والشيطان يأتي الإنسان بالنسبة للشهوات من جهات ثلاث: من جهة الفرج والبطن، ومن جهة المال والحرص عليه، ومن جهة الرياسة والشرف, وحب الشهرة والزعامة, والإمارة والحرص عليها؛ فمن يأس منه من جهة شهوة البطن والفرج جاءه...
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: إن دين الإسلام دين الفطرة, لم يقع يقتصر على مخاطبة الروح فحسب؛ بل اهتم بتغذية الجسد، وأعطى كل ذي حقه حقه؛ فلم يدعو إلى الرهبانية التي كانت سلوك لغيرهم؛ كما روى ذلك أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-, فلما أخبروا كأنهم تقالوها؛ فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, قال أحدهم: أما أنا؛ فإني أصلي الليل أبدا, وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر, وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا, فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم, فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا, أما -والله- إني لأخشاكم لله وأتقاكم له؛ لكني أصوم وأفطر, وأصلي وأرقد, وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني"(البخاري).
عباد الله: لقد ذكر الله أنواع الشهوات وسماها متاع، وهي من نعم الله -تعالى- على العباد، وجعل حب الشهوات غريزة في نفوسهم، وحذر فقط من الانغماس فيها دون ضوابطــ، أو أن تكون سبباً لترك واجب أو فعل محرم, يقول بن تيمية -رحمه الله تعالى-: "إن الله -تعالى- خلق فينا الشهوات واللذات؛ لنستعين بها على كمال مصالحنا, فخلق فينا شهوة الأكل واللذة فيه, فإن ذلك في نفسه نعمة وبه يحصل بقاء جسومنا في الدنيا, وكذلك شهوة النكاح واللذة به هو في نفسه نعمة, وبه يحصل بقاء النسل, فإذا استعين بهذه القوى على ما أَمَرَنا, كان ذلك سعادة لنا في الدنيا والآخرة, وكنا من الذين أنعم الله عليهم نعمة مطلقة, وإن استعملنا الشهوات فيما حَظَرَه علينا بأكل الخبائث في نفسها, أو كسبها كالمظالم, أو بالإسراف فيها, أو تعدينا أزواجنا أو ما ملكت أيماننا؛ كنا ظالمين معتدين غير شاكرين لنعمته" ا.هـ.
قال -تعالى-: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد)[آل عمران: 14 - 15]؛ فالنساء والبنون والذهب والفضة والمال والعقار والحرث والأنعام والمنصب والجاه والسلطان وغيرها من الشهوات التي زينت للنفوس، هي حلال إذا تعامل معها المسلم وفق حدود الشرع وضوابطه، وقد تكون حراماً إذا خالفت ذلك؛ بل قد تكون سبباً للخسارة في الدنيا والآخرة.
وما ظهر الفساد القيمي والأخلاقي وانتشار الأمراض والجرائم والانتهاكات والحروب والقتل والتدمير، وكل هذه المشاكل والصراعات التي تنخر في جسد الدول والشعوب والمجتمعات إلا بسبب صراع الشهوات المحرمة.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "الصبر على الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة؛ فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة, وإما أن تقطع لذة أكمل منها, وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة, وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه, وإما أن تذهب مالا بقاؤه خير من ذهابه, وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه, وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة, وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك, وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة, وإما أن تنسى علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة, وإما أن تشمت عدواً وتحزن ولياً, وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة, وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول".
أيها الإخوة: إن التعلق بالشهوات والاستسلام لها، والسعي وراءها دون قيد أو ضابط سبب لفساد القلوب، فيصبح القلب أسيرا لشهواته وملذاته، وبالتالي فساد الحياة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس يستولي على قلب أحدهم ما يشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسير ما يهواه يصرفه كيف تصرّف ذلك المطلوب".
عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا؛ فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا؛ لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ"، قَالَ أَبُو خَالِدٍ: فَقُلْتُ لِسَعْدٍ: يَا أَبَا مَالِكٍ! مَا أَسْوَدُ مُرْبَادًّا؟ قَالَ: "شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ". قَالَ: قُلْتُ: فَمَا الْكُوزُ مُجَخِّيًا؟ قَالَ: "مَنْكُوسًا"(مسلم).
واتباع الشهوات والتعلق بها قد يقود العبد إلى عبوديتها من دون الله، فينفي الإيمان من القلب وينزع من نور الهداية, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يقتل وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد"(متفق عليه).
وأخرج البخاري في صحيحه عن عكرمة قال: قلت لابن عباس كيف يُنزع الإيمان منه؟, قال: "هكذا -وشبك بين أصابعه ثم أخرجها- فإن تاب عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه", وقال ابن عباس: "ينزع منه نور الإيمان في الزنا، فإن زال رجع إليه الإيمان".
ألا وإن الشهوات التي حرمها الله -تعالى- تخرج محبة الله من قلب صاحبها، ولا يجتمع في قلب العبد محبة الشهوات ومحبة الرحمن؛ فإذا امتلأ القلب بالتعلق الشهوات؛ سكن موضع محبة الرحمن؟.
أيها المؤمنون: ويرجع السبب في اقتراف الذنوب والإغراق في الشهوات الغفلة الاستهانة بالمعاصي والذنوب وضعف توقير علام الغيوب، وقد قال الله -تعالى- ذامًّا هؤلاء: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا)[مريم:59].
وجاء في السنة المطهرة في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث أنس -رضي الله عنه- أنه قال: "إنَّكم لتعمَلون أعمالاً هي أدقُّ في أعينكم من الشَّعر، إن كنَّا لنعدُّها على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات"(رواه البخاري)، ووصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- الدنيا قائلاً: "ما الدنيا في الآخرة إلاَّ مثل ما يجعل أحدُكم إصبعَه في اليمِّ؛ فلينظر بما يرجع".
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أيها المؤمنون: ترعرع نبي الله يوسف -عليه السلام- في بيت العزيز، وكان بخلقه الرفيع يبهج صدر العزيز وتقر عينه به؛ لكن امرأته كانت مفتونة بجماله؛ فدبرت له مكيدة؛ حيث أغلقت الأبواب ودعته إلى الفاحشة؛ كما قال الله في كتابه عنها: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ)[يوسف: 23].
وهنا تتجلى معالم العفة عند يوسف -عليه السلام-، (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[يوسف: 23].
ونجاه الله من هذه الفتنة بمراقبة الله واخلاصه به -سبحانه-، (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)[يوسف:24], والشيطان ممنوع من غوايتهم، لا تعمل فيهم حيله وتلبيساته؛ لأن الله قال عنه: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[ص:82-83] وهو الذي قال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[الحجر:39-40].
فعلى العبد أن يسلك سبل النجاة من الوقوع في وحل الشهوات، وأن يحصن نفسه بالإيمان وتقوى الملك الديان؛ حتى يحيا بدينه وأخلاقه؛ فينعم برضوان الله وفضله في الدنيا والآخرة.
الله إنا نسألك العفة والعفاف والتحلي بأجمل الأوصاف والاقتداء بمحمد بن عبدالله بن عبد مناف.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي