الإنصاف قيمة غالية وقمة عالية لا يبلغها حقاً إلا من ضبط نفسه، وتحكم في مشاعره، وأنقذه الله من الهوى والحسد: (فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ)[النساء: 135]؛ فسبب عدم الإنصاف هو الهوى والحسد، وأحيانا الكبر، فالكبر...
أمّا بعد:
فاتّقوا الله -أيها المؤمنون- لعلكم ترحمون.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أيها المؤمنون: لقد فطَر الله النفوسَ على محبّة الإنصاف والعدل، واتَّصف الحقّ -سبحانه- به، ونفَى عن نفسه الظلم: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)[النساء:40].
وقد أمَر الله بالعدل رسولَه في قوله: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)[الشورى:15].
وأمَر به جميعَ خلقه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)[النحل:90].
وفي صحيح مسلمٍ: أنَّ النبيَّ -صلى الله وعليه وسلم- قال: "إنّ المقسطين عند الله على منابرَ مِن نور عن يمين الرحمن، وكِلتا يديه يمين، الذين يعدِلون في حكمِهم وأهلِهم وما وَلوا".
الإنصاف منهج وسط بين الغلو والتفريط، وهو منهج الشريعة الذي جاء به كتابُ الله وسنة رسوله -صلى الله وعليه وسلم-.
الإنصاف والعدل يكون في الأعمال والأقوال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)[الأنعام:152]، بل ربما كان العدل في الأقوال أدق وأشق: (وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[الأعراف:33].
المنصف في قوله قريب من التقوى: (اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة:8].
والله -تعالى- يحب الإنصاف، بل هو أفضل حلية تحلى بها الرجل، كما ذكر ابن القيم -رحمه الله-.
أعلن النبي -صلى الله وعليه وسلم- إنصافه في حكمه على كلمة قالها شاعر حال كفره حين قال عليه الصلاة والسلام: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل".
أمرنا الله بالإنصاف حتى مع المخالفين من الكفار: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ)[المائدة:8] أي لا يحملنّكم بُغض قوم على ترك الإنصاف فيهم، بل استعمِلوا العدلَ والإنصافَ في كلّ أحد عدوًّا كان أو صديقًا.
من اتصف بالإنصافِ يشعُر بالأمانِ والرّضا، والقناعة والإيمان في الحديث الصحيح: "ثلاثٌ من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصافُ من نفسِك، وبَذل السلام للعالم، والإنفاقُ من الإقتار".
الإنصاف عدل وصدق واتزان في الحكم، فلا مبالغة في الإطراء والمدح حالَ الرضا، ولا إفراطَ في القدح حالَ السخط والعَداوَة، فالمنصف لا يحمل تلك العين التي قيل فيها:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** كما أن عين السخط تبدي المساوئ
وقول الله أبلغ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)[النساء:135].
أين الإنصاف اليوم في الأسرة التي يتعامل فيها الزوجان كشريكين شحيحين، يطالب أحدهما بحقوقه تامة وينسى حقوق الآخر؟!
أين الإنصاف عند ذلك الأب الذي يفرق بين الأبناء أو البنات في العطف والعطية لأسباب ترجع في الغالب لهوى النفس ورغبتها؟!
أيها المسلمون: إن الإنصاف في هذا الزمن عزيز بل نادر، يقول الإمام مالك -رحمه الله- في القرن الهجري الثاني: "ما في زماننا شيءٌ أقلّ من الإنصاف".
قال القرطبي -رحمه الله- في القرن السادس معلِّقًا على كلام مالك: "هذا في زمن مالك!؛ فكيف في زماننا اليوم الذي عمّ فيه الفساد وكثُر فيه الطغام؟!".
أين الإنصاف اليوم في الأسرة التي يتعامل فيها الزوجان كشريكين شحيحين، يطالب أحدهما بحقوقه تامة وينسى حقوق الآخر؟!
أين الإنصاف عند ذلك الأب الذي يفرق بين الأبناء أو البنات في العطف والعطية لأسباب ترجع في الغالب لهوى النفس ورغبتها؟!
أين الإنصاف مع الأقارب والأرحام إذا كان أشقى الناس بك أقاربك، تتبع عوراتهم وتنشر زلاتهم؟!، ولقد صدق من قال:
ولمْ تزَلْ قلّةُ الإنصافِ قاطعَةً *** بيْن الرّجالِ وإنْ كانُوا ذوِي رَحِم
أين الإنصاف مع الأفراد عند الحكم عليهم حين يكون مصدر الحكم على الإنسان شكله أو لونه أو جنسيته أو بلده أو قبلته، وكأن له اختياراً في مثل هذه الأشياء؟!
أين الإنصاف في المجتمعات المسلمة، إذا كان كل مجتمع ينهش في عرض المجتمع الآخر، ويلصق به أنواع التهم، فإذا ذكرت القبائل والعوائل لم تسلم عائلة ولا قبيلة عند بعضهم من الهمز واللمز والتعيير، وإذا ذكرت المناطق والبلدان والمدن والدول فلا حرج في ذكر أنواع التهم والمساوئ والأمور المخزية، تلك -والله- نفوس مريضة ذات طباع سقيمة تربت على التعصب للقبيلة والعشيرة، الحب والولاء عند أولئك المتعصبون مبني على قرب الرحم أو قرب المنطقة والدار، لا على الحق والعدل؟!
أين الإنصاف مع ولاة الأمر من القادة ومن دونهم في المسؤوليات المختلفة حين تنشر العيوب والأخطاء والزلات ويغفل عن أنواع الأعمال الصالحة والحسنات؟!
أين الإنصاف مع العلماء والدعاة حين يحجم دورهم في زوايا ضيقة أحياناً فلا يسمع منهم، ويطالبون أحيانا أخرى بكل شيء مما هو خارج عن قدرتهم واستطاعتهم؟!
أين الإنصاف مع أهل العلم والخبرة في المجالات المختلفة حين نستخف بقدر علومهم ونحاول إسقاطهم؟!
أين الإنصاف مع المسؤولين والعاملين في حقول الجمعيات الخيرية والدعوية والإغاثية بأنواعها، حين نكيل التهم والشبه جزافاً من غير بيّنة مما يؤدي أحيانا لتحجيم تلك الأعمال الخيرية وتقليلها؟!
أين الإنصاف في التصورات والرؤى المختلفة، والنظريات المطروحة المخالفة لنظرتنا، والآراء المغايرة لفكرتنا ورأينا؟!
أين الإنصاف عند أقوام جعلوا معيار الحق ما يحملونه من أفكار، فالصواب لا يتعداهم، بل هو منتج حصري لا ينطق به أحد سواهم، ولسان حالهم يقول كل من خالفنا الرأي فهو إما جاهل أو أحمق، أو مبتدع أو فاسق، أو خائن أو عميل؟!
وولله إنه لا ينقضي العجب ممن نصَّب نفسه حاكما على الناس تجده في كل ناد ومجلس وفي كل وسيلة تواصل واتصال: فلان قال كذا، وفلان فعل كذا، فذاك جاهل والآخر مبتدع والثالث عنده لوثة فكرية وانحراف، حتى وصل الحال ببعض أولئك إلى إخراج المسلمين من الملة والتكفير، ولم يسلم من الناس مع مثل هذا إلا قليل.
نسأل الله السلامة والعافية.
فقل للعيون الرمد للشمس أعين *** سواك تراها في مغيب ومطلع
وسامح نفوسا بالقشور قد ارتضت *** وليس لها للب من متطلع
يقول سفيان الثوري -رحمه الله-: "من لم يحفظ من أخبار الصالحين إلا ما بدر منهم حرم التوفيق ووقع في الغيبة وحاد عن الطريق".
يقول ابن القيم: "فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات، والحكم، وتعطلت معالمها".
وأخيرا فأين الإنصاف؟! وأين شرف النزاهة في الحكم على الآخرين عند من يحكم على المقاصد والنيات، فهذا يريد بفعله كذا وذاك يقصد بقوله كذا؟!
وهذا -لعمر الله- شيء مخجل محزن، يدل على ضعف الديانة والورع، واستحكام الهوى، دع القلوب لعلام الغيوب، واحكم على الناس بالظاهر، والله يتولى السرائر.
ألم يعلم ذاك الذي يكيل التهم جزافاً أن من قواعد الشريعة أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وأن المخطئ في العفو خيرٌ من المخطئ في العقوبة؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119].
أيها المسلمون: الإنصاف قيمة غالية وقمة عالية لا يبلغها حقاً إلا من ضبط نفسه، وتحكم في مشاعره، وأنقذه الله من الهوى والحسد: (فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ)[النساء:135]، (فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)[ص:26]، فسبب عدم الإنصاف هو الهوى والحسد وأحيانا الكبر، فالكبر كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم: "بطر الحق وغمط الناس" (أي رد الحق واستحقار الناس والاستخفاف بهم).
ومن كان متصفاً بالكبر أو الحسد فالغالب أنه تغيب عنده معايير العدل والإنصاف.
الإنصاف قيمةٌ لا تقبل التجزئة فليس بعد الإنصاف إلا الحَيف والجور، أما من ينصف مرة ويتبع الهوى مرة فذاك حاله كمثل ذاك الشاعر الذي يقول:
يومًا يمانٍ إذا لاقَيتُ ذا يمَنٍ *** وإنْ لقِيت معدّيًّا فعَدْنان
إنَّ قليل الإنصاف مذمومٌ مكروهٌ، بغيض عند الناس وعند الله؛ لأنه ترك العدل إلى الظلم: (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[آل عمران:57].
الذي يتكلم في أعراض الخلق بهواه حسداً وغيرة لن يفلح والله؛ لأن الله يقول: (إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[الأنعام:21].
أولئك الظالمون هم المطففون (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)[المطففين:2-3].
الإنصاف تحمله النفوس المؤمنة الطاهرة، وحين يكون سجية في النفس فإنه يقودها إلى محاسن الأخلاق؛ فالإنصاف قوة في الضمير، وكرم في النفس، وصدق ونزاهة، وعقل ومروءة، وحزم وشجاعة، ورقي ونضج في التفكير.
وحين يفقد الإنسان الإنصاف يفقد تلك الصفات، ويتصف بالأنانية والغضبية والمهانة، والتسلط على الآخرين، فهو (هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ)[القلم: 11 - 12] فهو ضرر وإضرار، وفساد وإفساد: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[الشعراء:183].
الإنصاف تحمله النفوس الطيبة التي تنصف نفسها، وتقر بتقصيرها، وتعترف بعجزها، تنصف نفسها فترى عيوبها، وتشتغل بها عن عيوب الناس.
إذا عم العدل والإنصاف في المجتمعات ظهر الحق، واجتمعت الكلمة، وتآلفت القلوب، فلا تمايز ولا تفاضل إلا بالحق والإيمان: (لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)[البقرة:279].
أما إذا فقد الإنصاف والعدل بين الناس فلا تسأل بعد هذا كيف يقعون في حمأة الظلم، وينبت فيهم الحقد والقطيعة والفرقة والفتن وذهاب الريح.
وأخيراً -أيها الإخوة المسلمون- فإن في ديننا مرتبة فوق العدل والإنصاف قد أمر الله بها مقترنة بالعدل؛ إنها مرتبة الإحسان: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)[النحل:90] إحسان يعني المسامحة في بعض الحقوق، وترك مسافات كافية للصلح والتنازل: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فصلت:35].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي