وإذا أراد العبد أن يقف على نماذج ممن بدل الله حالهم بسبب ذنوبهم وتقصيرهم؛ حيث جحدوا نعمة ربه وفضله عليهم؛ فأهلك ما زرعوه ودمر بساتينهم وشتت شملهم وفرق جمعهم في سائر البلاد...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: لا شك أن للذنوب والمعاصي شؤم وآثار لا تقتصر على صاحبها فقط، وإنما متعدٍّ إلى غيره، قال مجاهد: "إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر، وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم", وقد جاء في الحديث الصحيح أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عَلَيْهِ بِجنازَةٍ، فَقَالَ: "مُسْتَريحٌ وَمُسْتَراحٌ مِنْهُ", قَالُوا: يَا رسُولَ الله! مَا المسْتَريحُ، وَالمُسْتَراحُ مِنْهُ؟ قالَ: "العَبْدُ المؤمِنُ يَسْتريحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيا وأذَاهَا، إلى رحمة الله عَزَّ وجَلَّ، وَالعبدُ الفَاجِرُ يَسْتريحُ مِنْهُ العِبَادُ، وَالبِلادُ، والشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ"(البخاري ومسلم).
أيها الإخوة: ولا ريب أن الذنوب والمعاصي تصيب المجتمعات بالآثار والأخطار البالغة، ومن تلك الآثار:
تسلط الأعداء والوقوع في الهزيمة والسقوط في وحل الضعف والوهن، وانظروا ما الذي حول النصر إلى هزيمة في غزوة أحد، قال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ)[آل عمران: 152]؛ أي: ولقد حقق الله لكم ما وعدكم به من نصر، حتى عصيتم أمر رسولكم فحلَّت بكم الهزيمة من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر.
وعنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ"(أحمد وأبو داود), وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، فقال قائل: ومِن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت"(أخرجه أبو داود).
ومن آثار المعاصي على المجتمعات: أنها تذهب النعم من بين يدي صاحبها؛ فتنقلب عليه حياته إلى آلام ونقم، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ)[الرعد:11].
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا *** فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ الْعِبَا *** دِ فَرَبُّ الْعِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ
ومن تلك النعم التي تسلب بسبب الذنوب: نعمتا الأمن والرزق, قالَ اللهُ -سبحانه-: (وضَربَ اللهُ مثَلا قريةً كانَت آمِنَةً مُطمئِنةً يَأْتِيها رِزقُها مِن كلِّ مكانٍ فكَفَرت بأَنْعُمِ اللهِ فَأذاقَها اللهُ لِباسَ الجوعِ والخَوفِ بِما كانوا يَصنَعون)[النحل:112].
ومن النعم التي تسلبها المعاصي: نعمة العافية في الأبدان؛ فقد جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لم تظهر الفاحشة في قومٍ قطّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا"(ابن ماجه).
وإذا أراد العبد أن يقف على نماذج ممن بدل الله حالهم بسبب ذنوبهم وتقصيرهم؛ حيث جحدوا نعمة ربه وفضله عليهم؛ فأهلك ما زرعوه ودمر بساتينهم وشتت شملهم وفرق جمعهم في سائر البلاد, قال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)[سبأ: 15-17].
ومن آثار المعاصي: أنها من موجبات هلاك الأمم والشعوب؛ فما الذي أغرق قوم نوح, وأصابهم بالعذاب والنكال, إلا الذنوب والمعاصي, ومالذي أخذ قوم عاد بالريح العقيم, والعذاب الأليم, إلا الوقع في المعاصي والآثام, ومالذي أهلك ثمود بالصيحة, وأفناهم جميعا؛ فأصبحوا كهشيم المحتظر, إلا المعاصي والوقوع في السيئات, ومالذي رفع قرى قوم لوط إلى السماء ثم قلبها فجعل عاليها سافلها, وأتبعهم بحجارة من سجيل, إلا الوقوع في الجريمة ومخالفة أمر الله -تعالى-, ووقوعهم في الفواحش, وما الذي أغرق فرعون وقومه, وأوردهم البحر, إلا معصية الملك الجبار, قال -جلا وعلا-: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ)[غافر: 21].
إن هذه النصوص القرآنية تقرر تؤكد على سنة ربانية مقتضاها أن الوقوع في وحل الذنوب تهلك أصحابها؛ فهي سنة ماضية لا تتغير ولا تتبدل, قال سبحانه: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا ح
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي