القلب القاسي قلب محروم من لذة العبادة والقرب من الله، قلب ضيق، قلق لا يهنأ بعيش، متوتر دائما، يغضب للدنيا ولأتفه الأسباب، قلب فقير مفتون بالدنيا ولو ملك الدنيا، الدنيا هي همه وشغله الشاغل، لا يتورع...
أيها المسلمون: لقد اعتنى الشارع الحنيف بصلاح القلوب وتزكيتها، وسعى إلى تطهيرها وتنقيتها، وقد حث الرسول -صلى الله عليه وسلم- على ذلك صراحة بقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب"(متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"(رواه مسلم).
أيها الإخوة: إن القلوب تقسو؛ فتكون كالحجارة أو أشد قسوة، فتبعد عن الله وعن رحمته وعن طاعته، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي؛ الذي لا ينتفع بتذكير، ولا يلين لموعظة، ولا يفقه مقالة، فيصبح صاحبه يحمل في صدره حجرًا صلدًا لا فائدة منه، بل لا يصدر منه إلا الشر.
القلب القاسي لا يتأثر بموعظة، ولا تنفعه نصيحة، ولا يتأثر بقراءة قرآن، وما أكثر ما نسمع اليوم ونشاهد خلال اليوم عبر الأجهزة الحديثة والرسائل عشرات المواعظ والمقاطع، لكن التأثر بها قليل أو نادر: (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الزمر: 22].
القلب القاسي لا يتأثر بالحوادث والقوارع من حوله، فهو يرى الأموات بل يشيع الأقارب والأصحاب والأحباب، ويمشي في المقابر وكأن شيئاً لم يكن وكفى بالموت واعظاً.
القلب القاسي يرى ويسمع المصائب والكوارث ولا يبالي: (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ)[التوبة: 126]، وقال تعالى: (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[الأنعام:43].
القلب القاسي لا يهتم بالفرائض الشرعية قد نقض الميثاق مع الله فقسا قلبه؛ كما قال الله: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً)[المائدة: 13].
بل القلب القاسي قلب يتكاسل عن الطاعات وأعمال الخير، وقد وصف الله المنافقين فقال: (وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ)[التوبة: 54].
القلب القاسي قلب شكاك كثير الظن، يهجر الخلان ويقطع الأقارب والإخوان: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)[محمد:22-24].
القلب القاسي قلب نزعت منه الرحمة ومليء بالجفاء، لا تجد الرحمة إليه سبيلا، فلا يرحم فقيرا، ولا يعبأ لحال يتيم ذي مقربة ،أو مسكين ذي متربة.
القلب القاسي يرى المنكوبين والمكلومين والمحرومين فلا يهتز فيه شعرة.
القلب القاسي قليل الصدقات قد بلي بمنع وهات.
القلب القاسي يغلب عليه البخل والكبر والأخلاق الذميمة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر"(متفق عليه).
القلب القاسي يقود إلى جمود العين عن البكاء من خشية الله، حتى أصبح دمع العين عزيزاً عند بعض المسلمين، قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "لأن أدمع من خشية الله أحب إليَّ من أن أتصدق بألف دينار"، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ومتى أقحطت العين من البكاء من خشية الله -تعالى- فاعلم أن قحطها من قسوة القلب، وأبعد القلوب من الله: القلب القاسي".
القلب القاسي ذلك الذي يستسهل المعاصي بأنواعها فلا يجد من نفسه رادعاً ولا يشعر بالندم على فعل المعصية، وهذه أعظم عقوبة يعاقب الله بها العصاة، يقول مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: "مَا ضُرِبَ عَبْدٌ بِعُقُوبَةٍ أَعْظَمَ مِنْ قَسْوَةِ قَلْبٍ، وَمَا غَضِبَ الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم".
وحين يقسو القلب يصيبه الران الذي يحجبه عن الحق: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14].
القلب القاسي لا يغار على محارم الله إذا انتهكت، يضعف فيه تعظيم الله -جل جلاله-؛ فهو يرى المنكرات ويسمع الموبقات وكأن شيئاً لم يحدث، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، ولا يبالي بالمعاصي والذنوب.
القلب القاسي قلب محروم من لذة العبادة والقرب من الله قلب ضيق، قلق لا يهنأ بعيش متوتر دائما، يغضب للدنيا ولأتفه الأسباب، قلب فقير مفتون بالدنيا ولو ملك الدنيا، الدنيا هي همه وشغله الشاغل، لا يتورع عن شبهة أو معاملات محرمة، ولا يتورع عن ظلم الآخرين والاعتداء على حقوقهم، قد طال عليه الأمل ونسي الآخرة، وقد قال الله: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)[الحديد: 16].
أيها المسلمون: ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء، وإن مرض القلب وقسوته من أعظم الأدواء، وعلاج هذا المرض يكون أولاً باستشعار خطورته وآثاره المهلكة، ويكون باستشعار ضعف النفس وجهلها وفقرها إلى خالقها، فالقلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء.
ويكون بالسعي والمسارعة إلى الفكاك من هذا المرض بكل وسيلة، ألا وإن أعظم وسيلة تليّن القلوب ويحصل بها الشفاء من هذا الداء: كثرة تلاوة القرآن بخشوع وحضور قلب: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الزمر:23]، وقال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد:24].
وكذا كثرة الإكثار من ذكر الله -تعالى- في كل وقت في الصبح والمساء وفي كل حال, قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد:28].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الأنفال: 2].
ومما يذهب قسوة القلب: تذكر الموت، وفناء الدنيا, ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هُجراً".
ومما يذهب قسوة القلب: بر الوالدين، ورحمتهما، والإحسان إليهما أحياء وأمواتاً، وكذا رحمة الكبار والضعفاء والأيتام، وفي الحديث: "إنْ أحببت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم، وأطعم المساكين".
ومما يذهب قسوة القلب: كثرة الدعاء والالتجاء إلى الله، وكان من دعاء النبي -عليه الصلاة والسلام-: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
ربنا لا تزغ قلوبنا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي