لقد انتشرت في زماننا صفة الكذب في مجالس الناس ومنتدياتهم، وفي مراسلاتهم ومكاتباتهم، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، حتى أصبحت هذه الصفة -للأسف- بضاعة لبعض الناس لا يجيد غيرها، ذلكم أنه تعود الكذب، وكذب ثم كذب، وتحرى الكذب، حتى...
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].
أيها المسلمون: عمل مرذول، وصفة مقيتة، وخصلة من خصال أهل النفاق، عمل يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، هو نقص في الشخصية السوية المعتدلة، تلكم الخصلة جاءت نصوص القرآن والسنة بالتحذير الشديد منها، في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا"
أيها الإخوة: لقد انتشرت في زماننا صفة الكذب في مجالس الناس ومنتدياتهم، وفي مراسلاتهم ومكاتباتهم، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، حتى أصبحت هذه الصفة -للأسف- بضاعة لبعض الناس لا يجيد غيرها، ذلكم أنه تعود الكذب، وكذب ثم كذب، وتحرى الكذب، حتى كتب كذاباً عند الله، والمسكين يظن أن مراوغته وكذبه ذكاء ودهاء، وربما ظن أن الكذب مهارة وقدرة يكمل به شخصيته المهزومة.
إنه الكذاب الذي يقلب الحقائق، وربما زين القبيح وقبح الحسن.
إنه الكذاب الذي ضعفت نفسه وهانت عليه، وأصبح بين الناس منزوع الثقة، مهين وضيع حقير.
وقد قيل: "الكذب جماع كل شر وأصل كل ذم؛ لسوء عواقبه، وخبث نتائجه"، وقيل: من قلَّ صدقه قلَّ صديقه.
وقيل: "اثنان لا يجتمعان أبدًا: الكذبُ والمروءةُ".
وقال مالك بن دينار: "الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يخرج أحدهما صاحبه".
الكذاب يعيش قلقاً نفسياً ووهماً واضطراباً، وشكاً وريبة، في الحديث الصحيح: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ".
وقد أشارت بعض التقارير الطبية: أن أحد مسببات القلق والضغوط النفسية هو الكذب، وباعثُه على ذلك الخوف الدائم من أن يفتضح أمره، ويظل الباعث في داخله ليستأصل من نفسه الطمأنينة والسكينة.
أيها المسلمون: أعظم الكذب: الكذب على الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- كحال ذلك الذي يفتي بغير علم ويتقول على الله ورسوله الكذب، أو ينقل الفتاوى بالخرص والتخمين والتلفيق، فيضل الناس مع ضلاله قال الله -تعالى-: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ)[النحل: 116]، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
ومن أعظم الكذب أيضاً: الكذب الذي يترتب عليه أخذ حق أو أكل مال بالباطل كالكذب من التاجر عند البيع وكالكذب في المطالبات والخصومات، في الصحيحين: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما".
وقد عد النبي -صلى الله عليه وسلم- من الكبائر شهادة الزور.
ومن أعظم الكذب: الكذب الذي ينتشر بين الناس ويؤثر عليهم كالكذب في وسائل الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وعن هذا النوع من الكذب حدث ولا كرامة، قنوات ومواقع تجارتها الكذب وقلب الحقائق وإشاعة الرذائل، واتهام الأبرياء، وتبرئة المجرمين، إعلام مفضوح، يتلون ويتقلب، يقتات على الإثارة ونشر الشائعات، إعلام يمثل وجهاً قبيحاً وعاراً على الأمة المسلمة؛ فويل لهؤلاء من قول الله: (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)[الجاثية: 7].
أيها الإخوة: ومما يتساهل فيه الناس: الكذب عند المزاح لإضحاك الآخرين، وربما قصد إيناسهم وإدخال السرور عليهم، لكنه عمل ممنوع في الشريعة؛ لأنه يغري النفس بالكذب ويعودها على سفاسف الأمور، جاء في الحديث الصحيح: "ويلٌ للذي يُحدِثُ بالحديثِ ليضحِكَ به القومَ فيكذِبُ، ويلٌ له، ويل له".
لا يكذب المرء إلا من مهانته *** أو فعله السـوء أو من قلة الأدب
لبعض جيفة كلب خير رائحة *** من كذبة المرء في جد وفي لعب
ومما يتساهل فيه بعض الناس: الكذب على الأولاد، فيكذب الوالدان على الأولاد لأي سبب، إما كذب للتخلص من الولد أو لتخويفه، وهذا في الحقيقة يغري الولد بالكذب ويعوده عليه حتى ينشأ عليه.
وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عوده أبوه
عن عبد الله بن عامر أنه قال: "دعتني أمي يوما ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك؟ فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما أردت أن تعطيه؟ قالت: أعطيه تمرًا، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما إنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة".
ومما يتساهل فيه بعض الناس: نقلَ الكذب، فينقل عن فلان وفلان وهو يعلم أنه كذب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من حَدَّثَ حديثًا وهُو يرى أنَّه كَذِب فهو أحدُ الكاذبينَ" (رواه مسلم).
ومن هذا القبيل أيضاً: كثرة الثرثرة ونشر الشائعات فيقول ويحدِّثُ وينشر كل ما يسمع أو يقرأ، دون تعقل أو تثبت، في الحديث: "كفى بالمرءِ كذِبًا أن يحدِّثَ بكلِّ ما سمِع" (رواه مسلم).
وغالب من يتصف بهذا الوصف مطيته وعذره الناس زعموا أو يقولون كذا أو قرأت أو سمعت، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "بئس مَطِيَّةُ الرجل زعموا".
ويعظم ضرر الإشاعات حين تتعلق بالآخرين في أعراضهم تشهيراً بالأفراد أو الأسر، وأعظم منها تلك الشائعات التي تكون في أوقات الأزمات والتي تتعلق بأمن المجتمع واستقراره، فينشر بتلك الشائعات الذعر والخوف وينشر الأراجيف ويزعزع الأمن، وقد جاء التحذير من الكذب بهذه الصورة في صحيح البخاري: "وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ".
(وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)[النساء: 83].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي