فحريٌ بكل أب يحب مصلحته وحب مصلحة ابنه، ويريد الدار الآخرة؛ أن يسارع إلى تحفيظ ابنه كتاب الله -عز وجل- وهو في صغره، هكذا كان سلف هذه الأمة مع أولادهم، فإن حفظ كتاب الله هو أول مفاتيح العلم، فلو قرأت سيرة كل علماء الأمة السابقين والمعاصرين لرأيتهم قد حفظوا كتاب الله عز وجل وهم صغار السن...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
فاتقوا الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلعمران:102]؛ فاتقوا الله حق تقواه.
من منّا يجهل عظمة القرآن، وفضل القرآن، وثواب قراءته وحفظه؟! كتابٌ أنزله الله علينا فيه عزنا ونجاتنا، ومناط سعادتنا. فيه نبأ ما قبلنا, وخبر ما بعدنا, وحكم ما بيننا. هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.
كتاب الله، جعل الله ثواب كل حرف يُقرأ منه عشر حسنات، "لاَ أقول: (ألم) حَرفٌ، وَلكِنْ ألِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ"(رواه الترمذي)، ثلاثون حسنة تكسبها إذا قلت: (ألم)، وملايين الحسنات إذا قرأت كل القرآن، وأعلى درجات الجنان ترقاها إذا حفظت القرآن، كان ذلكم الموجز، وإليكم يا سادة التفصيل والبيان.
لقد رغب الإسلام بملازمة القرآن حفظا وتعلما وتعليما, حتى قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"(رواه البخاري)، وقال-عليه الصلاة والسلام-: "اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ"(رواه مسلم), وقال أيضا: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوما ويضع آخرين"(رواه مسلم)؛ فهل أنت ممن رفعه الله به أم ممن وضعه؟!.
إن أعظم منحة يمنحها الله للعبد أن يحفظ كتاب الله -عز وجل-, ويقوم به آناء الليل وأطراف النهار, ولذلك قال: "لاَ حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ القُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ"(متفق عليه).
هل فكرت يوما ما أن تحفظ كتاب الله -عز وجل-؟ وإذا استصعبت هذه الفكرة؛ فهل فكرت أن تحث أولادك الصغار على حفظه؟.
إن كثيرا من الأغنياء يحرصون على إيقاف بعض عقاراتهم لتدر لهم الحسنات بعد مماتهم، إلا أن إصلاح ابنك وتحفيظه كتاب الله لهو خير وقف توقفه لنفسك بعد مماتك؛ فإن هذا الابن الذي سيحفظ كتاب الله ما من حرف سيقرؤه, وما من حرف سيردده من كلام الله -عز وجل-؛ إلا وسيكتب لك به عشر حسنات، وكل ختمة سيختمها ستكتب لك بها ملايين الحسنات.
وإذا حفظ ابنك كتاب الله أصبح من أصحاب القرآن، وسيرقى أعلى درجات الجنان؛ فقد روى عبد بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا"(رواه أبو داود والترمذي), وفي حديث آخر: "يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ اقْرَأْ وَاصْعَدْ، فَيَقْرَأُ وَيَصْعَدُ بِكُلِّ آيَةٍ دَرَجَةً حَتَّى يَقْرَأَ آخِرَ شَيْءٍ مَعَهُ"(رواه الإمام أحمد), وجاء عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "إن عدد درج الجنة بعدد آي القرآن؛ فمن دخل الجنة ممن قرأ القرآن -أي: ممن حفظ القرآن- فليس فوقه أحد".
وليس هذا فحسب، فإذا حفظ الابن القرآن ورقى به أعلى درجات الجنان؛ فإن الله -تعالى- سيكرمه بأن يرفع والديه إلى درجته إن كانا أقل منه، هكذا قال ربنا -تبارك وتعالى- في سورة الطور حيث قال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)[الطور: 21].
قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته, وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه، ثم قرأ قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ).
فحريٌ بكل أب يحب مصلحته وحب مصلحة ابنه، ويريد الدار الآخرة؛ أن يسارع إلى تحفيظ ابنه كتاب الله -عز وجل- وهو في صغره، هكذا كان سلف هذه الأمة مع أولادهم؛ فإن حفظ كتاب الله هو أول مفاتيح العلم، فلو قرأت سيرة كل علماء الأمة السابقين والمعاصرين لرأيتهم قد حفظوا كتاب الله -عز وجل- وهم صغار السن، وأكثرهم حفظه قبل البلوغ.
قال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: "حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر", وقال الشيخ ياسين المراكشي -وهو يحكي قصة عن حياة الإمام النووي -رحمه الله تعالى- وهو في طفولته- فقال: "رأيت الشيخ وهو ابن عشر سنين بنوى، والصبيان يُكرِهونه على اللعب معهم, وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي محبته، وكان قد جعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل في البيع والشراء عن القرآن، فأتيت معلمه فوصيت به وقلت له: إنه يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجمٌ أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الحُلم" ا.هـ.
إن الآباء اليوم يحرصون على تطعيم أطفالهم ضد الأمراض المختلفة، وتراهم يلتزمون بجدول التطعيمات التي تأمر بها وزارة الصحة وهذا شيء حسن، ولكن لنعلم أن حث أبنائنا على حفظ كتاب الله هو أفضل تطعيم يقي أبناءنا ويصونهم من الأمراض القلبية والفكرية, والانحرافات السلوكية التي تزداد يوما بعد يوم، وتُسعّرها وسائل الإعلام المختلفة.
فرغبوا أولادكم ونشئوهم على تلاوة القرآن وحفظه؛ فإنه يُطّهر أخلاقهم ويزكي نفوسهم ويُقوم ألسنتهم ويشفي صدورهم ويحصن أفكارهم، ويجعلهم من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وحفظ القرآن في الصغر أولى وأيسر من حفظه في الكبر وأشد علوقا بالذاكرة؛ لأن التعليم في الصغر كالنقش في الحجر.
إن دخول ابنك في حلقة من حلقات القرآن الكريم يصونه من الانحراف, ويشغل وقت فراغه بما ينفعه, وذلك خير من تركه معتكفا أمام شاشة التلفاز على أفلام الكرتون ونحوها، أو تركه يتسكع في الشوارع؛ فكثير من أولاد اليوم هجروا القرآن وباتوا يعرفون الأغاني القصيرة والطويلة ويحفظونها عن ظهر قلب.
إن أعظم خدمة تقدمها لابنك, وأعظم خصلة بر تغرسها فيه أن تحفظه كتاب الله -عز وجل- وهو في صغره، خذ بيده إلى حلقة من حلقات القرآن الكريم, فإن لم تجد حلقة في مسجد حيّك فاطلب من جمعية تحفيظ القرآن إنشاء حلقة؛ فهناك كثير من أهل الخير دعموا ولا يزالون يدعمون هذه الجمعية المباركة، وعندها من الإمكانات ما يؤهلها لفتح العديد من حلقات القرآن الكريم، وإذا لم يتيسر ذلك فابحث عن معلم للقرآن يأتي بيتك، ويُحفِّظُ ابنك.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البيان والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه كان للأوابين غفورا.
الحمد لله الكريم المنان، الذي أكرمنا بالقرآن، وجعله ربيعا لقلوب أهل البصائر والعرفان، يسره للذكر حتى استظهره صغار الولدان، وضمن حفظه فهو محفوظ من الزيادة والتبديل والنقصان، أحمده على ذلك وعلى نعمة الإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ننال بها الغفران، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله حث على تعلم القرآن وتعليمه وحفظه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واهتموا -رحمكم الله- بكتاب الله؛ فإن الله -تعالى- يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر: 29-30].
أيها الأحبة: ما المطلوب منا في ختام هذه الخطبة؟
إن المطلوب من كل أب أن يخرج من هذه الخطبة وهو عازم على حث أولاده على حفظ كتاب الله, وأن لا يثنيه رفضهم وتمردهم عن ذلك، حبب إليهم حلقة القرآن بتقديم الجوائز والحوافز, وبإبعادهم عن قرناء السوء الذين يثبطونهم عن ذلك؛ فهم لا يزالون لا يعرفون مصلحة أنفسهم؛ كرفضهم شرب الدواء عند مرضهم، ولكنهم سيشكرون سعيك إذا كبروا, وقد رسخ كتاب الله في ذاكرتهم.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يصلح قلوبنا ويزيل عيوبنا، اللهم تولنا بالحسنى وزينا بالتقوى واجمع لنا خير الآخرة والأولى، وارزقنا طاعتك ما أبقيتنا، اللهم يسرنا لليسرى وجنبنا العسرى.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي