -عز وجل-: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [سورة القدر].
واختلف العلماء في سبب تسميتها ليلة القدر، فقيل: المراد به التعظيم، كما قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الزمر: 67].
والمراد أنها ذات قدر لنزول القرآن فيها، أو لما يقع فيها من تنزل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر.
وقيل: سميت ليلة القدر لأن الله تعالى يقدِّر فيها وقائع السنة، ويدل له قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان:30]، وقوله -عز وجل-: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)، والتساؤل بهذا الأسلوب للتعظيم كما قال تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ) [القارعة: 2].
وقوله تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، فيه النص صراحة على علو قدرها ورفعتها؛ إذ إنها تعدل في الزمن فوق ثلاث وثمانين سنة، أي فوق متوسط أعمار هذه الأمة.
قال مالك: "بلغني أن رسول الله رأى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغه غيرهم، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر".
قال النخعي: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
وقوله -عز وجل-: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر: 4]، أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العالم تعظيمًا له. وأما الروح فقيل: المراد به هاهنا جبريل -عليه السلام-، فيكون من عطف الخاص على العام، وقيل: هم ضرب من الملائكة.
وقوله -عز وجل-: (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)، عن مجاهد قال: هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا، أو يعمل فيها أذى.
وقال قتادة: (سَلامٌ هِيَ)، يعني هي خير كلها، ليس فيها شر إلى مطلع الفجر.
عباد الله: هذا شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومن فرّط فليختمه بالحسنى، والعمل بالختام، فاغتنموا منها ما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملاً صالحًا يشهد لكم به عند الملك العلام، وودعوه عند فراقه بأزكى تحية وسلام.
سلام مـن الرحمن كل أوان *** على خير شهر قد مضى وزمان
سلام على شهر الصيام فإنه *** أمـان مـن الرحمن كـل أمان
لئن فنيت أيامك الغر بغتة *** فما الحـزن من قلبي عليك بفان
فيا أصحاب الذنوب العظيمة: الغنيمة في هذه الأيام الكريمة، فما منها عوض ولا لها قيمة، فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة، والمنحة الجسيمة، يا من أعتقه مولاه من النار: إياك أن تعود بعد أن صرت حرًّا إلى رق الأوزار، أيبعدك مولاك من النار وتقترب منها، وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها.
ماذا فات من فاته خير رمضان، وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان، كم بين من حظه فيه القبول والغفران، ومن كان حظه فيه الخيبة والخسران.
رُوي عن عليٍّ أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه.
قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحن، ومن ألم فراقه تئن، كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع، لقد ذهبت أيامه وما أطعتم، وكتبت عليكم فيه آثامه وما أضعتم، وكأنكم بالمشمرين فيه وقد وصلوا، وانقطعتم.
أين حرق المجتهدين في نهاره؟! أين قلق المتهجدين في أسحاره؟! ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه، وقد عظمت فيه مصيبته وجل عزاؤه؟!
كم نصح المسكين فما قبل النصح!! كم دُعي إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح!! كم شاهد الواصلين فيه وهو متباعد!! كم مرت به زمر السائرين وهو قاعد!! حتى إذا ضاق به الوقت، وخاف المقت، ندم على التفريط حين لا ينفع الندم، وطلب الاستدراك في وقت العدم!!
أتترك من تحب وأنت جار *** وتطلبه وقـد بعـد المزار
وتبكي بعـد أيهم اشتياقًا *** وتسأل في المنازل أين ساروا
تركت سؤالهم وهم حضور *** وترجـو أن تخـبِّرك الديار
فنفسك لُـمْ ولا تلم المطايا *** ومت كمدًا فليس لك اعتذار
يا شهر رمضان: ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام ما تخرَّق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق.
عسى وعسى من قبل وقت التفرق *** إلى كل ما ترجو من الخير تلتقي
فيجـبر مكسور ويقـبل تـائب *** ويعتق خـطاء ويسـعد من شقي
نسأل الله الكريم أن يعيد علينا هذا الشهر سنين متوالية ونحن في عافية، في ديننا ودنيانا، وأن يأجرنا على مصابنا بفراقه خير الجزاء، إنه أكرم مسؤول وأعظم مأمول.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي