وقفة مع عدد حالات النكاح والطلاق

عبد الله بن علي الطريف
عناصر الخطبة
  1. نعمة الزواج وبعض حِكمه .
  2. انتشار الطلاق ظاهرة تهدد المجتمع .
  3. من أسباب الطلاق وعلاجه .
  4. الزواج من آيات الله العجيبة .

اقتباس

كثرت حالات الطلاق في مجتمعنا كثرة توحي بخطرٍ يُهددُ كيان الأسرة؛ فقد هالني ما كشفه التقرير الشهري لوزارة العدل لشهر ربيع الثاني من هذا العام 1440هـ عن عدد حالات الطلاق المسجلة في المحاكم, مقابل عدد العقود؛ فقد تم تسجيل...

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي تفرَّدَ بالخَلقِ والتَّدبيرِ، وتَصرَّفَ بالحِكمةِ البالغةِ وبديعِ التَّقديرِ، لا يَعزُبُ عنه مثقالَ ذَرةٍ في الأرضِ ولا في السَّماءِ وهو اللطيفُ الخبيرُ، أحمدُه -سبحانَه- وأَشكرُه تَوالَتْ علينا نعماؤه، وترادَفَت آلاؤه، وهو نِعمَ المَولى ونعمَ النَّصيرِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له, تنزَّه عن التَّشبيهِ وتقدَّسَ عن النَّظيرِ، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه, جاءَ بملَّةٍ حنيفيةٍ وشَريعةٍ بيضاءَ نقيةٍ فهو السِّراجُ المنيرُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ عليه وعلى آلهِ وأصحابِه ذَوي الشَّرَفِ الكبيرِ، والتَّابعينَ ومن تبعَهم بإحسان إلى يوم المصير.

أما بعدُ:

أيها الإخوة: مِنْ آيَاتِ الله الدالة على رحمته وفضله وعنايته بعباده، وحكمته العظيمة وعلمه المحيط - التي قلما نتذكرها- أن خلق لنا من أنفسنا أزواجاً، وأودع في نفوسنا عواطفَ ومشاعرَ تجاه الطرف الآخر، وجعل في تلك الصلةِ سكناً للنفس والأعصاب، وراحةً للجسم والقلب، واستقراراً للحياة والمعاش، وأنساً للأرواح والضمائر، واطمئناناً للرجل والمرأة على السواء.

ويصور الباري -تبارك وتعالى- هذه العلاقة تصويراً بديعاً؛ لعلمه التام بأعماق القلب وأغوار الحس فيقول: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم:21]؛ فيدركون حكمة الخالق في خلقِ كلٍ من الجنسين على نحو يجعلُه موافقاً للآخر، ملبياً لحاجته الفطرية؛ النفسية والعقلية والجسدية؛ فيجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار, ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة؛ لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي خلقه الله -تعالى- ملبياً لرغائب كل منهما في الآخر؛ فلا تجد بين فردين من الناس في الغالب مثل ما بين الزوجين من المودة والرحمة والائتلاف والامتزاج، الذي ينشئُ في النهاية حياةً جديدةً تتمثلُ في جيلٍ جديد.

أيها الإخوة: هذا لميثاق الغليظ, غير اللين الذي جعله الله بين الزوجين، وهو عقد الزواج، عقدٌ قد أوجب الله -سبحانه- احترامَه والقيامَ بمقتضياته، بل جعلَ اللهُ هذا الميثاقَ الغليظ يُحتمُ عليك أن تتحملَ بالمعروف تَعَثُر العشرةُ، وتعامل الزوجة بالإحسان، وإن تعذرت فقد جعل الله لكل من الزوجين مخرجاً وهو الطلاق, الذي قال الله -تعالى- عنه: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا)[النساء:130]؛ (مِنْ سَعَتِهِ)؛ أي: من فضله وإحسانه الواسع الشامل, فيغني الزوج بزوجة خيرٍ له منها، ويغني الزوجة من فضله وإن انقطع نصيبها من زوجها؛ فإن رزقها على المتكفل بأرزاق جميع الخلق، القائم بمصالحهم، ولعل الله أن يرزقها زوجاً خيرا منه, (وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا) أي: كثير الفضل واسع الرحمة، وصلت رحمته وإحسانه إلى حيث وصل إليه علمه.

أيها الإخوة: لقد كثرت حالات الطلاق في مجتمعنا كثرة توحي بخطرٍ يُهددُ كيان الأسرة ويورث تشرذمها؛ فقد هالني ما كشفه التقرير الشهري لوزارة العدل لشهر ربيع الثاني شهر 4 الماضي من هذا العام 1440هـ عن عدد حالات الطلاق المسجلة في المحاكم, مقابل عدد العقود؛ فقد تم تسجيل 12515 حالة زواج في 13 منطقة بالمملكة، مقابل تسجيل 4957 حالة طلاق في نفس الشهر للسعوديين والمقيمين!، أي: قرابة سبع حالات طلاق في الساعة الواحدة, غير ما يوجد في المحاكم من دعاوى طلب فسخ نكاح، وطلب خلعٍ وإثباته.

أيها الإخوة: إن هذه الأرقام الكبيرة لحالات الطلاق منذرة بخطر كبير في مجتمعنا، نحن لا نطلب المستحيل ونقول: يجب أن ينجح ويستمر كل زواج؛ فلم يكن ذلك في العصور المفضلة, لكن يجب علينا أن ندقَ ناقوسَ الخطرِ ونشعرَ بالمشكلةِ بعد اطلاعنا على هذه الأعداد والنسب المخيفة، وعلينا أن نتلمس أسباب هذه المشكلة وأن نعالجها, ويجب أن يهب المجتمعُ بكل مؤسساته وأفراده للعلاج كل فيما يخصه.

وسأذكر بعضَ الأسباب:

أولها: سوء اختيار الزوجين أحدهما للآخر؛ إذ قد يقدم أحدهما على الزواج وهو لا يعرف عن شريكه شيئاً لا في الدين ولا في الخلق، فإذا تكشفت الأحوال بعد الزواج أراد التخلص من قرينه الذي لا يناسبه, ولذلك شرع الله التحري قبل الإقدام على الزواج.

ومن أسباب الطلاق: ضعف علم الزوجين بالحكمة من الزواج، وما يترتب على عقده الذي سماه الله -تعالى- بالميثاق الغليظ, من الحقوق والواجبات، وعلاجُ ذلك أن يتعرف كل واحد من الزوجين على واجباتِ وحقوقِ كل طرف.

وعلى الجمعيات الأهلية وجهات الدعوة والتوعية والخطباء في كل بلد أن يعقدوا الدورات والندوات للمقبلين والمقبلات على الزواج، بل والمتزوجين كذلك؛ فالمجتمع بأمس الحاجة لذلك، وليت جهات التوعية والتعليم تعطي هذا المطلب الشرعي والاجتماعي ما تعطيه لدورات الحاسب الآلي واللغة الانجليزية من الاهتمام وتكثيف العمل، وعلى أهل العلم بذل العلم بذلك بكل وسيلة متاحة, وعلى أهل المال بذل أموالهم والإنفاق على هذه المناشط العلمية ففيها خير كثير, بل لو أُوقفت عليها أوقافٌ خاصةٌ؛ لكانَ ذلك من خيرِ سبلِ الأوقاف, وليبشر ذلك المتصدق والموقف بالأجر العظيم المترتب على قيام أسرة سعيدة في المجتمع، وما يترتب على قيامها من الخير والصلاح والذرية الصالحة التي تبني المجتمع ثم الأمة.

ومن أسبابه أيضاً: اندفاع بعض الرجال إلى التعدد وهو لا يستطيع العدل، وبعد زواجه الثاني قد يُطلق الأولى لاستحواذ الثانية عليه، أو يطلق الثانية لعدم صبره على أذى الأولى له، أو لرحمته بها، أو لضغط أولاده عليه؛ فمن لم يعلم من نفسه القدرة على التعامل مع زوجتين، وما في التعدد من مشكلات فعليه أن يصبر على زوجه؛ فإنه خير له وللزوجات.

ومن أسباب الطلاق أيضاً: سوء العشرة بين الزوجين, وعدم قيام أحدهما بما أوجب الله عليه للآخر؛ فقد أمر الله بحسن العشرة فقال: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[النساء:19], وقال: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[البقرة:229], وعلى الزوجين أن يتعرفا على طرق المعاشرة الحسنة قبل الزواج؛ ففي ذلك سد لبابٍ كبيرٍ من الخلاف بإذن الله -تعالى-.

ومن أسباب الطلاق أيضاً: اختلاف الزوجين بسبب ما تأخذه المرأة من راتب على عملها؛ فمن الرجال من يكون طماعاً أشراً، يضيق على المرأة، ويطالبها بمالها، ويهددها بمنعها من العمل، أو الطلاق، وإن كان عملها مشروطاً عليه بالميثاق الغليظ, وينسى قَولَ المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ", وفي رواية: "الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا"(رواه الترمذي وأبو داود والطبراني وحسنه الألباني، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه), وينسى قَولَه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ أَحَقَّ الشَّرْطِ أَنْ يُوفَى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوج"(رواه البخاري ومسلم وللفظ لمسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ), وربما منع النفقة عن زوجته لأنها غنية بما تكسب من عملها!.

ومن النساء من تكون بخيلة بمالها, مانعة له عن زوجها، ويراها تبذر المال فيما يحل ويحرم دون أن يصيبه شيء منه، وتبخل عليه بالنقير والقطمير؛ فكم من بيت تقوض بسبب تكالب الزوجين على الدنيا والأثرة!, والواجب على الرجال أن يستغنوا بما أعطاهم الله؛ كما قال -سبحانه-: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[الطلاق:7], وعليهم ألا ينظروا إلى ما في أيدي النساء، وإن أخذوا منهن شيئاً على سبيل القرض، أو الشراكة؛ فعليهم كتابة ذلك وحفظه وإحصائه, والتنبه مصيدة أخذ القليل؛ فالقليل إلى القليل يصبح كثيراً مع السنين.

وعلى المرأة أن تكون كريمة في مالها، ولا يكن المال أحبَّ إليها من عشرتها الحسنة مع زوجها، وسبباً للخصومة, وربما الفراق فتتقوض الأسرة ويتشرد الأولاد, وليكن حال الجميع التعفف عما في يد الآخر والكرم بما يملك؛ فمتى صارت الأمور كذلك صلحت الحال، وعاش الزوجان وذريتهما بعيشة هنية رضية, (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:2،3].

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب وخطيئة, فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

أما بعد:

أيها الإخوة: ليست هذه الأسباب الوحيدة في الطلاق؛ فهناك أسباب أخرى كثيرة, لكن بعد التأمل وجدت أن كل سبب يدخل في هذه، أسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا لكل خير ويصلح أحوال الأسر، وأن ينزل عليهم السكينة والمحبة والوئام.

أحبتي: الزواج المبني على الاختيار السليم والتعامل الكريم الموافق للأصول الشرعية, يورث حياة رضية هنية، تتجلى فيها حكمة الله -تعالى-؛ فقد جعلها آيةً من آياته الدالةِ عليه، وقدمها على آياته في خلق السماوات والأرض وغيرها من الآيات العظام التي نظنها أكبر من آية الزواج؛ وذلك لعظمها ودقة فضله فيها؛ فهو القائل: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم:21]؛ نعم -والله- إنها آية عظيمة؛ إذ كيف لامرأة غريبة أن تأنس برجل غريب عنها وتفضي إليه, ويفضي إليها بما لا يفضيانه لوالديهما, لدرجة أن جعل الله مضجعهما واحداً، وجعل الهجر فيه علاجاً للخلاف في أوله, وأحل الله لكل واحد منهما من الآخر ما حرمه على كل البشر، وربما أنها لم تسمع بهذا الزوج في حياتها, ولم يسمع بها قبل الزواج ناهيك أن تراه، أو يرها, وصدق الله -تعالى- فقد قال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)؛ يُعملون أفكارهم ويتدبرون آيات ربهم.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ ‏-صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي