فالذي يشرب الخمر ويغيبُ عقله يصبح كالبهيمة، بل البهيمة أعقل منه؛ لأنه قد يرتكب من الموبقات ما تقشعر من الأبدان؛ فقد يفعل السكران الفاحشة بابنته، وقد يتسبب في قتل أحد؛ لأنه أصبح بلا عقل، ألم تقرؤوا قصة الرجل من...
الحمدُ للهِ حمداً كثيراً طيباً, أحمدُه -سبحانَه- وأشكرُه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له المحمودُ على كلِّ حالٍ، وهو الكبيرُ المتعالُ، وأشهدُ أنَّ سيّدَنا ونبيَّنا محمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، الناصحُ الأمينُ في الحالِ والمقالِ والأفعالِ، صلى اللهُ وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آلِه وأصحابِه خيرِ صحبٍ وأكرمِ آلٍ، والتابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ، صلاةً وسلامًا دائمينِ بالغدوِّ والآصالِ.
أما بعدُ: لقد جاءت الشريعة الإسلامية تُعبّد الخلق لله -عز وجل-، وتحررهم من عبادة الهوى والشيطان، ولقد أحلت هذه الشريعة الطيبات وحرمت الخبائث، والذي أحلته أكثر بكثير من الذي حرمته، إلا أن بعض الناس يأبون هذا التحريم ويصرون على الولوج في الخبائث وترك الطيبات.
ومن أهم الخبائث التي حرمتها الشريعة ولعنت كل من يتعاطاها أو يشارك فيها: شرب الخمور؛ فقد لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرة: عاصر الخمر، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له.
ويُعدّ شرب الخمر من الكبائر ومما يحبِط الأعمال حيث روى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ لَمْ يَتُبْ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَقَاهُ مِنْ نَهْرِ الْخَبَالِ"، قِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَا نَهْرُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: نَهْرٌ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ"(رواه أحمد والترمذي)؛ فمن شرب الخمر حبط من عمله ثواب صلاة أربعين يوما.
إن شرب الخمور ظاهرة لا تزال تنتشر، بل وتتزايد في مجتمعنا!؛ فلمن تسوق كل هذه الخمور؟! ومن الذي يشربها؟! ألا يدل ذلك على أنه لا يزال بعض المسلمين يشربون أم الخبائث؟.
أنا لن أتكلم عن الخطر الصحي للخمور؛ فهذا أمر هين ويعرفه معظم الناس، ألا ترون أن المدخنين يعرفون خطر الدخان ومع ذلك تراهم مصرين على شربه؟! وإنما أريد تسليط الضوء على خطره الاجتماعي؛ فكثير من حالات الطلاق, وتشتت الأولاد, هو بسبب إدمان بعض الأزواج؛ فالذي يشرب الخمر ويغيبُ عقله يصبح كالبهيمة، بل البهيمة أعقل منه؛ لأنه قد يرتكب من الموبقات ما تقشعر من الأبدان؛ فقد يفعل السكران الفاحشة بابنته، وقد يتسبب في قتل أحد؛ لأنه أصبح بلا عقل، ألم تقرؤوا قصة الرجل من بني إسرائيل الذي خُيِّر بين شرب الخمر أو قتل طفل أو فعل الفاحشة؟ فاستهان بالخمر وظن أنها أخفهم ضررا، فلما شرب الخمر وغاب وعيه قتل الطفل وفعل الفاحشة؛ فالخمر هي أم الخبائث, ومفتاح كل شر.
روى ابن حبان والنسائي عن عثمان -رضي الله عنه- أنه وقف خطيبا فقال: "اجتَنِبوا أمَّ الخبائثِ؛ فإنَّه كان رجُلٌ ممَّن قبْلَكم يتعبَّدُ ويعتزلُ النَّاسَ, فعلِقتْه امرأةٌ فأرسَلتْ إليه خادمًا فقالت: إنَّا ندعوك لشَهادةٍ فدخَل, فطفِقتْ كلَّما يدخُلُ بابًا أغلَقتْه دونَه, حتَّى أفضى إلى امرأةٍ وضيئةٍ جالسةٍ وعندَها غلامٌ وباطيَةٌ فيها خمرٌ, فقالت: إنَّا لم نَدْعُك لشَهادةٍ ولكِنْ دعَوْتُك لتقتُلَ هذا الغلامَ, أو تقَعَ عليَّ, أو تشرَبَ كأسًا مِن هذا الخمرِ؛ فإنْ أبَيْتَ صِحْتُ بك وفضَحْتُك, قال: فلمَّا رأى أنَّه لا بدَّ له مِن ذلك قال: اسقيني كأسًا مِن هذا الخمرِ, فسقَتْه كأسًا مِن الخمرِ, فقال: زيديني فلم يزَلْ حتَّى وقَع عليها, وقتَل النَّفسَ؛ فاجتَنِبوا الخمرَ فإنَّه -واللهِ- لا يجتمِعُ الإيمانُ وإدمانُ الخمرِ في صدرِ رجُلٍ أبدًا, لَيوشِكَنَّ أحدُهما يُخرِجُ صاحبَه".
أيها الإخوة في الله: ما أسباب انتشار الخمور وكثرة تهريبها وتصنيعها في مجتمعنا؟ هل هناك تساهلٌ من الجهات الحكومية؟ كلا, وإنما هناك ضعف إيمان, وعدم خوف من الله -عز وجل-؛ فالرادع الحكومي لن يحل المشكلة, وإنما الذي سيحلها هو التربية الإيمانية, والخوف من الله -عز وجل-.
فمنذ قرابة المائة عام منعت حكومة أمريكا الخمر، وطاردتها في بلادها، واستعملت جميع وسائل المدنية الحاضرة؛ كالمجلات والجرائد، والمحاضرات، والصور والسينما؛ لتهجين شربها، وبيان مضارها ومفاسدها، ويقدِّرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على 60 مليون دولار، وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على 10 بلايين صفحة، وقد أعدم فيها 300 نفس، وسجنت حوالي نصف مليون أمريكي، وبلغت الغرامات عشرات الملايين، وصادرت من الأملاك ما يبلغ قيمته مئات الملايين، ولكن كل ذلك لم يزد الشعب الأمريكي إلا غراما بالخمر، وعناداً في تعاطيها، حتى اضطرت الحكومة سنة 1933م إلى سحب القانون، وإباحة الخمر في مملكتها إباحة مطلقة.
أما المسلمون فحينما سمعوا قوله -تعالى-: في سورة المائدة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)[المائدة: 90-91]؛ فإنهم قالوا: "انتهينا ربنا"، وحينما نادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس أن الخمر حرمت، كانت سرعة الاستجابة عجيبة؛ فمن كان في يده كأس حطمها، ومن كان في فمه جرعة مجَّها، وشقت زقاق الخمر، وكسرت دِنانه، حتى سالت بعض طرق المدينة بالخمور؛ فهل يقول المدمنون على الخمر انتهينا ربنا؟.
أسأل الله -تعالى- أن يحفظ مجتمعنا من كافة الشرور، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى, واحذروا كل الحذر من محبطات الأعمال؛ فإنها تورد العبد المهالك، ومن شرب الخمر حبط عنه ثواب صلاة أربعين يوما، وليس ذلك فحسب؛ فإن مات ولم يتب منها حَرُمت عليه في الآخرة؛ فقد روى ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ"(رواه مسلم)، وفي رواية عند البخاري: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ".
قال النووي -رحمه الله تعالى-: "مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُحْرَم شُرْبهَا فِي الْجَنَّة وَإِنْ دَخَلَهَا؛ فإِنَّهَا مِنْ فَاخِر شَرَاب الْجَنَّة فَيُمْنَعهَا هَذَا الْعَاصِي بِشُرْبِهَا فِي الدُّنْيَا, قِيلَ: إِنَّهُ يَنْسَى شَهْوَتهَا؛ لِأَنَّ الْجَنَّة فِيهَا كُلّ مَا يَشْتَهِي, وَقِيلَ: لَا يَشْتَهِيهَا وَإِنْ ذَكَرَهَا, وَيَكُون هَذَا نَقْص نَعِيم فِي حَقّه تَمْيِيزًا بَيْنه وَبَيْن تَارِك شُرْبهَا" اهـ.
فتأمل -يا عبد الله- كيف أن الله -عز وجل- حرم عليك شرابا واحدا وأباح مئات الأصناف من الأشربة والعصائر؛ فلماذا تختار الحرام وتترك الحلال؟! هل تريد أن تقع كما وقع آدم -عليه السلام- في المعصية، حينما أباح له جنة فيها ملايين الأشجار وحرم عليه شجرة واحدة، ومع ذلك استطاع إبليس إقناعه بالاقتراب من تلك الشجرة والأكل منها؟!.
فمسكين ثم مسكين من شرب الخمر ومات ولم يتب منها؛ لأنها ستحرم عليه في الجنة, بل سيبعث كعابد وثن ويشرب من عرق أهل النار؛ حيث روى ابنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أن رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-قال: "مُدْمِنُ الْخَمْرِ إِنْ مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ"(رواه أحمد), ويقول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه مسلم: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدًا، لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ", قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟, قَالَ: "عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ", ويقول أبو الدرداء -رضي الله عنه- أَوْصَانِي خَلِيلِي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَشْرَبْ الْخَمْرَ؛ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ"(رواه ابن ماجه).
أيها الأخوة في الله: هذه بعض الأحاديث التي جاءت في التحذير من الخمر, وأنها أحد محبطات الأعمال، ولا يزال هناك بعض محبطات الأعمال الأخرى أدع ذكرها في خطب قادمة بإذن الله.
أسأل الله -تعالى- أن يقينا شر هذه المحبطات, وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي