تنتشر في الأرض وتسوق الناس إلى أرض المحشر على ثلاثة أفواج؛ الأول: فوج راغبون طاعمون كاسون راكبون, الثاني: فوج يمشون تارة ويركبون تارة يتعقبون على البعير الواحد, اثنان على البعير, وثلاثة على البعير, وعشرة على...
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أما بعد: بعدما تكلمنا في الخطب الماضية عن أشراط الساعة الكبرى وعلاماتها, واليوم نختم هذه السلسلة بمشيئة الله تعالى بالحديث عن ظهور الدابة والنار التي تحشر الناس إلى أرض المحشر.
وقد ثبت خروج الدابة آية من آيات الله -تعالى- وحججه على خلقه نصا في كتاب الله المبين، قال -تعالى-: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ)[النمل:82]؛ فقد ذكر الله في هذه الآية خروج الدابة ويكون ذلك عند فساد الناس وتركهم لأوامر ربهم, وتبديلهم الدين الحق, عند ذلك يقع عليهم القول؛ أي: يجب عليهم الوعيد؛ لتماديهم في العصيان والفسوق والطغيان, وإعراضهم عن آيات الله وتركهم تدبرها, والنزول على حكمها, وانتهائهم في المعاصي إلى ما لا ينجح معه فيهم موعظة, ولا يصرفهم عن غيِّهم تذكرة, فإذا صاروا كذلك أخرج الله لهم دابةً من الأرض تعقل وتنطق تكلمهم, والدواب في العادة لا تعقل ولا تنطق؛ ليعلم الناس أن ذلك آية من عند الله -تعالى-.
وقد دلت الأحاديث الصحيحة على خروج الدابة, وأنها تخرج في آخر الزمان قبل طلوع الشمس من مغربها أو بعدها, أيتهما خرجت فالثانية على إثرها؛ فخروج الدابة قريب من طلوع الشمس من مغربها, ففي الحديث الذي رواه مسلم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً؛ طلوع الشمس من مغربها, والدجال, ودابة الأرض"، وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنه قال: حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثاً لم أنسه بعد، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول الآيات خروجاً طلوعُ الشمس من مغربها, وخروجُ الدابة على الناس ضحى, وأَيُّهُمَا ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً"؛ فوقت خروج الدابة ضحى بعد طلوع الشمس, وينتهي وقت الضحى قبيل الظهر.
وقد اختلفت الأقوال في تعيين نوع هذه الدابة؛ فمنهم من قال: إنها فصيل ناقة صالح, ومنهم من قال: إنها الجساسة التي كانت تتحسس الأخبار للدجال, ومنهم من قال: إنها الثعبان المشرف على جدار الكعبة, الذي اقتلعته العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة, ومن تأويلات المدرسة العصرانية العقلانية: أنها إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم، ومنهم من اعتبر أن المراد بها تلك الجراثيم الخطيرة التي تفتك بالإنسان وجسمه وصحته.
وكل هذه الأقوال لا دليل صحيح عليها من كتاب أو سنة ومخالفة لأقوال المفسرين, الذين ذكروا أن هذه الدابة مخالفة لما يعتاده البشر فهي من خوارق العادات؛ فالذي يجب الإيمان به أن الله -تعالى- سيخرج للناس آخر الزمان دابة من الأرض تكلمهم, ويكون تكليمها لهم دالٌّ على أنهم يستحقون للوعيد بتكذيبهم بآيات الله, قال العلامة أحمد شاكر -رحمه الله-: "والآية صريحة في القول العربي أنها دابة ومعنى الدابة في لغة العرب واضح لا يحتاج إلى تأويل".
أما مكان خروجها؛ فقد اختلف العلماء في مكان خروج الدابة إلى عدة أقوال؛ فقيل: إنها تخرج في موقع قرب مكة, وقيل: تخرج من صخرة بأجياد, وقيل: تخرج من جبل الصفا، ينصدع وتخرج، وقال بعضهم: من بعض البوادي، ومن بعض القرى، ومن أشرف المساجد، وليس هناك ثمة دليل صحيح نقول به في هذا؛ فما ثبت شيء في مكان خروجها، ولا في صفتها, لكن الثابت عندنا أنها دآبة حقيقة تتكلم وتختم على الناس, أما تفصيلها وبيان صفاتها فلا نعلم فيها شيئاً ثابتاً, إنما هي أقوال وروايات فيها ضعف وأخبار عن بعض السلف وعن بعض أهل الكتاب، ولكن ليس عليها دليل بصفاتها وتمييز طولها وقوائمها وكبر جسمها، أما خروجها في آخر الزمان فثابت.
ولهذه الدابة أعمال ومهام تقوم بها؛ فمن مهامها: أنها تخطم أنف الكافر فيكون ذلك علامة على كفره, وتجلو وجه المؤمن ويكون ذلك دليل على إيمانه, وتكلم الناس؛ كما جاءت به الأحاديث أنها تسِمُ الناس؛ المؤمنَ والكافر، حتى إنه جاء في بعض الروايات: "فتلقى المؤمن فتسِمه في وجهه"، ويشترك الناس في الأقوال، ويصطحبون في الأمصار، يعرف المؤمن الكافر، وبالعكس.
وقد اختلفت أقوال المفسرين في معنى هذا التكليم الوارد في قوله -تعالى-: (تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ)[النمل: 82]؛ فمنهم من قال: تخاطبهم مخاطبةً قائلةً لهم: أن الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون, بدليل قراءة أُبي بن كعب لهذه الآية (تنبئهم), ومنهم من قال: تجرَحُهم يعني تكتب على جبين الكافر: (كافر)، وعلى جبين المؤمن: (مؤمن), بدليل قراءة ابن عباس -رضي الله عنهما-: (تكْلَمُهُمْ), وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "كلاً تفعل" أي: تصنع كلا الأمرين؛ المخاطبة والجرح, فهي تخاطب الناس جميعهم وتسم أنف الكافر أي تجرحه. والله أعلم.
وقال ابن كثير في الفتن والملاحم: "خروج الدابة على شكل غير مألوف, ومخاطبتها للناس ووسمها إياهم بالكفر أمر خارج عن مجرى العادات, وهو أول الآيات الأرضية، كما أن طلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها أول الآيات السماوية".
وهذه الآية البينة الظاهرة لا تنفع من يريد التوبة حيث إن بابها قد أغلق بطلوع الشمس من مغربها.
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
عباد الله: أما آخر العظائم والأهوال فهي النار العظيمة التي تسوق الناس إلى أرض المحشر, تخرج هذه النار من اليمن من قعرة عدن أو من بحر حضرموت, وهو ما يسمى الآن بحر العرب.
فعن حديث حذيفة بن أسيد في ذكر أشراط الساعة الكبرى قال -صلى الله عليه وسلم-: "وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم"(رواه مسلم), وفي رواية له: "ونار تخرج من قعرة عدن ترحل الناس", وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ستخرج نار من حضرموت أو من بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس"(رواه أحمد وصححه الألباني).
تنتشر في الأرض وتسوق الناس إلى أرض المحشر على ثلاثة أفواج؛ الأول: فوج راغبون طاعمون كاسون راكبون, الثاني: فوج يمشون تارة ويركبون تارة يتعقبون على البعير الواحد, اثنان على البعير, وثلاثة على البعير, وعشرة على البعير, يتعقبونه وذلك من قلة الظهر يومئذ, الثالث: تحشرهم النار فتحيط بهم من ورائهم وتسوقهم من كل جانب إلى أرض المحشر, ومن تخلَّف منهم أكلته.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين, وراهبين, واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير, ويحشر بقيتهم النار, تقيل معهم حيث قالوا, وتبيت معهم حيث باتوا, وتصبح معهم حيث أصبحوا, وتمسي معهم حيث أمسوا"(رواه البخاري), وقال -عليه الصلاة والسلام-: "تبعث نار على أهل المشرق فتحشرهم إلى المغرب, تبيت معهم حيث باتوا, وتقيل معهم حيث قالوا, يكون لها ما سقط منهم وتخلَّفَ, وتسوقهم سوق الجمل الكسير"(رواه الطبراني والحاكم وصححه ووافقه الذهبي).
وكون النار تخرج من قعر عدن لا ينافي حشرها الناس من المشرق إلى المغرب؛ وذلك أن ابتداء خروجها من قعر عدن، فإذا خرجت انتشرت في الأرض كلها, وعندما تنتشر يكون حشرها لأهل المشرق أولاً.
فالنار التي تسوق الناس إلى محشرهم هي آخر العلامات من عمر الدنيا، وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة، وهذا الحشر ليس المقصود به الحشر من القبور، ولكنه حشر يكون في الدنيا إلى أرض المحشر بالشام وقبل النفخ في الصور كما قال به جمهور العلماء, وقد ذهب بعض من أهل العلم إلى أن حشر النار المذكور في الآخرة، ولكن الحق الذي عليه الجمهور أن حشر النار هذا يكون في الدنيا وقبيل النفخ في الصور, قال النووي -رحمه الله-: "وهذا الحشر في آخر الدنيا قبيل القيامة وقبيل النفخ في الصور, بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "تحشر بقيتهم النار تبيت معهم وتقيل وتصبح".
وتكون جهة الحشر إلى أرض الشام, قال -صلى الله عليه وسلم-: "ههنا تحشرون, ههنا تحشرون, ههنا تحشرون, ثلاثاً, ركباناً ومشاةً وعلى وجوهكم", قال ابن أبي بكير: فأشار بيده إلى الشام فقال: "إلى ههنا تحشرون"(رواه أحمد, قال الوادعي في الصحيح المسند: صحيح).
والسبب في كون الشام هي أرض المحشر أن الأمن والإيمان حين تقع الفتن في آخر الزمان يكون بالشام, قال -صلى الله عليه وسلم-: "بينا أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي, فظننت أنه مذهوب به؛ فأتبعته بصري فعُمد به إلى الشام, ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام"(رواه أحمد, وصححه ابن حجر).
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنوداً مجندة؛ جند بالشام, وجند باليمن, وجند بالعراق", قال ابن حوالة: خِرْ لي يا رسول الله إن أدركت ذلك, فقال: "عليك بالشام؛ فإنها خيرة الله من أرضه, يجتبي إليها خيرته من عباده, فأما إذا أبيتم فعليكم بيمنكم, واسقوا من غدركم؛ فإن الله توكل لي بالشام وأهله"(رواه أبو داوود وحسنه ابن حجر, وصححه الألباني).
قال ابن حجر: "وأما حشر الآخرة فقد جاء في الأحاديث أن الناس يحشرون مؤمنهم وكافرهم حفاةً عراةً غرلاً بُهْمَاً"؛ ففي الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم محشورون حفاةً عراةً غرلاً, وتلا قوله -تعالى-: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)[الأنبياء: 104], وأن أول الخلق يكسى: إبراهيم -عليه السلام-"(رواه البخاري)؛ فدل هذا على أن هذا الحشر يكون في الدنيا قبل يوم القيامة".
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي