كم من المجتمعات المسلمة من طغى عليهم حب متاع الدنيا، وانشغلوا بكثير من المباح؛ حتى قادهم الشيطان للاستجابة لداعي الهوى، والنفس الأمارة بالسوء والفحشاء؛ حتى أدى بهم ذلك إلى...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها المؤمنون: ما من سبيل ولا طريق فيه إغواء بني آدم وصرفه عن الطريق المستقيم إلا اتخذه الشيطان طريقاً ومدخلا، بالترغيب والترهيب والتخويف والتزيين، ولقد توعّد آدمَ وذريته بالإغواء والتضليل عبر الوسوسة وتزيين الشرور فقال: (لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه)[النساء118-119].
وإن من مداخل الشيطان على المسلم: اشتغاله بالإكثار من بالمباحات، قال ابن القيم: "فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة -أي الشرك والبدع والكبائر وصغائر الذنوب- نقله إلى المرتبة الخامسة وهي إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب؛ بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها".
وقد حذر الحق -تبارك وتعالى- من مباحات الدنيا ومتاعها حتى لا تكون سبباً للغفلة والضياع فقال: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)[آل عمران: 14].
العمل الصالح هو ما يبقى لصاحبه عند الله, قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)[الكهف: 46].
وقد حذر المولى سبجانه وتعالى من الانشغال بالدنيا عن أمر الآخرة، حتى وإن كان هذا الإنشغال في أمر المباحات لأنها سبيل وطريق لترك الواجبات والتقصير في أدائها قال -عز وجل-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الحديد: 20].
ولنضرب مثالا على ذلك: الرياضة وكرة القدم مباحة إذا خلت من محذور شرعي، فينشغل فيها الإنسان، وتجد مائة ألف متفرج في الملعب من صلاة العصر إلى المغرب إلى العشاء! أين الصلاة؟! لا صلاة، وبعدها يدور نقاش وتحليل للمباريات ساعات وساعات إلى اليوم الثاني، وهناك من ينشغل بالبيع والشراء والأرباح والبورصة وأسعار العملات وهذا مباح شرعاً بضوابطه؛ لكن شغله ذلك عن طاعة ربه والقيام بواجباته تجاه اسرته وأرحامه، وغير ذلك هناك الكثير والكثير؛ فكل مباح شغل عن واجب فهو مدخل من مداخل الشيطان.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش"(البخاري).
ولما نظر الإمام الحسن البصري -رحمه الله- إلى بعض أهل زمانه ورأى تكالبهم على الدنيا، وغفلتهم عن الآخرة قال: "أمؤمنون بيوم الحساب هؤلاء؟! كلا، كذبوا ومالك يوم الدين".
عباد الله: إن الكثير من الأفراد قد طغى عليهم الاشتغال بالمباحات حتى أنساهم ذلك القيام بالواجبات والمسابقة في فعل الخيرات, وهذه طامة كبرى , ومفسدة كبرى, قاصمة للظهر, محبطة للعمل, مؤذنة بغضب الله وسخطه , قال تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً)[مريم:59].
وأعظم من ذلك: أن الاشتغال بالمباحات قد يصرف العبد عن التوبة والرجوع إلى الله والتسويف في ذلك, قال -سبحانه وتعالى-: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر: 54 - 58]
يقول ابن رجب - رحمه الله - في "لطائف المعارف" (ص 153):
"اعلم أن الإنسان ما دام يأمل الحياة، فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذَّاتها وشهواتها من المعاصي.. وغيرها، ويرجيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت وأيس من الحياة، أفاق من سكرته لشهوات الدنيا، فندم حينئذٍ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحًا، فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت.
كَم لِلحَوادِثِ مِن صُروفِ عَجائِبِ *** وَنَوائِبٍ مَوصولَةٍ بِنَوائِبِ
تَبغي مِنَ الدُنيا الكَثيرَ وَإِنَّما *** يَكفيكَ مِنها مِثلُ زادِ الراكِبِ
لا يُعجِبَنَّكَ ما تَرى فَكَأَنَهُ *** قَد زالَ عَنكَ زَوالَ أَمسِ الذاهِبِ
ومن هذه المفاسد: أن يزين الشيطان المباحات حتى تكون الهم الأكبر عند صاحبها فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة"(صححه الألباني).
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه ...
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أيها المؤمنون: أما الاشتغال بالأعمال المفضولة عن الفاضلة فهذا أيضاً مدخل من مداخل الشيطان على المسلم، قال ابن القيم: "فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة وكان حافظا لوقته شحيحا به يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها وما يقابلها من النعيم والعذاب نقله إلى المرتبة السادسة وهو أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل، فيأمره بفعل الخير المفضول ويحضه عليه ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه، وقلّ من يتنبه لهذا من الناس فإنه إذا رأى فيه داعياً قوياً ومحركاً إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة وقربة فإنه لا يكاد يقول إن هذا الداعي من الشيطان فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير، فيقول هذا الداعي من الله، وهو معذور ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير؛ إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر؛ وإما ليفوت بها خيراً أعظم من تلك السبعين باباً وأجل وأفضل.
وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد يكون سببه تجريد متابعة الرسول، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله، وأحبها إليه وأرضاها له، وأنفعها للعبد وأعمها؛ نصيحة لله تعالى ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصتهم وعامتهم، ولا يعرف هذا إلا من كان من ورثة الرسول ونوابه في الأمة وخلفائه في الأرض وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك؛ فلا يخطر بقلوبهم والله -تعالى- يمن بفضله على من يشاء من عباده" ا.هـ.
وقد حذر الله في كتابه أن ينشغل العبد بالأمور المفضولة عن الفاضلة فقال الله -تعالى-: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[ التوبة:19]؛ أجعلتم -أيها القوم- ما تقومون به من سقي الحجيج وعِمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله؟ لا تتساوى حال المؤمنين وحال الكافرين عند الله؛ لأن الله لا يقبل عملا بغير الإيمان، والله -سبحانه- لا يوفق لأعمال الخير القوم الظالمين لأنفسهم بالكفر.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صل الله عليه وسلم- "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ"(صحيح ابن حبان)
فمثلاً: أن يقوم الرجل أو المرأة طوال الليل يتعبدون لله ويسهرون لأجل ذلك ويعانون المشقة والتعب وقبل الفجر ينامون عن صلاة الفريضة الواجبة؛ فاشتغلوا بالمفضول عن الفاضل.
وإجابة المؤذن عند سماعه، وإن كان فضل القرآن على كل كلام البشر كفضل الله -تعالى- على خلقه، لكن لكل مقام مقال؛ فمتى فات مقاله فيه وعدل عنه إلى غيره اختلت الحكمة وفقدت المصلحة المطلوبة منه.
وقد سئل بعض العلماء أيهما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟ فقال إذا كان الثوب نقياً فالبخور وماء الورد أنفع له -يعني التسبيح-، وإن كان دنساً فالصابون والماء الحار أنفع له -ويقصد بذلك الاستغفار-.
عباد الله: وهناك من يهتم ببعض النوافل أكثر من اهتمامهم بالفرائض والواجبات؛ فيكثروا من الأذكار والتسابيح والأوراد، ولم يولوا هذا الاهتمام لكثير من الفرائض وخصوصاً الاجتماعية مثل: بر الوالدين، صلة الأرحام، الإحسان بالجار، الرحمة بالضعفاء، رعاية اليتامى والمساكين، ولاشك أن هذا من تزيين إبليس اللعين؛ فَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: "هِيَ فِي النَّارِ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَصَلاَتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ، وَلاَ تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: "هِيَ فِي الْجَنَّةِ"(رواه احمد) .
أيها المؤمنون: نحن على صراع مستمر مع الشيطان وجنوده من الأنس والجن، ولابد من معرفة طرق هذا الصراع وأساليبه، ويجب علينا أن نتسلح بالإيمان والعلم النافع، وأن نسأل أهل الفقه والصلاح؛ ليبصرونا بديننا.
وصلوا وسلموا على خير البرية (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي