فهذه ينبغي للإنسان أن يضعها دائماً نصب عينيه؛ أن الجوارح تتكلم والأرض تتكلم، وأن الله سيحاسبه ويكلمه مباشرة، ولو قيل له: إن أحداً من الناس ممن يعظمه أو يخافه سيكلمك ويحاسبك مباشرة، وسيكون لك يومٌ معه؛ فإن...
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها الناس: يقول الله -سبحانه-: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[البقرة: 28]؛ فالكل كان في العدم, ثم خلقه الله ودب على الأرض وعمرها ثم أماته الله, ثم يبعثه يوم القيامة؛ ليوفيه حسابه على مشواره الطويل خلال هذه الأطوار, ثم إذا جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد, يحاسب الله البشر في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة, والكل سيكلمه ربه, ليس بينه وبينه ترجمان؛ فياله من لقاء عظيم, سيمر به جميع الناس!؛ كما أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ؛ فاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"؛ فماذا أعددنا لهذا اللقاء العظيم؟.
معاشر المسلمين: لنا مع هذا الحديث عدة وقفات:
الأولى: يقول "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللّهُ"؛ وهذا فيه إثبات صفة الكلام لله -عز وجل- على ما يليق بجلاله وعظمته؛ فالله يتكلم كما شاء بما شاء كلاماً يليق به، لا يماثل كلام المخلوقين؛ فالله -سبحانه- كلّم آدم وكلّم موسى وكلّم محمداً -عليهم الصلاة والسلام-، ويقول لعيسى -عليه الصلاة والسلام-الآخرة (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)[المائدة:116]، ويقول له: (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ)[المائدة:110]، إلى غير ذلك من المواطن التي دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الله يتكلم فيها كلاماً حقيقيًّا لائقاً بجلاله وعظمته، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة.
"مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ"؛ التَرجُمان فيه لغات، يقال: تَرجُمان، وتَرجَمان، وتُرجُمان كما هنا، والترجُمان يقال لمن ينقل الكلام لغيره ولو بنفس اللغة, ويقال ذلك أيضاً لمن ينقل من لغة إلى لغة؛ فهنا ليس بينه وبينه ترجمان، بل سيكلمه مباشرة بلا واسطة، ليس عن طريق الملَك، وإنما يكلمه تكليماً مباشراً، وإذا استشعر الإنسان مثل هذا الموقف، وأن الله يكلم عبده تكليماً مباشراً، ويحاسبه على أعماله، ويقول له كما دلت عليه الأحاديث: "اذكر كذا"، "فعلتَ في يوم كذا، وكذا"؛ فإذا أنكر الإنسان ختم على فيه، ونطقت جوارحه، حتى الأرض التي يمشي عليها الإنسان تنطق وتتكلم؛ كما قال الله (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[يس:65], وقال: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)[فصلت:21], وكذلك أخبر عن الأرض، قال: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)[الزلزلة:4]؛ فتذْكُر ما فُعل عليها.
فهذه ينبغي للإنسان أن يضعها دائماً نصب عينيه؛ أن الجوارح تتكلم والأرض تتكلم، وأن الله سيحاسبه ويكلمه مباشرة، ولو قيل له: إن أحداً من الناس ممن يعظمه أو يخافه سيكلمك ويحاسبك مباشرة، وسيكون لك يومٌ معه؛ فإن الإنسان يحسب لذلك، ويكف عن كل شيء لا يريده من سيقابله؛ فكيف بنا -عباد الله- مع ملك الملوك -جل وعلا- الذي (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الزمر: 67]؛ كأن نهاية المطاف هي اللقاء بالله؛ كما قال -سبحانه-: (يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[الانشقاق:6].
الوقفة الثانية: قوله: "فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ"؛ يلتفت يميناً وشمالاً يبحث عن طريق للنجاة, كل من خِفت منه فررت عنه إلا الله تخافه فتفر إليه؛ لأنه لا منجا ولا ملجأ ولا ملتجى من الله إلا إليه, وهذا معنى قوله: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[البقرة: 156].
الوقفة الثالثة: أن الإنسان يرى عمله الذي عمله في الدنيا في يوم القيامة؛ فكل عمل سيجده العبد في صحيفته, ويتمثل أمامه, ويوضع في الميزان؛ فهذا يوم الحساب وهو يوم العدل والإنصاف؛ فالله -تعالى- حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة, (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف:49].
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر قال -صلى الله عليه وسلم- قال الله -تعالى-: "يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيرًا؛ فليحمد الله, ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
الوقفة الرابعة: قوله: "وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ"؛ وذلك أن النار يجاء بها يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام, حتى تكون بين يدي الناس في أرض المحشر فينظرون إليها عيانا بأبصارهم.
الوقفة الخامسة: قوله: "فاتقوا النار ولو بشق تمرة"؛ في الحديث دليل على فضل الصدقة ولو كانت قليلة, "شق تمرة"؛ يعني نصفها؛ فالصدقة تنجي من النار؛ فلا يحتقر المرء شيئاً يبذله, أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب, ولا يقبل الله إلا الطيب؛ فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها؛ كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل"، "فلوه"؛ أي: مهر الخيل الصغير.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات, وترك المنكرات, وحب المساكين, أقول قولي هذا...
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فيا أيها الناس: لا نزال نتأمل ذلك الحديث العظيم, ونقف عند مدلولاته؛ فالوقفة السادسة: قوله: "فمن لم يجد فبكلمة طيبة"؛ يعني من لم يجد ما يتصدق به فليتق النار بكلمة طيبة, والكلمة الطيبة تشمل كل كلام طيب نافع, وأفضل الكلام, وأطيب الكلام, وأصدق الكلام؛ قراءة القرآن, والأذكار؛ كالتسبيح والتهليل والتحميد, وكذلك حسن الكلام مع الناس بلطيف العبارة وغير ذلك.
الوقفة السابعة: في الحديث يظهر فضل الله ورحمته وكرمه؛ حيث فتح أبواب الخير مشرعةً للعاملين؛ فمن أراد الخير وجده, لكن المصيبة -أيها الناس- أننا مفرطون ومقصرون في جنب الله -تعالى-, كم تضيع الأوقات الثمينة والطويلة فيما يضر ولا ينفع!
انظروا -عباد الله- في مشهد يتكرر كل يوم بل في اليوم مرات؛ الصلاة المفروضة, يؤذن المؤذن وتقام الصلاة, والوقت بين الأذان والإقامة يسير, ومع ذلك فإن أكثر الناس لا يأتي إلا بعد الإقامة, فتفوتهم الركعة والركعتان وأكثر, ولربما صلى في بيته, والعياذ بالله!؛ فما الذي منع هؤلاء من التقدم والتبكير للصلاة إلا الكسل وإيثار الشهوات.
ومثله التأخر يوم الجمعة؛ فلا يحضر إلا بعد صعود الخطيب, ولربما فاتته ركعة من الجمعة, أو ركعتان ثم يصليها ظهرا, أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا"؛ التهجير: التبكير، العتمة والصبح: صلاتا العشاء والفجر.
الوقفة الثامنة: إن هذا اللقاء العظيم الذي ذكر في الحديث, سيمر به الخلق كلهم, وإنه لموقف عظيم يدعو المسلم أن يستعد له, وذلك بالعمل الصالح, وفعل محاب الله واجتناب مساخطه؛ لأنك ستلقاه ويسألك عن كل شيء.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي