قِصَرُ مدةِ الدنيا بقِصَر عُمرِ الإنسان فيها، وعمر الفرد يبدأ بساعات، ويتبع الساعات أيام، وبعد الأيام الشهور، وبعد الشهور العام، وبعد العام أعوام، ثم ينقضي عمر الإنسان على التمام، ولا يدري ماذا يجري بعد موته من الأمور العظام، وهل عمر مَنْ بعدك أيها الإنسان عمر لكَ؟...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله العزيز الغفار، يكوِّر الليلَ على النهار، ويكوِّر النهارَ على الليل، وكل شيء عنده بمقدار، أحمد ربي وأشكره على نِعَمِه وفضله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد القهَّار، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبده ورسوله المصطفي المختار، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الأخيار.
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه؛ فإن طاعته أقوم وأقوى، وتزودوا لآخرتكم فإن خير الزاد التقوى.
عباد الله: تفكروا في مدة الدنيا القصيرة، وزينتها الحقيرة، وتقلُّب أحوالها الكبيرة، تدركوا قدرها، وتعلموا سرها، فمن وثق بها فهو مغرور، ومن ركن إليها فهو مثبور؛ فقِصَرُ مدةِ الدنيا بقِصَر عُمرِ الإنسان فيها، وعمر الفرد يبدأ بساعات، ويتبع الساعات أيام، وبعد الأيام الشهور، وبعد الشهور العام، وبعد العام أعوام، ثم ينقضي عمر الإنسان على التمام، ولا يدري ماذا يجري بعد موته من الأمور العظام، وهل عمر مَنْ بعدك أيها الإنسان عمر لكَ؟ فعمر المخلوق لحظة في عمر الأجيال، بل الدنيا متاع، ومعنى المتاع: ما يلتذ به ويتمتع به في وقته، ثم ينتهي في ذلك الوقت، قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)[غَافِرٍ: 39]، وقال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا)[الْكَهْفِ: 45]، وقال سبحانه: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)[الشُّعَرَاءِ: 205-207].
وأخبرنا ربُّنا -جل وعلا- عن قِصَر لُبْثِ الناسِ في قبورهم إلى بعثهم للحساب؛ بأن هذه المدة الطويلة كساعة، قال الله -تعالى-: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ)[يُونُسَ: 45]، وقال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)[الْأَحْقَافِ: 35]، وقال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ)[الرُّومِ: 55]، فما عمرك -أيها الإنسان- في هذه الساعة التي أخبرنا الله -تعالى- عنها أنها كمدة الدنيا عند قيام الساعة، فهذه الساعة التي هي كمدة الدنيا كقطرة من محيط الزمن السرمدي الأبدي، فطوبى لمن عمل في عمره القصير الصالحات، وهجر المحرمات، وحذر اتباع الهوى وطُرُق الغي والضلالات، ففاز في حياته بالخيرات، وفاز بعد موته برضوان الله في نعيم الجنات، وويل لمن اتبع الشهوات، وأضاع الصلوات والواجبات، واقترف الموبقات فسقط في طبقات جهنم فصار طعامه الزقوم، وشرابه الصديد والحميم.
يا من أطغته صحته فعصى، يا من أفسده فراغه فلهى، يا من فتنه ماله فتردى، ويا من اتبع هواه فسقط وهوى، يا من غرَّه شبابُه فنسي البِلَى، يا من استعان بنعم الله عليه فتمرد وطغى، ألم تعلم بأن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه شديد العقاب، أما توقن بالموت وما بعده من الحساب؟!
يا من جرَّأه على ربه فسحة الأجل، وبلوغ الأمل حتى اختطفه الموت فأنى له أن يرجع إلى الدنيا ليصلح العمل؟!
أما آن لك -أيها الغافل- المُعرِض العاصي أن تتوب إلى ربك وتُنيب؟! أما آن لكَ أن تستيقظ من هذه الغفلة المطبقة وتستجيب؟!
ألا تعتبر بالقرون القوية الخالية، ومساكنهم الخاوية بعد غرسهم أنواع الأشجار، وإجرائهم الأنهار وبنائهم الأمصار؟! كيف صاروا بعد عين أثرا، وبعد عز خبرا؟! وكيف نُقلوا من القصور إلى القبور فأصبحوا مرتَهنين بالأعمال، فأصحاب الحسنات هم الفائزون، وأصحاب السيئات هم الخاسرون النادمون، وهل للموت من رادّ؟! وهل غير القرآن من هاد؟! إن في إقبال يوم وعام، وإدبار يوم وعام لَعِبَرًا، فيوم تخلفه لا يعود، ويوم تستقبله حتى ينتهي الأجل، وينقطع الأمل، قال الله -تعالى-: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)[النَّجْمِ: 39-42]، فاعمل لدار الخلد التي لا يفنى نعيمها ولا ينقص، بل هو بمزيد، لا يعتري شباب أهلها الهرم، ولا يخافون السقم، قال الله -تعالى- فيها: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)[ق: 34-35]، وقال تعالى: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ)[الزُّخْرُفِ: 70].
واتقوا النار التي لا يفتر عن أهلها العذاب بامتثال أمر الله الأكيد، واتقاء غضبه الشديد، قال الله -تعالى-: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)[الْحَجِّ: 19-22].
فاعملوا -عباد الله- لهذه الجنة العالية، واحذروا الذنوبَ التي تُلقي بصاحبها في النار الهاوية، واعلموا أنه ليس بين الإنسان وبين الجنة أو النار إلا الموت، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بادِروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا إلى فقر مُنْسٍ، أو غنى مطغٍ أو مرض مفسد، أو هرم مفند، أو موت مجهز، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر" (رواه الترمذي)، وفي الحديث: "أكثِروا ذِكْر هادمِ اللذات؛ الموت، فإنه ما ذكر في كثير إلا قلله، ولا في قليل إلا كثَّره"، وقال صلى الله عليه وسلم: "كفى بالموت واعظا".
فاستودِعْ -أيها المسلم- أيامَكَ بما تقدر عليه من الحسنات، واحفظ صحيفتك من السيئات، قال الله -تعالى-: (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[الْبَقَرَةِ: 223]، وقال تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الْمُزَّمِّلِ: 20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي يعلم السر وأخفى، قائم على كل نفس بما كسبت، يحصي الأعمال ويجزي عليها الجزاء الأوفى، أحمد ربي وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبده ورسوله المجتبى، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه، ذوي الحلم والتقى.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
عباد الله: إن الله قد فتح لكم أبواب الرحمة؛ بما شرع لكم من فعل الخيرات وترك المنكرات، فلا يغلق أحد على نفسه باب الرحمة بمحاربة الله -تعالى- بالذنوب والمعاصي، فقد قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)[الْأَعْرَافِ: 156].
واغتنم -أيها العبد- زمن العافية، فعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" (رواه البخاري)، وعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
وكان ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخُذْ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" (رواه البخاري ومسلم).
أيها المسلمون: قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليَّ صلاةً واحدةً صلى الله عليه بها عشرا"، فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم تسليما كثيرا، اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، اللهم وارض عن الخلفاء الراشدين المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، والشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، اللهم إنا نسألك اليقين والإيمان الذي ترضى به عنا يا ذا الجلال والإكرام وأن تثبنا على ذلك حتى تتوفانا وأنت راض عنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا، اللهم إنا نعوذ بك أن نرتد على أعقابنا، اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على طاعتك يا أكرم الأكرمين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين، اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين، اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك يا ذا الجلال والإكرام أن تعيذنا وذرياتنا من إبليس وذريته وشياطينه وجنوده يا رب العالمين.
اللهم وأعذ المسلمين من الشيطان الرجيم وذريته يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، اللهم يا أرحم الراحمين نعوذ بك من زوال نعمتك وفجاءة نقمتك وتحول عافيتك، اللهم إنا نسألك أن تفقهنا والمسلمين في دينك، اللهم فقهنا في الدين وفقه المسلمين في الدين، اللهم تب علينا وعلى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ بلادنا من كل شر ومكروه، اللهم احفظ بلادنا من كل شر ومكروه، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق عبدَكَ خادمَ الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وأعنه على كل خير يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفقه للرأي السديد، والعمل الرشيد، اللهم وفق ولي عهده لما تحب وترضى، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، ووفقه للعمل الرشيد، ووفقه يا رب العالمين للرأي السديد، إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألك أن تنفع بهما الإسلام والمسلمين يا رب العالمين.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
عباد الله: اذكروا الله -تعالى- كثيرا، اذكروه بكرة وأصيلا، واحمدوه نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي