من مفسدات القلب: فضول الطعام والشراب والنوم

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. أثر فضول الطعام والشراب على القلب .
  2. هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الطعام والشراب .
  3. أضرار فضول الطعام والشراب .
  4. أثر فضول النوم على القلب .
  5. هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم .
  6. ما يعين على قلة النوم .

اقتباس

إن التقليل من الطعام من موجبات رقة القلب، وسمو الروح، وقوة الفهم، وانكسار النفس، وضعف الهوى والغضب، والعكس بالعكس؛ فلا أضر على العبد من بطن ممتلئة، قد جمع فيها أصناف الأطعمة، وحشر فيها ألوان المأكولات؛ فعن المقدام بن...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المؤمنون: إن من مفاسد القلب ومن أهم أسباب مرضه بل وموته فضول الطعام والشراب؛ فإن التعاطي مع هذه الأمور بزيادة وإسراف ينعكس على القلب، ويؤثر عليه.

إن التقليل من الطعام من موجبات رقة القلب، وسمو الروح، وقوة الفهم، وانكسار النفس، وضعف الهوى والغضب، والعكس بالعكس؛ فلا أضر على العبد من بطن ممتلئة، قد جمع فيها أصناف الأطعمة، وحشر فيها ألوان المأكولات؛ فعن المقدام بن مَعْد يكرِب قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما ملأ ابن آدم وعاءاً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه؛ فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه"(رواه الترمذي وحسنه).

أيها الأحبة: إن الإسراف في أكل الطعام لداع من دواعي الشر ويدعو صاحبه إلى المعاصي، ويثقله عن الطاعات؛ فكم من آفة جاء بها الشبع؟!، وكم من طاعة حال دونها فضول الطعام؟!؛ فمن وقي شرَّ بطنه فقد وقي شرًّا عظيمًا، والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام؛ ولهذا جاء في بعض الآثار: "ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم", وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطن"(رواه الترمذي وصححه الألباني).

ولو لم يكن في زيادة الأكل وفضول الطعام إلا أنه سبيل للغفلة عن ذكر المولى -جل شأنه- وانخراط في وحل الشهوات والحياة البهيمية التي يقع فيها كل من أسرف في تناول طعامه وشرابه.

أيها المؤمنون: والإفراط في تناول الطعام والشراب معين للشيطان على التحكم بالمرء، ولهذا جاء في بعض الآثار: "إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة"، وقال بعض السلف: "كان شباب يتعبدون من بني إسرائيل، فإذا كان فطرهم قام عليهم قائم فقال: لا تأكلوا كثيرًا؛ فتشربوا كثيرًا؛ فتناموا كثيرًا؛ فتخسروا كثيرًا".

لقد أخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بأن شر وعاء يملؤه ابن آدم هو بطنه، وأنه ينبغي على المرء إذا أكل أن يوازن بين طعامه وشرابه ونفسه، لما في ذلك من راحة وعافية وسلامة؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه, بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه, فإن كان لا محالة؛ فثلث لطعامه, وثلث لشرابه, وثلث لنفسه"(رواه الترمذي), قال العلامة ابن رجب الحنبلي: "وهذا الحديثُ أصلٌ جامعٌ لأصول الطب كُلِّها".

وقد رُوي أنَّ ابنَ أبي ماسويه الطبيبَ لمَّا قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة قال: "لو استعملَ الناسُ هذه الكلمات، سَلِموا مِنَ الأمراض والأسقام، ولتعطَّلت المارستانات ودكاكين الصيادلة".

يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ومراتب الغذاء ثلاثة: أحدها: مرتبه الحاجة, والثانية: مرتبة الكفاية, والثالثة: مرتبة الفضلة".

ولقد جاء الإسلام بالتوازن في ذلك؛ فحث العبد أن يأكل لقيمان يقمن صلبه، ويحفظ قواه ولا يضعفها؛ فإن أراد أكثر من ذلك فلا يتجاوز ذلك، ويجعل مجالا للهواء والماء؛ حتى يستقيم حاله وتدوم صحته، ويحيا قلبه، وينشط بدنه، وصدق الشاعر:

فإن الداء أكثر ما تراه *** يكون من الطعام أو الشراب

واعلموا -عباد الله- أن الإكثار من الطعام والشراب فوق الحاجة يترتب عليه مفاسد كثيرة، وأضرار كبيرة، وآثار سيئة من ناحيتين:

الأولى: ناحية دينية؛ فكثرة الطعام سبب لظلمة القلب وقسوته، ولضعف العبادة وقلتها, وذهاب الخشوع ولذة العبادة، والمناجاة لله العظيم، كما أنه يقود المرء للكبر والبطر، نسيان حاجة الفقراء والمحتاجين الجائعين.

أما الثانية: فهي الناحية الصحية؛ فإن كثرة الطعام تجلب الأمراض والأسقام إلى الجسد، وتتسبب في السمنة التي تعيق المرء عن أعمال كثيرة وجليلة، كما أن الطعام الكثير سبب في الشعور بالكسل والفتور عن العمل.

يقول أبو سليمان الداراني -رحمه الله-: "إن النفس إذا جاعت وعطشت صفا القلب ورق، وإذا شبعت عمي القلب", وقال ابن القيم -رحمه الله-: "قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل والنوم والكلام والمخالطة، وكما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب؛ فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ".

فيكفي المسلم أن يقتصر في طعامه وشرابه على ما يعينه على أداء عبادته وعمله، ولا يسرف في الأكل لقوله -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف:31].

أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:

عباد الله: وإن مما يفسد القلب ويمرضه: كثرة النوم، والإفراط فيه؛ إذ أن النوم كالملح لا بد من قليل منه في الطعام تجود الأكل وترغب فيه، لكن زيادته مضرة، والإكثار منه مرض، وهكذا النوم إذا أكثر منه المرء جعل طعم الحياة غيرَ مستساغ، وفوت على نفسه الكثير من الأوقات الفاضلة، وأصبح بليد الطبع، مريض القلب، سيء المعاشرة.

وفي الوقوف على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في نومه نجده أعدل نوم، وأنفعه للبدن، وأكثره فائدة له ولأعضائه وقوته؛ فلقد كان -صلى الله عليه وسلم- ينام أول الليل، ويستيقظ في أول النصف الثاني، فيقوم ويستاك، ويتوضأ ويصلي ما كتب الله له؛ فيأخذ البدن والأعضاء، والقوى حظها من النوم والراحة، وحظها من الرياضة مع وفور الأجر، وهذا غاية صلاح القلب والبدن، والدنيا والآخرة.

ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- يأخذ من النوم فوق ما يحتاج إليه، ولا يمنع نفسه من القدر الذي يحتاجه.

أيها المؤمنون: لقد ابتلي كثير من الناس بكثرة النوم؛ فترى المرء منهم جلَّ وقته نائمًا خاملا، تضيع منه الأعمار، وتفوت عليه الأوقات، ولهذا وأمثاله نضع بين أيديهم حلولًا تعينهم على التقليل من هذا الداء، والتخفيف من هذا المرض:

لا بد على هؤلاء أن يعرفوا قيمة الوقت، ويشعروا بأهميته، وأنه هو الحياة، وبضياعه ضاعت الآجال والأعمار.

وعلى من ابتلي بكثرة النوم أن يقلل من طعامه وشرابه؛ فإن من أكل كثيرًا نام كثيرًا، فخسر كثيرًا.

كما عليه أن يتيقن أن جسمه قابل على التكيف مع أي عدد من ساعات النوم، ولن يشبع أحد من كثرة النوم.

وعليه أن يجعل لنفسه هما يحمله, وغاية يريد أن يدركها، وهدفًا يسعى إليه، ومتى ما حصل ذلك كان هذا مدعاة إلى شد الهمة, وهجر الفراش، والنزول إلى ميدان السباق, وأعلى الهموم وأعظمها هَمُّ الدعوة إلى الله، وتقريب الناس إلى دينهم.

عباد الله: لنحذر هذه الآفات التي تفسد على المرء قلبه وصحته؛ ولنجعل الحبيب -صلوات ربي وسلامه عليه- قدوتنا وأسوتنا؛ فقد كان لا يأكل حتى يجوع؛ وإذا أكل لا يشبع، وكان ينام من الليل ويستيقظ بعضه؛ فيناجي ربه ومولاه.

وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله محمد امتثالاً لأمر الله -تعالى- لكم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي