آفة الغرور

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. حقيقة الغرور .
  2. من أصناف أهل الغرور .
  3. أسباب الغرور .

اقتباس

إن الخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل, فما لا يبعث على العمل فهو تمنٍّ وغرور, وقد كان المسلمون في القرن الأول يواظبون على العبادات، ويبالغون في التقوى والحذر من الشهوات، يسارعون...

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُن إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا الناسُ اتقُوا رَبكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَث مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتقُوا اللهَ الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِن اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

أيها الناس: استمعوا إلى هذا النداء الرباني, والاستفهام الذي يفيض بالعتاب لهذا الإنسان الذي يتلقى من ربه فيوض النعمة، ولكنه لا يعرف للنعمة حقها، ولا يعرف لربه قدره، (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)[الانفطار: 6]؛ أي: "ما الذي خدعك حتى عصيت الله؟! ما الذي غرّك حتى تجاوزتَ حدود ربك؟! ما الذي أذهلَك حتى انتهكتَ حرمات الله؟!, "أتهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟!".

والغرور: هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان؛ فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور.

عباد الله: وإن من المؤسف أن تجد كثيرا من الناس يظنون بأنفسهم خيرا؛ ومن هؤلاء:

من اغتر من أهل العلم، ممن أحكم العلوم الشرعية وتعمق فيها، ولكن أهمل تفقد الجوارح، وحفظها من المعاصي، وإلزامها الطاعات، فاغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان، ومنهم من أحكم العلم والعمل فواظبوا على الطاعات، وتركوا المعاصي، لكنهم لم يتفقدوا قلوبهم؛ ليطهروها من الصفات المذمومة؛ كالكبر والحسد، والرياء، وطلب الرياسة، والعلو، وطلب الشهرة، فهؤلاء زينوا ظواهرهم وأهملوا بواطنهم، ونسوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُم" (أخرجه مسلم).

ومن ذلك اغترار بعض العباد؛ حيث قادهم اغترارهم إلى إهمال الفرائض والانشغال بالفضائل والنوافل, ومنهم من غلبت عليه الوسوسة في نية الصلاة؛ فلا يدعه الشيطان يعقد نية صحيحة؛ بل يشوش عليه حتى تفوته الجماعة, ومنهم من يصوم ولا يحفظ لسانه عن الغيبة، ولا خاطره عن الرياء، ولا بطنه عن الحرام, ومنهم من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وينسى نفسه, ومنهم من أظهر الزهد في المال، وقنع من اللباس بالدون، وهو مع ذلك راغب في الرياسة والجاه إما بالعلم أو بالوعظ ونحوهما.

ومن أصناف المغروين: العصاة من المؤمنين؛ حيث يرددون بقولهم: إن الله كريم، وإنا لنرجو عفوه، واتكالهم على ذلك, وربما كان مستند رجائهم التمسك بصلاح الآباء ومكانتهم، فيتركون الطاعات ويخوضون في الفسق والفجور اعتماداً على ذلك، وذلك نهاية الاغترار بالله -تعالى-، فإن الإسلام إيمان وأعمال, (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى)[النجم: 39-41].

ولا شك ذلك يورث التمادي في الدنيا، والخيبة في الآخرة؛ قال يحيى بن معاذ: "من أعظم الاغترار: التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله -تعالى- بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني على الله -عز وجل- مع الإفراط".

ومن أبرز أصناف أهل الغرور: غرور الكفار بالله؛ ومن ذلك قول بعضهم أنه لو كان هناك بعث بعد الموت؛ فنحن أوفر حظاً، وأسعد حالاً من غيرنا, كما قال -سبحانه- عن الكافر الذي يحاور صاحبه المؤمن قائلاً: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)[الكهف:34-36].

عباد الله: ولو تأملنا بعد استعراض أصناف المغرورين في الأسباب التي دعتهم إليه لوجدنا أنها كما يلي:

بالنسبة لاغترار الكفار: أنهم نظروا إلى نعم الله عليهم في الدنيا؛ فقاسوا عليها نعيم الآخرة، ونظروا إلى تأخير العذاب عنهم في الدنيا؛ فقاسوا عليه بأنه لا يصيبهم عذاب الآخرة, كما قال -سبحانه-: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)[سبأ: 35]؛ فنظروا إلى المؤمنين وهم فقراء فيحتقرونهم, فيقولون: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)[الأحقاف: 11].

وأما الأسباب المتعلقة بعصاة المؤمنين: ظنهم أن ما بهم من النعيم؛ إنما هو على سبيل إكرام الله ومحبته لهم؛ كما قال -سبحانه-: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)[الفجر: 15- 16].

وما علم هذا الجاهل المغرور أن الدنيا ليست مقياساً لكرامة أحد وقربه من الله, وإنما هو ابتلاء من الله، فليس الإعطاء دليل كرامة من الله، ولا المنع دليل إهانة، قال -سبحانه-: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ)[المؤمنون: 55، 56], ولكن الكريم من أكرمه الله بطاعته، والمهان من أهانه الله بمعصيته غنياً كان أو فقيراً, والله يقول: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورً)[الإسراء: 20].

وأعظم الناس غروراً من إذا مسه الله برحمة ونعمة وفضل, قال: "أنا جدير به ومستحق له"، وظن أنه أهل لتلك النعم مع كفره بالله، فاستكبر بها، وصد بها عن سبيل الله، ويزعم أنه لو رجع إلى ربه بعد الموت سينال من الكرامة مثل ما نال في الدنيا مع كفره، وهذا من أعظم الجرأة والقول على الله بلا علم، فلكفره وكذبه هذا توعده الله بالعذاب الشديد يوم القيامة؛ كما قال -سبحانه-: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ)[فصلت:50]، وقال –سبحانه-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)[الأنعام:44].

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هود:102].

وأما يتعلق بالغالين من المؤمنين؛ فالانشغال بالدنيا تارة، ومكر الشياطين تارة أخرى؛ والغفلة عن التحذير الرباني من ذلك؛ حيث قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[فاطر: 5]؛ والشياطين قاعدة في طريق أهل الإيمان تدعوا من عجزت إفساده إلى الانشغال بالمباحات عن الواجبات.

ومنهم من غلبه البخل؛ فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط، ثم إنهم يخرجون من المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه، ويطلبون من الفقراء من يخدمهم ليعطوه إياه، والله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)[البقرة: 267].

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم..

أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.

عباد الله: ومن الأسباب التي يشترك فيه جميع ما ذكر من الأصناف: الجهل؛ فجعل صاحب المال يظن أن ماله لن يبيد، وجعل الكفار والعصاة يظنون أن الاصطفاء من الله في الدنيا علامة الاصطفاء في الآخرة، وجعل بعض الغالين من المؤمنين يقدمون فضائل الأعمال على الواجبات.

ومن الأسباب -أيضا-: طول الأمل؛ حيث يجعل العبد يقدم على المعاصي، ويؤخر التوبة لطول الأمل.

فيا عبدالله: أقصر الأمل وإن لم تستطع قصر الأمل فاعمل عمل قصير الأمل، ولا تُمسِ حتى تنظر في يومك وتحاسب نفسك؛ فإن رأيت زلة فامحها بالتوبة الصادقة النصوح والاستغفار والباقيات الصالحات، وإذا أصبحت فعليك بتلاوة كلام الله والباقيات الصالحات، وتأمل ما مضى في ليلك ونهارك واحذر التسويف؛ فإنه أكبر جنود إبليس.

مثل لنفسك أيها المغرور *** يوم القيامة والسماء تمور

إذ كورت شمس النهار وأدنيت *** حتى على رأس العباد تسير

وإذا النجوم تساقطت وتناثرت*** وتبدلت بعد الضياء كدور

وإذا البحار تفجرت من خوفها*** ورأيتها مثل الجحيم تفور

وإذا الجبال تقلعت بأصولها*** فرأيتها مثل السحاب تسير

وإذا الجنين بأمه متعلق *** يخشى القصاص وقلبه مذعور

هذا بلا ذنب يخاف جنينه *** كيف المصر على الذنوب دهور؟!

فلنحذر -إخواني- من خداع الشياطين، والغرور بالدنيا وشهواتها، وتمتع الكفار بنعيمها؛ فمتاع الدنيا قليل؛ كما قال -سبحانه-: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ)[آل عمران: 196-198].

وصلوا وسلموا على السراج المنير والبشير النذير؛ حيث أمركم الله بذلك؛ في كتابه العزيز؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي