فسَلْ نفسَك يا عبدَ الله: هلْ أنا من غرسِ الرحمن؟ يا عجبًا!! أوَيُغرَسُ الإنسانُ؟! نعم واللهِ! ولِيزولَ عَجَبُك فاسمعْ إلى نبيِّك البشيرِ النذيرِ -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "لاَ يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا؛ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ"...
إن الحمدَ لله؛ نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعدُ: فـ(اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[البقرة:223].
رواهُ البخاريُّ ومسلم. ما أطيبَها من عبارة: رواهُ البخاريُّ ومسلم. إذا سمعتَها اطمأنَنْتَ أن الحديثَ صحيحٌ بلا تردُّد.
وما دامَ أولادُنا قارَبوا على توديعِ اختباراتِهم، وقد قرؤوا ربَّما ألفًا أو ألفين من الصفحاتِ في مُذاكراتِهم؛ فلنتعرفْ على إمامينِ، طَلبا العلمَ من أقاصي الدنيا، وحفِظا مئاتِ الآلافِ من الأحاديث، ثم انتقَيا وجَمعا أصحَّ ما حفِظا من الأحاديث، وقد عاشا في بلادِ العَجَم، فغَلبا عامةَ علماءِ العرب في وقتِهما؛ فالبخاريُّ مِنْ بُخارَى في أُوزْبَكِستانَ الآن، ومسلمٌ من نَيسابورَ في إيرانَ الآن. ذلك لِنعلمَ أن العلمَ مواهبُ ربانيةٌ، يَصطفي اللهُ لها مَنْ يشاء، وهوَ العليمُ القدير: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة:11].
إذًا فلنُعطِّرْ أسماعَنا بشيءٍ مِن سيرةِ هذينِ الإمامين.
أما الإمامُ البخاريُّ -رحمه الله-؛ فهو أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ الجُعفي البُخَارِيُّ. كتابُه في الحديثِ أصحُّ وأعظمُ كتابٍ بعدَ القرآنِ، والمسمَّى بـ: "صحيحِ البخاري".
نَشَأ يَتيمًا ومَا ضَرَّه. قَالَ عنْ نفسِه: "أُلْهِمْتُ حِفْظَ الحَدِيْثِ وعُمري عَشرُ سِنِيْنَ، ثُمَّ خرجْتُ مَعَ أُمِّي وَأَخِي أَحْمَدَ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا حَجَجْتُ رَجَعَ أَخِي بِهَا! وَتخلَّفْتُ فِي طلبِ الحَدِيْثِ".. كان يَحضرُ مجلسَه من طلبةِ الحديثِ آلافٌ، ولم يَكن نَبَتَ له لِحْيَةٌ بعدُ.
أما سببُ تأليفِه وجمعِه لكتابِه "صحيحَ البخاري"؛ فقد قَالَ هوَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وكأنني وَاقِفٌ بَين يَدَيْهِ، وَبِيَدِيْ مِروحةٌ أذبُّ بهَا عَنهُ، فَسَأَلتُ بعضُ المعبِّرين، فَقَالَ لي: أَنْتَ تَذُبُّ عَنهُ الْكَذِبَ. فَهُوَ الَّذِي حَملَنِي على إِخْرَاجِ الْجَامِعِ الصَّحِيح".
قَالَ البُخَارِيّ: "كَتبتُ كتابي فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، وَجَعَلتُه حجَّةً فِيمَا بيني وَبَين الله، ومَا كتبتُ فِيه حَدِيثًا الا اغْتَسَلتُ قبل ذَلِك وَصليتُ رَكْعَتَيْنِ. وأحفظُ مائَةَ ألفِ حَدِيثٍ صَحِيح، وأحفَظُ مِائَتي ألفِ حَدِيثٍ غيرِ صَحِيح".
(صَحِيْحُ البُخَارِيِّ) لَوْ أَنْصَفُوهُ *** لَمَا خُطَّ إِلاَّ بمَاءِ الذَّهَبْ
أَسَانِيْدُ مِثْلُ نُجُومِ السَّمَا ***ءِ أَمَامَ مُتُوْنٍ كَمِثْلِ الشُّهُبْ
كان ذَاتَ لَيْلَةٍ عَلَى فِراشِه، فَأَحصَوا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَامَ وَأَسْرَجَ السِّراجَ؛ يَسْتَذكرُ أَشْيَاءَ يُعَلِّقُهَا ثَمَانَ عَشْرَةَ مرَّةً فِي لَيْلَةٍ.
شيوخُه: أكثرُ من ألفِ شيخٍ. وأهمُّهم: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْه، ويحيى بنُ معِين.
تلاميذُه: منهم الإمامُ مسلمٌ والإمامُ الترمذيُّ. ومَرَّةً جَاءَ إليه تلميذُه الإمامُ مُسلمٌ، فَقبَّل بَين عَيْنَيْهِ وقال: "دَعْنِي أقبِّلُ رجلَيكَ يَا أستاذَ الأستاذِينَ ويا طبيبَ الحديثِ".
أما عِبادتُه وتَقواهُ؛ فقد قَالَ عن نفسهِ: "إنِّي لأرجو أَن ألقَى اللهَ وَلَا يُحاسِبُني أَنِّي اغتبتُ أحدًا". كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ يُصَلِّي، فلسَعَهُ الزنبورُ سبعَ عشرَةَ مرّةً، وَلم يَقطعْ صلَاتَه.
وكَانَ في رَمَضَانَ يخْتِم بِالنَّهَارِ فِي كلِّ يَوْمٍ ختمةً عِنْدَ الْإِفْطَار.
ومِن شِعرهِ قَوْلُه:
اغتنِمْ فِي الْفَرَاغِ فضلَ رُكُوعٍ *** فَعَسَى أَنْ يكونَ موتُك بَغْتةْ
كمْ صَحِيحٍ رَأَيْتَ منْ غيرِ سُقْمٍ *** ذهبتْ نَفسُه الصَّحِيحَةُ فَلْتةْ
ومن الْعَجَائِب: أَن البخاريَ نفسَه ماتَ فَلْتة! وذلكَ لَيْلَةَ عيدِ الفِطرِ، وعمرُه اثنتانِ وسِتونَ سَنَةً. -رحمه الله- وجزاهُ عنِ المسلمين خيرًا.
أما بعدُ: وبعدَ البخاريِّ تلميذُه الإِمَامُ الحَافِظُ مُسْلِمُ بْن الحجّاج القُشَيْريُّ النَّيسابوري. صَاحِبُ "الصَّحِيحِ" الَّذِي هُوَ تِلْوَ صحِيحِ البُخَارِيِّ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. ومن تلاميذِه الترمذيُّ وابنُ خزيمة.
بدأ طلبَ علمِ الحديث وعمرُه أربعَ عشرةَ سنة، وحجّ وعمرُه ستَّ عشرةَ، فطلب العلمَ على علماءِ مكة. وعددُ مشايخه الذين رَوى عنهم فِي صحيحه فقط: مائتانِ وسبعةَ عشرَ شيخًا.
يقول مسلمٌ: "صنّفتُ هذا المسندَ الصّحيحَ من ثلاثمائة ألفِ حديثٍ مسموعة. ومكثتُ فِي تَأَلِيفهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سنَة". يا الله!! كم تعِبوا ليَحفظوا علينا دينَنا وحديثَ رسولِنا -صلى الله عليه وسلم-.
تُوُفيّ مُسْلِمٌ وعُمُرُه سبعٌ وخمسون سنة. وسَبَبُ مَوْتِه -رحمه الله- أَنَّهُ عُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ للحديثِ، فَسُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَأَوْقَدَ السِّرَاجَ، وَقَالَ لِأَهْلِهِ: لَا يَدْخُلْ عَلَيَّ أَحَدٌ اللَّيْلَةَ. فقيل له: أُهديَتْ لنا سَلةٌ فيها تَمْرٌ، فقال: هاتُوها. فكان يَطلبُ الحَديثَ وهِيَ عِنْدُهُ; يَأْكُلُ مِنْهَا تَمْرَةً وَيَكْشِفُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَأْكُلُ أُخْرَى، وَيَكْشِفُ آخَرَ، وَلَمَ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، وَقَدْ أَكَلَ كُلَّ تِلْكَ السَّلَّةَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، ثمَّ وَجَدَ الحديثَ، فَحَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ ثِقَلٌ، وَمَرِضَ مِنْه، -ولعلَّهُ أُصيبَ بمرضِ السُّكَّريِّ-، فماتَ مِنهُ -رحمه الله-.
أما بعدُ وأما قبلُ: فسَلْ نفسَك -يا عبدَ الله- هلْ أنا من غرسِ الرحمن؟ يا عجبًا!! أوَيُغرَسُ الإنسانُ؟! نعم واللهِ! ولِيزولَ عَجَبُك فاسمعْ إلى نبيِّك البشيرِ النذيرِ -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "لاَ يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا؛ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ"(رواه ابن ماجه وصححهُ ابنُ حبانَ والبوصيريُّ، وحسنهُ الذهبيُّ والألبانيُّ). قال ابنُ القيِّم: "وغرْسُ اللهِ همْ أهلُ العلمِ والعمل".
فاللهم استعمِلْنا، ولا تستبدِلْنا.
اللهم اجعلنا من غرسِك الذين تَستعملُهم في طاعتِك.
اللهم أعنا على ذكرِكَ وشكرِكَ وحسنِ عبادتِك.
اللهم يا ذا الملكِ والملكوتِ، يا مجيبَ الدعواتِ احفظْ لنا مليكَنا وأمدَّهُ بالصحةِ في طاعتِك ومصلحةِ الإسلامِ وصلاحِ المسلمين.
اللهم أعنْهُ على إدارةِ مملكتِه بولي عهده، وبأعوانٍ أمناءَ، ووفقهُم إلى الصواب في قراراتِهم، وتدبيرِ الميزانيةِ المبارَكة.
اللهم احفظْ جنودَنا في حدودِنا، وحُطْ من ورائهم.
اللم بارك في اختباراتِ أولادِنا، واجعلها عونًا على طاعتِك، ورفعةً لأهلهِم وبلدِهم.
اللهم بارك لنا في ربيعِنا، وفي إجازةِ ربيعِنا، واجعلِ القرآنَ ربيعَ قلوبِنا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي